الباحث القرآني

وقوله سبحانه: فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ ، أي: مِنْ بعد ما تبيَّن له الحَقُّ، وقيامُ الحُجَّة، فهو الظَّالِمُ. وقوله: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ، أي: الأمر كما وصَفَ سبحانه، لا كما تَكْذُبونَ، فإن كنتم تَعْتزونَ إلى إبراهيم، فاتبعوا ملَّته على ما ذكر الله. وقوله سبحانه: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ...... الآية: لا مِرْيَة أنَّ إبراهيم- عليه السلام- وضع بيْتَ مكة، وإنما الخلافُ، هَلْ هو وضع بَدْأَةً أوْ وُضِعَ تجديداً؟ وقال الفَخْر [[ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 125) .]] : يحتمل أولاً في الوضْعِ والبناءِ، ويحتملُ أنْ يريد أولاً في كونه مباركاً، وهذا تحصيلُ المفسِّرين في الآية. اهـ. قال ابن العربيِّ في «أحكامِهِ» [[ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 2830) .]] وكونُ البَيْتِ الحَرَامِ مُبَارَكاً، قيل: بركَتُهُ ثوابُ الأعمال هناك، وقيل: ثوابُ قاصِدِيهِ، وقيل: أمْنُ الوَحْش فيه، وقيل: عُزُوفُ النفْسِ عن الدنيا عِنْدَ رؤيته، قال ابنُ العربيِّ [[ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 283- 284) .]] : والصحيحُ عِنْدَي أنَّهُ مُبَارَكٌ مِنْ كلِّ وجْهٍ مِنْ وجوه الدنْيَا والآخرة وذلك بجميعه موجودٌ فيه. اهـ. قال مالكٌ في سماعِ ابن القاسِمِ من «العتبية» : بَكَّة موضعُ البَيْت، ومَكَّة غيره مِنَ المواضعِ، قال ابن القاسِمِ: يريد القَرْيَةَ [[ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 474) .]] ، قلتُ: قال ابنُ رُشْدٍ في «البيان» [[صاحب «البيان» هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد القرطبي. وكتاب «البيان» هو كتاب «البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل» ، وهي مستخرجة العتبي المسماة «العتبية» ، وهو كتاب عظيم نيف على عشرين مجلدا. ينظر: «شجرة النور» (1/ 129) ، و «هدية العارفين» (2/ 85) ، و «الديباج المذهب» (2/ 248) .]] : أرى مالكاً أخَذَ ذلك مِنْ قول اللَّه عزَّ وَجَلَّ لأنه قال تعالى في بَكَّة: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً، وهو إنما وضع بموضعه الَّذي وُضِعَ فيه لا فيما سواه من القرية، وقال في «مَكَّة» وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ [الفتح: 24] وذلك إنما كان في القرية، لا في موضع البَيْتَ. اهـ. وقوله سبحانه: فِيهِ، أي: في البيت آياتٌ بَيِّناتٌ، قال ع [[ينظر: «المحرر الوجيز» (1/ 475) .]] : والمترجِّح عندي أنَّ المَقَامَ وأَمْنَ الدَّاخِلِ جُعِلاَ مثالاً ممَّا في حَرَمِ الله من الآيات وخصّا بالذكر لعظمهما، ومَقامُ إِبْراهِيمَ: هو الحَجَرُ المعروفُ قاله الجمهور، وقال قوم: البيتُ كلُّه مقامُ إبراهيم، وقال قومٌ: الحَرَمُ كلُّه مقامُ إبراهيم، والضميرُ في قوله: وَمَنْ دَخَلَهُ عائدٌ على البَيْت في قول الجمهور، وعائد على الحرم في قول مَنْ قَالَ: مقامُ إبراهيم هو الحرم. وقوله: كانَ آمِناً قال الحَسَنُ وغيره: هذه وصْفُ حالٍ كانَتْ في الجاهلية، إذا دخَلَ أحدٌ الحَرَمَ، أَمِنَ، فلا يُعْرَضُ له، فأما في الإسلام، فإن الحرم لا يَمْنَعُ مِنْ حَدٍّ مِنْ حدودِ اللَّه، وقال يَحْيَى بْنُ جَعْدَةَ: معنى الآية: ومَنْ دخل البيتَ، كان آمناً من النَّار، وحكى النقَّاش عن بَعْض العُبَّاد، قال: كُنْتُ أطوفُ حوْلَ الكعبةِ لَيْلاً، فقلْتُ: يا رَبِّ، إنّك قلت: وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً، فمماذا هو آمنٌ؟ فسمعتُ مكلِّماً يكلِّمني، وهو يقولُ: مِنَ النَّارِ، فنظَرْتُ، وتأمَّلت، فما كان في المكان أحد، قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه» [[ينظر: «أحكام القرآن» (2/ 285) .]] : وقول بعضهم: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمناً من النار- لا يصحُّ حمله على عمومه، ولكنه ثَبَتَ أنَّ مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ [[أخرجه البخاري (3/ 382) ، كتاب «الحج» ، باب فضل الحج المبرور، حديث (1521) ، (4/ 25) ، كتاب «المحصر» ، باب قوله الله تعالى: فَلا رَفَثَ، حديث (1819) ، وباب قول الله (عز وجل) : وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ، حديث (1820) . ومسلم (2/ 983) ، كتاب «الحج» ، باب في فضل الحج والعمرة، حديث (438/ 1350) . والنسائي (5/ 14) ، كتاب «الحج» ، باب فضل الحج. والترمذي (3/ 176) ، كتاب «الحج» ، باب ما جاء في ثواب الحج والعمرة، حديث (81) . وابن ماجة (2/ 964- 965) ، كتاب «المناسك» ، باب فضل الحج والعمرة، حديث (2889) . وأحمد (2/ 248، 410، 484) ، والطيالسي (1/ 202- منحة) رقم (975) . والدارمي (2/ 31) ، كتاب «المناسك» ، باب في فضل الحج والعمرة، وأبو يعلى (11/ 61) رقم (6198) . وأبو نعيم في «الحلية» (8/ 316) . وابن خزيمة (4/ 131) رقم (2514) ، وابن حبان رقم (3702- الإحسان) . والبيهقي (5/ 67) ، كتاب «الحج» ، باب لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، والخطيب في «تاريخ بغداد» (11/ 222) ، والحميدي (2/ 440) رقم (1004) ، والبغوي في «شرح السنة» (4/ 4- بتحقيقنا) . كلهم من طريق أبي حازم عن أبي هريرة مرفوعا. وقال الترمذي: حديث أبي هريرة حديث حسن صحيح.]] ، والحَجُّ المَبْرُور لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجنّة [[أخرجه البخاري (3/ 698) في العمرة: باب العمرة، وجوب العمرة وفضلها (1773) ، ومسلم (2/ 983) في الحج: باب في فضل الحج والعمرة ويوم عرفة (437- 1349) ، والنسائي (5/ 115) في الحج: باب فضل العمرة. والترمذي (3/ 272) في الحج، باب ما ذكر في فضل العمرة (933) . وابن ماجة (1/ 964) في المناسك: باب فضل الحج والعمرة (2888) . وأحمد (2/ 246، 261، 262) ، والدارمي (2/ 31) في المناسك: باب في فضل الحج والعمرة، من طريق سمي مولى أبي بكر بن عبد الرّحمن، عن أبي صالح السمان، عن أبي هريرة مرفوعا: «العمرة إلى العمرة كفارة ما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» . وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.]] . قال ذلك كلّه رسول الله ﷺ اهـ. وقوله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ... الآية: هو فرضُ الحجِّ في كتابِ اللَّه بإجماع، وقرأ حمزةُ، والكِسَائيُّ، وحَفْص عن عاصِمٍ: «حَجُّ الَبْيتِ» بكَسْر الحاء، وقرأ الباقُونَ بفتحها [[ينظر: «السبعة» (214) ، و «الكشف» (1/ 253) ، و «الحجة» (3/ 71) ، و «العنوان» (80) ، و «حجة القراءات» (170) ، و «إعراب القراءات» (1/ 117) ، و «شرح شعلة» (320) ، و «شرح الطيبة» (4/ 162) ، وإتحاف» (1/ 485) ، و «معاني القراءات» (1/ 268) .]] ، / فَبِكَسْر الحاء: يريدُون عَمَلَ سَنَةٍ واحدةٍ، وقال الطبريُّ [[ينظر: «تفسير الطبري» (3/ 366) .]] : هما لُغَتَانِ الكَسْر: لُغَةُ نَجْدٍ، والفتْحُ لغة أهل العَالِيَةِ. وقوله سبحانه: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا «مَنْ» : في موضعِ خَفْضٍ بدلٍ من «النَّاس» ، وهو بدلُ البَعْض من الكلِّ، وقال الكسائيُّ وغيره: هي شَرْطٌ في موضع رفعٍ بالابتداء، والجوابُ محذوفٌ، تقديره: فَعَلَيْهِ الحِجُّ ويدلُّ عليه عطْفُ الشرطِ الآخَرِ بعده في قوله: وَمَنْ كَفَرَ، وأسند الطبريُّ إلى النبيِّ ﷺ أنه قال: «مَنْ مَلَكَ زَاداً وَرَاحِلَةً، فَلَمْ يَحُجَّ، فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا [[أخرجه الدارمي (2/ 29) ، كتاب «الحج» ، باب من مات ولم يحج. وأبو نعيم في «الحلية» (9/ 251) ، من طريق شريك، عن ليث، عن عبد الرّحمن بن سابط، عن أبي أمامة مرفوعا. ومن هذا الوجه أورده ابن الجوزي في «الموضوعات» (2/ 210- بتحقيقنا) ، وقال: لا يصح. وأعله بالمغيرة بن عبد الرّحمن، قال يحيى: ليس بشيء. وفيه ليث، وقد ضعفه ابن عيينة، وتركه يحيى القطان، ويحيى بن معين، وابن مهدي، وأحمد. قلت: ولا وجه لإعلاله بالمغيرة لأنه توبع على هذا الحديث، تابعه الدارمي، ومحمد بن أسلم، عن أبي نعيم في «الحلية» .]] ، وذهب جماعةٌ من العلماءِ إلى أنَّ قوله سبحانه: مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا كلامٌ عامٌّ لا يتفسَّر بزادٍ ولا راحلةٍ، ولا غَيْرِ ذلك، بل إذا كان مستطيعاً غَيْرَ شاقٍّ على نفسه، فقد وجَبَ علَيْه الحَجُّ، وإليه نحا مَالِكٌ في سماع أَشْهَبَ، وقال: لا صِفَةَ في هذا أبْيَنُ ممَّا قال الله تعالى. هذا أنْبَلُ الأقوال، وهذه مِنَ الأمور التي يتصرَّف فيها فِقْهُ الحال، والضميرُ في «إِلَيْهِ» عائدٌ على البيت، ويحتملُ عَلَى الحِجِّ. وقوله سبحانه: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ، قال ابن عبَّاس وغيره: المعنى: مَنْ زعم أنَّ الحَجَّ ليس بفَرْضٍ عليه [[أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 367) ، وذكره الماوردي في «تفسيره» (1/ 411) ، والبغوي في «تفسيره» (1/ 330) ، والسيوطي في «الدر المنثور» (2/ 101) ، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.]] ، وروي عن النبيّ ﷺ أنه قرأَ هذه الآيةَ، فقَالَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ تَرَكَهُ، كَفَرَ، فقال له النبيّ ﷺ: «من تركه، لا يَخَافُ عُقُوبَتَهُ، ومَنْ حَجَّهُ لاَ يَرْجُو ثَوَابَهُ، فَهُوَ ذَلِكَ» [[أخرجه الطبري في «تفسيره» (3/ 368) رقم (7509) ، عن أبي داود نفيع. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 101) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد.]] ، وقال بمعنى هذا الحديثِ ابْنُ عبَّاس وغيره، وقال السُّدِّيُّ وجماعة مِنْ أهْل العلْم. معْنَى الآيةِ: مَنْ كَفَر بأنْ وَجَد ما يَحُجُّ به، ثم لَمْ يَحُجَّ، قال السُّدِّيُّ: مَنْ كان بهذه الحالِ، فهو كافرٌ [[ذكره ابن عطية في «تفسيره» (1/ 480) .]] ، يعني: كُفْرَ مَعْصية، ولا شكَّ أنَّ مَنْ أنعم اللَّه علَيْه بمالٍ وصحَّة، ولم يَحُجَّ، فقد كَفَر النِّعْمَةَ، وقال ابنُ عُمَر وجماعةٌ: معنى الآيةِ: ومن كَفَر باللَّه واليومِ الآخِرِ، قال الفَخْر [[ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 135) .]] : والأكثرون هم الذين حَمَلُوا الوعيدَ على مَنْ ترك اعتقادَ وُجُوبَ الحجِّ، وقال الضَّحَّاك: لما نَزلَتْ آية الحَجِّ، فأعْلَمِ النبيُّ ﷺ بذَلِكَ أَهْلَ المِلَلِ، وقَالَ: «إنَّ اللَّه تعالى كَتَبَ عَلَيْكُمْ الحَجُّ، فحُجُّوا» ، فَآمَنَ بِهِ المُسْلِمُونَ وَكَفَرَ غَيْرُهُم [[أخرجه الطبري (7/ 49- 50) برقم (7516) ، وسعيد بن منصور رقم (515) . كلاهما من طريق جويبر عن الضحاك به. وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (2/ 101) ، وزاد نسبته إلى عبد بن حميد، وابن المنذر.]] فَنَزَلَتِ الآيةُ، قَالَ الفَخْرُ [[ينظر: «مفاتيح الغيب» (8/ 135) .]] : وهذا هو الأقوى، واللَّه أعلم. اهـ. ومعنى قوله تعالى: غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ: الوعيدُ لِمَنْ كفر، والقَصْدُ بالكلامِ: فَإنَّ اللَّه غنيٌّ عنهم، ولكن عمَّم اللفظ ليَبْرَعَ المعنى، وتنتبه الفِكَرُ لقدرته سبحانه، وعظيم سلطانه، واستغنائه عن جميعِ خَلْقِهِ لا ربّ سواه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب