الباحث القرآني

وقوله سبحانه: لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، أجمع أهلُ السنَّة على أن اللَّه عزَّ وجلَّ يرى يوم القيامة، يَرَاهُ المؤمنون، والوَجْه أنْ يبيَّن جواز ذلك عقلاً، ثم يستند إلى ورود السمعِ بوقوعِ ذلك الجائِزِ، واختصار تبْيِينِ ذلك: أنْ يعتبر بعلمنا باللَّه- عز وجل- فمن حيثُ جاز أنْ نعلمه لا في مكانٍ، ولا متحيِّزاً، ولا مُقَابَلاً، ولم يتعلَّق علمنا بأكثر من الوجودِ، جاز أن نراه غير مقابلٍ، ولا محاذًى، ولا مكيَّفاً، ولا محدَّداً، وكان الإمام أبو عبد اللَّه النحويُّ يقولُ: مسألةُ العِلْمِ حَلَقَتْ لِحَى المُعْتَزِلة، ثم ورد الشرْعُ بذلك/ كقوله عزَّ وجلَّ: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ [القيامة: 22، 23] ، وتعدية النَّظَر ب «إلى» إنما هو في كلام العربِ لمعنى الرؤية لا لمعنى الانتظار على ما ذهب إليه المعتزلة ومنه قول النبيِّ ﷺ فيما صحَّ عنه، وتواتر، وكثر نقله: «إنَّكُمْ تَرَوْنَ رَبَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ كَمَا تَرَوْنَ القَمَرَ لَيْلَةَ البَدْرِ» [[أخرجه البخاري (8/ 462- 463) كتاب «التفسير» ، باب وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، حديث (4851) ، ومسلم (1/ 439- 440) كتاب «المساجد» ، باب فضل صلاة الصبح والعصر والمحافظة عليهما، حديث (211، 212/ 633) من حديث جرير.]] ، ونحوه من الأحاديث الصحيحةِ علَى اختلاف ألفاظها، واستمحل [[يعني: استبعد. ينظر: «لسان العرب» (4147، 4148) ، و «المعجم الوسيط» (863) .]] المعتزلةُ الرؤيةَ بآراءٍ مجرَّدةٍ، وتمسَّكوا بقوله تعالى: لاَّ تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وانفصال أهل السنَّة عن تمسُّكهم بأن الآية مخصُوصَةٌ في الدنيا [[تقدم الكلام على الرؤية مفصلا.]] ، ورؤية الآخرة ثابتةٌ بأخبارها وأيضاً فإنا نَفْرُقُ بين معنى الإدراك، ومعنى الرؤية، ونقول: إنه عز وجل تراه الأبصار، ولا تدركه وذلك أن الإدراك يتضمَّن الإحاطة بالشيء، والوصولَ إلى أعماقِهِ وحَوْزِهِ من جميع جهاتِهِ، وذلك كلُّه محالٌ في أوصافِ اللَّه عزَّ وجلَّ، والرؤيةُ لا تفتقرُ إلى أنْ يحيطَ الرائي بالمرئيِّ، ويبلغ غايته، وعلى هذا التأويل يترتَّب العَكْس في قوله: وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ، ويحسن معناه، ونحو هذا رُوِيَ عن ابن عباسٍ وقتادة وعطيَّة العَوْفِيِّ [[أخرجه الطبري (5/ 294) برقم (13698) عن ابن عباس (13699) عن قتادة (13700) عن عطية العوفي، وذكره البغوي (2/ 120) عن ابن عباس، وابن عطية (2/ 330) ، وابن كثير (2/ 161، 162) ، والسيوطي (3/ 69) ، وعزاه لابن جرير عن ابن عباس، وعزاه لعبد بن حميد، وأبي الشيخ عن قتادة، وعزاه لابن أبي حاتم عن السدي، وعطية هذا هو عطية بن سعد بن جنادة العوفي الجدلي أبو الحسن-- الكوفي، عن: أبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وعنه: ابناه عمر، والحسن. ينظر: «الخلاصة» (2/ 233) .]] أنهم فرقوا بين الرؤية والإدراك، واللَّطِيفُ: المتلطّف في خلقه واختراعه، والبَصَائِرُ: جمع بَصِيرة، فكأنه قال: قد جاءكم في القرآن والآياتِ طرائقُ إبصار الحقِّ، والبصيرةُ للقَلْبِ مستعارةٌ من إبصارِ العَيْن، والبصيرةُ أيضاً هي المعتقد. وقوله سبحانه: فَمَنْ أَبْصَرَ، ومَنْ عَمِيَ: عبارةٌ مستعارةٌ فيمن اهتدى، ومَنْ ضَلَّ، وقوله: وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ- كان في أول الأمر وقَبْلَ ظهور الإسلام، ثم بعد ذلك كان ﷺ حفيظاً على العَالَمِ، آخذاً لهم بالإسلام أو السيفِ. وقوله سبحانه: وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ أي: نردِّدها ونوضِّحها، وقرأ الجمهور [[ينظر: «السبعة» (264) ، و «الحجة للقراء السبعة» (3/ 372) ، و «إعراب القراءات» (1/ 166) ، و «معاني القراءات» (1/ 376) ، و «شرح الطيبة» (4/ 266) ، و «شرح شعلة» (372) ، و «حجة القراءات» (264) ، و «العنوان» (92) ، و «إتحاف فضلاء البشر» (2/ 25) .]] : «وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ» - بكسر اللام- على أنها لامُ كَيْ، وهي على هذا لامُ الصيرورة، أي: لَمَّا صار أمرهم إلى ذلك، وقرأ نافع وغيره: «دَرَسْتَ» ، أي: يا محمد دَرَسْتَ في الكتبِ القديمةِ ما تجيئُنا به، وقرأ ابن كثير وغيره: «دَارَسْتَ» ، أي: دارَسْتَ غيرك وناظرته، وقرأ ابن عامر: «دَرَسَتْ» - بإسناد الفعل إلى الآيات- كأنهم أشاروا إلى أنها تردَّدت على أسماعهم حتى بَلِيَتْ في نفوسهم، وامحت، واللام في قوله: لِيَقُولُوا، وفي قوله: وَلِنُبَيِّنَهُ: متعلِّقانِ بفعلِ متأخِّر، وتقديره: «صَرَّفْنَاهَا» ، وذهب بعض الكوفيِّين إلى أنَّ «لا» : مضمرةٌ بعد «أَنِ» المقدَّرةِ في قوله: وَلِيَقُولُوا، فتقدير الكلام عندهم: وَلأنْ لاَ يَقُولُوا دَرَسْتَ كما أضمروها في قوله: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: 176] . قال ع [[ينظر: «المحرر الوجيز» (2/ 331) .]] : وهذا قَلِقٌ، ولا يجيز البصريُّون إضمار «لا» في موضعٍ من المواضعِ. قلت: ولكنه حسن جدًّا من جهة المعنى إذ لا يعلمون أنه دَرَسَ أو دارس أحدا ﷺ، فتأمَّله. وقوله سبحانه: اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ ... الآية: هذه الآية فيها موادعة، وهي منسوخة.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب