الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَإنْ تابُوا وأقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ فَإخْوانُكم في الدِّينِ ونُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ﴿وإنْ نَكَثُوا أيْمانَهم مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وطَعَنُوا في دِينِكم فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ إنَّهم لا أيْمانَ لَهم لَعَلَّهم يَنْتَهُونَ﴾ . اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ حالَ مَن لا يَرْقُبُ في اللَّهِ إلًّا ولا ذِمَّةً، ويَنْقُضُ العَهْدَ ويَنْطَوِي عَلى النِّفاقِ ويَتَعَدّى ما حُدَّ لَهُ بَيَّنَ مِن بَعْدُ أنَّهم إنْ أقامُوا الصَّلاةَ وآتَوُا الزَّكاةَ كَيْفَ حُكْمُهم، فَجَمَعَ ذَلِكَ الشَّيْءَ بِقَوْلِهِ: ﴿فَإخْوانُكم في الدِّينِ﴾ وهو يُفِيدُ جُمْلَةَ أحْكامِ الإيمانِ، ولَوْ شُرِحَ لَطالَ. فَإنْ قِيلَ: المُعَلَّقُ عَلى الشَّيْءِ بِكَلِمَةِ ”إنْ“ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَهَذا يَقْتَضِي أنَّهُ مَتى لَمْ تُوجَدُ هَذِهِ الثَّلاثَةُ لا يَحْصُلُ الأُخُوَّةُ في الدِّينِ، وهو مُشْكِلٌ؛ لِأنَّهُ رُبَّما كانَ فَقِيرًا، أوْ إنْ كانَ غَنِيًّا، لَكِنْ قَبْلَ انْقِضاءِ الحَوْلِ لا تَلْزَمُهُ الزَّكاةُ. قُلْنا: قَدْ بَيَّنّا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ﴾ [النِّساءِ: ٣١] أنَّ المُعَلَّقَ عَلى الشَّيْءِ بِكَلِمَةِ ”إنْ“ لا يَلْزَمُ مِن عَدَمِهِ عَدَمُ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَزالَ هَذا السُّؤالُ، ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: المُعَلَّقُ عَلى (p-١٨٦)الشَّيْءِ بِكَلِمَةِ ”إنْ“ عَدَمٌ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، فَهَهُنا قالَ: المُؤاخاةُ بِالإسْلامِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ مَوْقُوفَةٌ عَلى فِعْلِ الصَّلاةِ والزَّكاةِ جَمِيعًا، فَإنَّ اللَّهَ تَعالى شَرَطَها في إثْباتِ المُؤاخاةِ، ومَن لَمْ يَكُنْ أهْلًا لِوُجُوبِ الزَّكاةِ عَلَيْهِ وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يُقِرَّ بِحُكْمِها، فَإذا أقَرَّ بِهَذا الحُكْمِ دَخَلَ في الشَّرْطِ الَّذِي بِهِ تَجِبُ الأُخُوَّةُ، وكانَ ابْنُ مَسْعُودٍ يَقُولُ: رَحِمَ اللَّهُ أبا بَكْرٍ ما أفْقَهَهُ في الدِّينِ، أرادَ بِهِ ما ذَكَرَهُ أبُو بَكْرٍ في حَقِّ مانِعِي الزَّكاةِ، وهو قَوْلُهُ: واللَّهِ لا أُفَرِّقُ بَيْنَ شَيْئَيْنِ جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُما، بَقِيَ في قَوْلِهِ: ﴿فَإخْوانُكم في الدِّينِ﴾ بَحْثانِ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ: ﴿فَإخْوانُكُمْ﴾ قالَ الفَرّاءُ: مَعْناهُ فَهم إخْوانُكم بِإضْمارِ المُبْتَدَأِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَإنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهم فَإخْوانُكُمْ﴾ [الأحْزابِ: ٥] أيْ فَهم إخْوانُكم. الثّانِي: قالَ أبُو حاتِمٍ: قالَ أهْلُ البَصْرَةِ أجْمَعُونَ: الإخْوَةُ في النَّسَبِ والإخْوانُ في الصَّداقَةِ، وهَذا غَلَطٌ؛ يُقالُ لِلْأصْدِقاءِ وغَيْرِ الأصْدِقاءِ إخْوَةٌ وإخْوانٌ، قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ﴾ [الحُجُراتِ: ١٠] ولَمْ يَعْنِ النَّسَبَ، وقالَ تَعالى: ﴿أوْ بُيُوتِ إخْوانِكُمْ﴾ [النُّورِ: ٦١] وهَذا في النَّسَبِ، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: حَرَّمَتْ هَذِهِ الآيَةُ دِماءَ أهْلِ القِبْلَةِ. ثُمَّ قالَ: ﴿ونُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: وهَذا اعْتِراضٌ وقَعَ بَيْنَ الكَلامَيْنِ، والمَقْصُودُ الحَثُّ والتَّحْرِيضُ عَلى تَأمُّلِ ما فُصِّلَ مِن أحْكامِ المُشْرِكِينَ المُعاهِدِينَ، وعَلى المُحافَظَةِ عَلَيْها. ثُمَّ قالَ: ﴿وإنْ نَكَثُوا أيْمانَهم مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وطَعَنُوا في دِينِكُمْ﴾ يُقالُ: نَكَثَ فُلانٌ عَهْدَهُ إذا نَقَضَهُ بَعْدَ إحْكامِهِ كَما يُنْكَثُ خَيْطُ الصُّوفِ بَعْدَ إبْرامِهِ، ومِنهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أنْكاثًا﴾ [النَّحْلِ: ٩٢] والأيْمانُ جَمْعُ يَمِينٍ بِمَعْنى الحَلِفِ والقَسَمِ، وقِيلَ لِلْحَلِفِ يَمِينٌ، وهو اسْمُ اليَدِ؛ لِأنَّهم كانُوا يَبْسُطُونَ أيْمانَهم إذا حَلَفُوا أوْ تَحالَفُوا، وقِيلَ: سُمِّيَ القَسَمُ يَمِينًا لِيَمِينِ البِرِّ فِيهِ، فَقَوْلُهُ: ﴿وإنْ نَكَثُوا أيْمانَهُمْ﴾ أيْ نَقَضُوا عُهُودَهم، وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ: إنَّ المُرادَ نَكْثُهم لِعَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . والثّانِي: أنَّ المُرادَ حَمْلُ العَهْدِ عَلى الإسْلامِ بَعْدَ الإيمانِ، فَيَكُونُ المُرادُ رِدَّتَهم بَعْدَ الإيمانِ، ولِذَلِكَ قَرَأ بَعْضُهم: ”وإنْ نَكَثُوا إيمانَهم مِن بَعْدِ عَهْدِهِمْ“ والأوَّلُ أوْلى لِلْقِراءَةِ المَشْهُورَةِ؛ ولِأنَّ الآيَةَ ورَدَتْ في ناقِضِي العَهْدِ لِأنَّهُ تَعالى صَنَّفَهم صِنْفَيْنِ، فَإذا مَيَّزَ مِنهم مَن تابَ لَمْ يَبْقَ إلّا مَن أقامَ عَلى نَقْضِ العَهْدِ. وقَوْلُهُ: ﴿وطَعَنُوا في دِينِكُمْ﴾ يُقالُ: طَعَنَهُ بِالرُّمْحِ يَطْعُنُهُ، وطَعَنَ بِالقَوْلِ السَّيِّئِ يَطْعُنُ، قالَ اللَّيْثُ: وبَعْضُهم يَقُولُ: يَطْعُنُ بِالرُّمْحِ، ويَطْعَنُ بِالقَوْلِ فَيُفَرِّقُ بَيْنَهُما، والمَعْنى أنَّهم عابُوا دِينَكم، وقَدَحُوا فِيهِ. ثُمَّ قالَ: ﴿فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ﴾ أيْ مَتى فَعَلُوا ذَلِكَ فافْعَلُوا هَذا، وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ نافِعٌ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو ”أيِمَّةَ الكُفْرِ“ بِهَمْزَةٍ واحِدَةٍ غَيْرِ مَمْدُودَةٍ وتَلْيِينِ الثّانِيَةِ، والباقُونَ بِهَمْزَتَيْنِ عَلى التَّحْقِيقِ، قالَ الزَّجّاجُ: الأصْلُ في الأئِمَّةِ أأْمِمَةٌ؛ لِأنَّها جَمْعُ إمامٍ، مِثْلَ: مِثالٍ وأمْثِلَةٍ، لَكِنَّ المِيمَيْنِ إذا اجْتَمَعَتا أُدْغِمَتِ الأُولى في الثّانِيَةِ، وأُلْقِيَتْ حَرَكَتُها عَلى الهَمْزَةِ، فَصارَتْ أئِمَّةً، فَأُبْدِلَتْ مِنَ المَكْسُورَةِ الياءُ لِكَراهَةِ اجْتِماعِ الهَمْزَتَيْنِ في كَلِمَةٍ واحِدَةٍ، هَذا هو الِاخْتِيارُ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: لَفْظَةُ ”أئِمَّةٍ“ هَمْزَةٌ بَعْدَها هَمْزَةٌ بَيْنَ بَيْنَ، والمُرادُ بَيْنَ مَخْرَجِ الهَمْزَةِ والياءِ. أمّا بِتَحْقِيقِ الهَمْزَتَيْنِ فَقِراءَةٌ مَشْهُورَةٌ، وإنْ لَمْ تَكُنْ مَقْبُولَةً عِنْدَ البَصْرِيِّينَ، وأمّا التَّصْرِيحُ بِالياءِ فَلَيْسَ بِقِراءَةٍ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قِراءَةً، ومَن صَرَّحَ بِها فَهو لاحِنٌ مُحَرِّفٌ. (p-١٨٧)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَوْلُهُ: ﴿فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ﴾ مَعْناهُ قاتِلُوا الكُفّارَ بِأسْرِهِمْ، إلّا أنَّهُ تَعالى خَصَّ الأئِمَّةَ والسّادَةَ مِنهم بِالذِّكْرِ؛ لِأنَّهم هُمُ الَّذِينَ يُحَرِّضُونَ الأتْباعَ عَلى هَذِهِ الأعْمالِ الباطِلَةِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: قالَ الزَّجّاجُ: هَذِهِ الآيَةُ تُوجِبُ قَتْلَ الذِّمِّيِّ إذا أظْهَرَ الطَّعْنَ في الإسْلامِ؛ لِأنَّ عَهْدَهُ مَشْرُوطٌ بِأنْ لا يَطْعَنُ فَإنْ طَعَنَ فَقَدْ نَكَثَ ونَقَضَ عَهْدَهم. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّهم لا أيْمانَ لَهُمْ﴾ قَرَأ ابْنُ عامِرٍ ”لا إيمانَ لَهم“ بِكَسْرِ الألِفِ ولَها وجْهانِ: أحَدُهُما: لا أمانَ لَهم، أيْ لا تُؤَمِّنُوهم، فَيَكُونُ مَصْدَرًا مِنَ الإيمانِ الَّذِي هو ضِدُّ الإخافَةِ. والثّانِي: أنَّهم كَفَرَةٌ لا إيمانَ لَهم، أيْ لا تَصْدِيقَ ولا دِينَ لَهم، والباقُونَ بِفَتْحِ الهَمْزَةِ وهو جَمْعُ يَمِينٍ، ومَعْناهُ لا أيْمانَ لَهم عَلى الحَقِيقَةِ، وأيْمانُهم لَيْسَتْ بِأيْمانٍ، وبِهِ تَمَسَّكَ أبُو حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ في أنَّ يَمِينَ الكافِرِ لا يَكُونُ يَمِينًا، وعِنْدَ الشّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَمِينُهم يَمِينٌ، ومَعْنى هَذِهِ الآيَةِ عِنْدَهُ: أنَّهم لَمّا لَمْ يَفُوا بِها صارَتْ أيْمانُهم كَأنَّها لَيْسَتْ بِأيْمانٍ، والدَّلِيلُ عَلى أنَّ أيْمانَهم لَيْسَتْ بِأيْمانٍ أنَّهُ تَعالى وصَفَها بِالنَّكْثِ في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ نَكَثُوا أيْمانَهُمْ﴾ ولَوْ لَمْ يَكُنْ مُنْعَقِدًا لَما صَحَّ وصْفُها بِالنَّكْثِ. ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿لَعَلَّهم يَنْتَهُونَ﴾ وهو مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فَقاتِلُوا أئِمَّةَ الكُفْرِ﴾ أيْ لِيَكُنْ غَرَضُكم في مُقاتَلَتِهِمْ بَعْدَما وُجِدَ مِنَ العَظائِمِ أنْ تَكُونَ المُقاتَلَةُ سَبَبًا في انْتِهائِهِمْ عَمّا هم عَلَيْهِ مِنَ الكُفْرِ، وهَذا مِن غايَةِ كَرَمِ اللَّهِ وفَضْلِهِ عَلى الإحْسانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب