الباحث القرآني

وقوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ ... الآية نزلَتْ في قصَّة عمرو بن الحَضْرَمِيِّ، وذلك أنّ رسول الله ﷺ بَعَثَ سَرِيَّةً علَيْها عبد اللَّه بن جَحْشٍ الأسَدِيُّ مَقْدَمَهُ من بَدْر الأولى، فلقوا عمرو بن الحَضْرَمِيِّ، ومعه عثمانُ بنُ عبد اللَّهِ بْنِ المُغِيرَةِ، وأخوه نَوْفَلٌ المخزوميَّان، والحَكَمُ بْنُ كَيْسَانَ في آخر يومٍ من رَجَبٍ على ما قاله ابْنُ إِسْحَاق [[أخرجه الطبري في «التفسير» (2/ 360) برقم (4085) ، وابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 289) .]] ، وقالوا: إِن تركْنَاهم اليَوْمَ، دخَلُوا الحَرَم، فأزمعوا قتالَهُم، فرمى واقدُ بْنُ عبدِ اللَّهِ [[واقد بن عبد الله بن عبد مناف بن عرين بن ثعلبة بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تيمم التميميّ الحنظليّ اليربوعي، حليف بني عديّ بن كعب. قال موسى بن عقبة في «المغازي» : واقد، ويقال: وقدان، شهد بدرا، وكذا ذكره ابن إسحاق فيمن شهد بدرا. ينظر: «الإصابة» (6/ 465) .]] عمْرَو بْنَ الحَضْرَمِيِّ بسهْمٍ، فقتله، وأَسَرَ عثمانَ بْنَ عبدِ اللَّهِ، والحَكَمَ، وفَرَّ نوفَلٌ، فأعجزهم، واستسهل المسْلمون هذا في الشَّهْر الحرام خوف فوتهم، فقالَتْ قريشٌ: محمَّد قد استحلَّ الأشهر الحُرُم، وعَيَّروا بذلك، وتوقَّف النبيّ ﷺ وقَالَ: «مَا أَمَرْتُكُمْ بِقِتَالٍ فِي الأَشْهُرِ الحُرُمِ» فنزلت هذه الآية، وقِتالٍ بدلُ اشتمالٍ عند سيبوَيْه. وقال الفَرَّاء: هو مخفوضٌ بتقدير «عَنْ» وقرىء [[وهي في مصحف عبد الله بن مسعود، ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 290) ، وزاد أبو حيان في «البحر» (2/ 154) نسبتها إلى ابن عباس، والربيع، والأعمش.]] بِهِ، والشهْرُ في الآية اسم الجنس، وكانتِ العربُ قد جعل اللَّه لها الشهْرَ الحرامَ قِوَاماً تعتدلُ عنده، فكانت لا تسفكُ دماً، ولا تغيِّر في الأشهر الحرم، وهي ذُو القَعْدة، وذو الحجَّة، والمُحَرَّم ورَجَبٌ، وروى جابر بن عبد الله، أنّ النبيّ ﷺ لَمْ يَكُنْ يَغْزُو فِيهَا إِلاَّ أَنْ يغزى، فذلكَ قولُهُ تعالى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ: مبتدأٌ مقطوعٌ ممَّا قبله، والخبرُ «أَكْبَرُ» ، ومعنى الآيةِ على قول الجمهورِ: إِنكم يَا كُفَّار قُرَيْشٍ تَسْتَعْظِمُون علَيْنا القتالَ في الشَّهْرِ الحَرَام، وما تفْعَلُون أنْتُمْ من الصَّدِّ عن سبيلِ اللَّهِ لِمَنْ أراد الإِسلام، وكُفْرِكم بِاللَّه، وإِخراجِكُم أهْلَ المسْجد عنْه كما فعلتم برَسُولِ الله ﷺ وأصحابِهِ، أَكْبَرُ جُرْماً عند اللَّه. قال الزُّهْرِيُّ ومجاهدٌ وغيرهما: قوله تعالى: قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ منسوخ. ص: وسبيل الله: دينه [[أخرجه الطبري (2/ 362- 363- 365) برقم (4088) ، عن مجاهد، وبرقم (4089) ، (4101) عن الزهري، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 290) ، عن الزهري، ومجاهد. وذكره أيضا السيوطي في «الدر المنثور» (1/ 449) وعزاه للفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، عن مجاهد. وفي (1/ 450) عزاه لعبد الرزاق، وأبي داود في «ناسخه» ، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن الزهري.]] ، والْمَسْجِدِ: قراءة الجمهور بالخَفْض، قال المبرِّد، وتبعه ابن عطية [[«المحرر الوجيز» (1/ 290) .]] وغيره: هو معطوفٌ على سَبِيلِ اللَّهِ وردَّ بأنه حينئذٍ يكون متعلِّقاً ب «صَدّ» ، أي: وصَدّ عن سبيل اللَّهِ، وعن المسجدِ الحرامِ، فيلزم الفَصْلُ بين المصدر، وهو «صَدّ» وبين معموله، وهو «المسجد» بأجنبيٍّ، وهو: «وكُفْرٌ بِهِ» ، ولا يجوز. وقيل: معطوفٌ على ضمير «بِهِ» ، أي: وكُفْرٌ بِهِ، وَبِالْمَسُجِدِ ورُدَّ بأن فيه عطفاً على الضمير المجرور من غير إعادة الخافض ولا يجوز عند جمهور البَصْرِيِّين، وأجازه الكوفيُّون، ويونُسُ [[يونس بن حبيب الضبّي بالولاء، البصريّ، أبو عبد الرحمن. قال السّيرافيّ: بارع في النّحو، من أصحاب أبي عمرو بن العلاء، سمع من العرب، وروى عن سيبويه فأكثر، وله قياس في النّحو، ومذاهب يتفرّد بها. سمع منه الكسائيّ والفرّاء. وكانت له حلقة ب «البصرة» ينتابها أهل العلم وطلاب الأدب وفصحاء الأعراب والبادية. مولده سنة تسعين، ومات سنة ثنتين وثمانين ومائة. ينظر: «البغية» (2/ 365) .]] ، وأبو الحَسَنِ والشَّلَوْبِينُ [[عمر بن محمد بن عمر بن عبد الله، الأستاذ أبو عليّ الإشبيليّ، الأزديّ، المعروف بالشّلوبين، ومعناه بلغة الأندلس: «الأبيض الأشقر» . -- قال ابن الزّبير: كان إمام عصره في العربية بلا مدافع، آخر أئمة هذا الشأن بالمشرق والمغرب، ذا معرفة بنقد الشّعر وغيره، بارعا في التعليم، ناصحا، أبقى الله به ما بأيدي أهل المغرب من العربيّة. روى عن السّهيليّ، وابن بشكوال، وغيرهما، وأجاز له السّلفيّ وغيره، وأخذ عنه ابن أبي الأحوص، وابن فرتون وجماعة. وصنف تعليقا على كتاب سيبويه، وشرحين على الجزوليّة، وله كتاب في النّحو سمّاه «التوطئة» . مولده سنة ثنتين وستين وخمسمائة، ومات في العشر الأخير من صفر سنة خمس وأربعين وستمائة. ينظر: «البغية» (2/ 224- 225) .]] ، والمختار جوازه لكثرته سماعا ومنه قراءة حمزة: تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النساء: 1] أي: وبالأرحام، وتأويلها على غيره بعيدٌ يُخْرِجُ الكلام عن فصاحته. انتهى. وقوله تعالى: وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ: المعنى عند جمهور المفسِّرين: والفتنةُ التي كُنْتُمْ تفتنون المُسْلمين عن دينهم حتى يهلكوا أشدُّ اجتراما من قَتْلكم في الشَّهْر الحرام، وقيل: المعنى والفِتْنَة أشَدُّ من أن لو قتلوا ذلك المَفْتُون. وقوله تعالى: وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا هو ابتداءُ خبرٍ من اللَّه تعالى، وتحذيرٌ منه للمؤمنين. وقوله تعالى: وَمَنْ يَرْتَدِدْ، أي: يرجع عن الإِسلام إِلى الكفر عياذاً باللَّه، قالَتْ طائفةٌ من العلماء: يُستَتَابُ المرتدُّ ثلاثةَ أيامٍ، فإِن تاب، وإِلا قتل، وبه قال مالك، وأحمد [[أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني أبو عبد الله المروزي ثم البغدادي. ولد سنة 164، أخذ الفقه عن الشافعي، وسلك مسلكه، صنف المسند. قال إبراهيم الحربي: كأن الله جمع له علم الأولين والآخرين. توفي سنة 241. ينظر: «طبقات ابن قاضي شهبة» (1/ 56) ، و «حلية الأولياء» (9/ 161) ، و «تذكرة الحفاظ» (2/ 431) .]] ، وأصحابُ الرَّأيِ، والشَّافعيُّ في أحد قولَيْه، وفي قولٍ له: يُقْتَلُ دون استتابةٍ، وحبط العمل، إِذا انفسد في آخره، فبطل، وميراث المرتدِّ [[إذا قتل المرتد أو مات على ردته، فقد اختلف الفقهاء في إرث ورثته المسلمين لماله على الوجه الآتي: ذهب الشافعي، وابن أبي ليلى، وأبو ثور، وأحمد بن حنبل، ومالك، وداود بن علي، وعلقمة، وقتادة إلى عدم إرث ورثته المسلمين من تركته. واختلف هؤلاء فيما بينهم، فذهب الشافعي، وابن أبي ليلى، وأبو ثور، وابن حنبل إلى أن جميع ماله يكون فيئا لبيت مال المسلمين، ووافقهم مالك على ذلك، إلا في حالة واحدة هي ما إذا قصد المورّث المرتد حرمان ورثته من ماله فيرثوه في تلك الحالة عنده. وذهب داود بن عليّ إلى أن ماله يكون لورثته الذين ارتد إليهم. وذهب علقمة، وقتادة إلى أن ماله ينتقل لأهل الدين الذين ارتد إليهم. وذهب الحنفية، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وسعيد بن المسيب، وعمر بن-- عبد العزيز، والحسن، وعطاء، وسفيان الثوري، وزفر إلى إرث ورثته المسلمين من تركته. وهؤلاء فريقان أيضا: ذهب علي بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن المسيب، وعمر بن عبد العزيز، والحسن وعطاء، والصاحبان من الحنفية إلى أن جميع ماله الذي كسبه في الإسلام وبعد ردته يكون موروثا لورثته المسلمين. وذهب الإمام أبو حنيفة، وسفيان الثوري، وزفر إلى أن الذي يورث هو كسب إسلامه دون كسب ردته فإنه يكون فيئا. استدل القائلون بعدم إرث الورثة المسلمين: أولا: بما رواه البراء بن عازب قال: مر بي خالي أبو بردة ومعه الراية، فقلت: إلى أين تذهب؟ فقال: أرسلني رسول الله ﷺ إلى رجل نكح امرأة أبيه أن أقتله وآخذ ماله. دلت الرواية على أن مال المرتد فيء وليس لورثته، فإن إرسال الرسول الرجل لمن فعل فعلا يخرجه عن الإسلام، وأمره بقتله- دليل على أنه ارتد بفعله. وثانيا: بما روى معاوية بن قرّة عن أبيه «أنّ النّبيّ ﷺ بعث جدّ معاوية إلى رجل عرّس بامرأة أبيه أن يضرب عنقه، ويخمّس ماله» وهذا يدل على أن مال ذلك الرجل كان مغنوما بالمحاربة، ولذلك أخذ منه الخمس. ونوقش الحديثان: بأن الرسول ﷺ إنما فعل ذلك لأن كلا من الرجلين، كان محاربا بسبب استحلاله لأمر محظور شرعا، فكان ماله مغنوما. ودليل ذلك: أن الراية إنما تعقد للمحاربة لا لغيرها. وإذا كان مغنوما، فلا حق لورثته والحالة هذه لكونه فيئا. واستدلوا ثانيا: بأن المرتد كافر بردته، والمسلم لا يرث الكافر. ونوقش بالفرق بين المرتد والكافر فإن ملك المرتد فيما كسبه قبل الردة كان صحيحا، فلم تجز غنيمته، إذ لا تغنم أموال المسلمين لصحة ملكهم له. وإن جاز غنيمة ما كسبه بعد الردة لمحاربته الله والرسول، فكان كالمربي في أمواله. وبهذا يتبين أن مال المرتد غير مال الكافر وكيف يكون مثله والمرتد غير مقر على ما انتقل إليه، ولا يحل التزوج بالمرتدة ولا أكل ذبيحتها ولا كذلك الكافر. واستدل القائلون بالإرث، وهم الحنفية: أولا: بقوله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ [الأنفال: 75] وجه الدلالة: أن صلة الرحم باقية بين المرتد وورثته، فتكون سببا في بقاء الميراث بينهما. ثانيا: بالآثار: فقد ورد عن كثير من الصحابة توريثهم الورثة المسلمين من المرتد روى زيد بن ثابت قال: بعثني أبو بكر عند رجوعه إلى أهل الردة أن أقسم أموالهم بين ورثتهم المسلمين. وروي مثله عن ابن مسعود، وإليه ذهب أكثر التابعين كسعيد بن المسيب، والحسن. وروي عن علي بن أبي طالب أنه أتي بالمستورد العجلي وقد ارتد، فعرض عليه الإسلام، فأبى أن يسلم، فضرب عنقه، وجعل ميراثه لورثته المسلمين. وروى ابن حزم من طريق المنهال عن معاوية الضرير عن الأعمش عن أبي عمرو الشيباني عن علي بن أبي طالب «اجعلوا ميراث المرتد لورثته من المسلمين» . فدلت هذه الآثار على أن ورثة المرتد المسلمين أحق بتركته دون غيرهم إذا كانوا يرثونه في الصدر الأول. -]] عند مالك والشافعيّ: في بيت مال المسلمين. وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... الآية: قال عروة بن الزُّبَيْر وغيره: لما عَنَّفَ المسلمون عبْدَ اللَّه بن جَحْشٍ وأصحابه، شَقَّ ذلك عليهم، فتلافاهم الله عز وجل بهذه الآية، ثم هي باقيةٌ في كلِّ من فعل ما ذكره اللَّه عزَّ وجلَّ [[أخرجه الطبري (2/ 369) برقم (4106) ، وذكره ابن عطية في «المحرر الوجيز» (1/ 291) .]] . وهَاجَرَ الرجُلُ، إِذا انتقل نقلة إِقامة من موضعٍ إِلى موضعٍ، وقصد ترك الأول إِيثاراً للثاني، وهي مُفَاعَلَةٌ من هَجَرَ، وجَاهَدَ مفاعلة من جهد، إذا استخرج الجهد، ويَرْجُونَ: معناه يَطْمَعُون ويستقْربُون، والرجاء تنعُّم، والرجاء أبداً معه خوفٌ ولا بدَّ، كما أن الخوف معه رجاء. ت: والرجاءُ ما قارنه عمَلٌ، وإلا فهو أمنيّة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب