الباحث القرآني

أَمْ حَسِبْتَ، معناه: بل أم حسبت، يعني: أظننت يا محمد أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً؟ يعني: ليسوا أعجب آياتنا فإنّ ما خلقت من السماوات والأرض وما فيهنّ من العجائب أغرب منهم. والكهف هو الغار في الجبل. واختلفوا في الرقيم، فقال [[كذا في المخطوط.]] فيه ما روى ابن جريج عن موسى بن عقبة عن نافع عن ابن عمر عن رسول الله ﷺ‎ قال: «إنّ ثلاثة نفر خرجوا يرتادون لأهلهم، بينا هم يمشون إذ [[في المخطوط: إذا.]] أصابتهم السماء، فأووا إلى كهف فسقطت صخرة من الجبل فانطبقت على باب الكهف فانقفل عليهم، فقال قائل منهم: اذكروا أيّكم عمل حسنة لعل الله برحمته [[ببركته، عن هامش المخطوط.]] يرحمنا. فقال رجل منهم: قد عملت حسنة مرة، كان لي أجراء يعملون عملا استأجرت كل رجل منهم بأجر معلوم، فجاءني رجل ذات يوم وسط النهار فاستأجرته بشرط أصحابه، فعمل في بقية نهاره كما عمل الرجل منهم في نهاره كله، فرأيت عليّ في الذّمام ألّا أنقصه ممّا استأجرت به أصحابه، لما جهد في عمله، فقال رجل منهم: أتعطي هذا ما أعطيتني ولا يعمل إلّا نصف النهار؟ قلت: يا عبد الله لم أبخسك شيئا من شرطك، وإنما هو مالي أحكم فيه ما شئت. قال: فغضب وذهب وترك أجره، فوضعت حقه في جانب من البيت ما شاء الله، ثمّ نزل بي بعد ذلك بقر فاشتريت به فصيلة من البقر، فبلغت ما شاء الله، فمرّ بي بعد حين شيخ ضعيف لا أعرفه، فقال لي: إنّ لي عندك حقا. فذكره حتى عرفته، قلت: إيّاك أبغي وهذا حقّك. فعرضتها عليه جميعا فقال: يا عبد الله، لا تسخر بي إن لم تتصدّق علي فأعطني حقي. قلت: والله لا أسخر، إنها لحقك ما لي فيه شيء، فدفعتها إليه. اللهم إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا. فانصدع الجبل حتى رأوا الضوء فأبصروا. وقال الآخر: قد عملت حسنة مرّة، كانت لي فضل، وأصاب النّاس شدّة، فجاءتني امرأة تطلب مني معروفا، فقلت: والله ما هو دون نفسك. فأبت عليّ، وذهبت ورجعت ثلاث مرات وقلت: لا والله ما هو دون نفسك. فأبت عليّ وذهبت، وذكرت لزوجها، فقال لها: أعطيه نفسك وأغيثي عيالك. فرجعت إليّ ونشدتني بالله، فأبيت عليها وقلت: والله ما هو دون نفسك. فلمّا رأت ذلك أسلمت إلىّ نفسها، فلمّا تكشّفتها وهممت بها ارتعدت من تحتي، فقلت لها: ما شأنك؟ قالت: أخاف الله رب العالمين. فقلت لها: خفته في الشدّة ولم أخفه في الرخاء! فتركتها وأعطيتها ما يحق عليّ بما تكشفتها. اللهمّ إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنا. فانصدع حتى تعارفوا وتبيّن لهم. وقال الآخر: قد عملت حسنة مرّة، كان لي أبوان شيخان كبيران، وكان لي غنم، فكنت أطعم أبوىّ وأسقيهما ثمّ أرجع إلى أهلي. قال: فأصابني يوما غيث حبسني حتى أمسيت فأتيت أهلي فأخذت محلبي وحلبت غنمي وتركتها قائمة فمضيت إليهما، فوجدتهما ناما، فشقّ عليّ أن أوقضهما، وشقّ عليّ أن أترك غنمي فما برحت جالسا ومحلبي على يدي حتى أيقظهما الصبح فسقيتهما. اللهم إن فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا [[في المخطوط بعدها علامة سقط. لكن لم يظهر في مصوّرته.]] [65] . قال النعمان لكأني أسمع من رسول الله ﷺ‎ قال: «قال الجبل طاق، ففرج الله عنهم وخرجوا» [66] [[مسند أحمد: 4/ 275، ومجمع الزوائد: 8/ 140 بتفاوت يسير.]] . وقال ابن عباس: الرقيم واد بين غطفان وأيلة، وهو الوادي الذي فيه أصحاب الكهف. وقال كعب هي قريتهم. وهو على هذا التأويل من رقمة الوادي وهو موضع الماء منه، تقول العرب: عليك بالرقمة، ودع الضّفة. والضّفتان: جانبا الوادي. وقال سعيد بن جبير: الرّقيم لوح من حديد، وقيل: من رصاص، كتبوا فيه أسماء أصحاب الكهف وقصتهم، ثمّ وضعوه على باب الكهف. وهو على هذا التأويل بمعنى المرقوم، أي المكتوب. والرّقم: الخط والعلامة، والرقم: الكتابة. ثمّ ذكر قصتهم فقال: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ، أي رجعوا وصاروا. واختلفوا في مسيرهم إلى الكهف، فقال محمد بن إسحاق بن يسار: مرج أهل الإنجيل وعظمت فيهم الخطايا وطغت فيهم الملوك حتى عبدوا الأصنام وذبحوا للطواغيت، وفيهم بقايا على دين المسيح ابن مريم (عليه السلام) ، متمسكين بعبادة الله عزّ وجلّ وتوحيده. وكان ممّن فعل ذلك من ملوكهم ملك من الروم يقال له دقيانوس كان قد عبد الأصنام وذبح للطواغيت وقتل من خالفه في ذلك ممّن أقام على دين المسيح. وكان ينزل بقرى الروم فلا يترك في قرية ينزلها أحدا إلّا فتنه حتى يعبد الأصنام، ويذبح للطواغيت، حتى نزل مدينة أصحاب الكهف وهي أفسوس، فلما نزلها كبر ذلك على أهل الإيمان فاستخفوا منه وهربوا في كل وجه. وكان دقيانوس قد أمر حين قدمها أن يتتبّع أهل الإيمان، فيجمعوا له، واتّخذ شرطا من الكفار من أهلها، فجعلوا يتتبعون أهل الإيمان في مساكنهم فيخرجونهم إلى دقيانوس فيقدمهم إلى الجامع الذي يذبح فيه للطواغيت، فيخيرهم بين القتل وبين عبادة الأصنام والذبح للطواغيت، فمنهم من يرغب في الحياة ومنهم من يأبى أن يعبد غير الله فيقتل. فلما رأى ذلك أهل الشّدة في الإيمان بالله عز وجلّ، جعلوا يسلمون أنفسهم للعذاب والقتل، فيقتّلون ويقطّعون ثمّ يربط ما قطع من أجسامهم على سور المدينة من نواحيها كلّها وعلى كلّ باب من أبوابها، حتّى عظمت الفتنة على أهل الإيمان فمنهم من أقرّ فترك ومنهم من صلب على دينه فقتل. فلمّا رأى الفتية ذلك حزنوا حزنا شديدا، فقاموا وصلّوا وصاموا واشتغلوا بالدعاء والتسبيح لله عز وجلّ، وكانوا من أشراف الرّوم، وكانوا ثمانية نفر، فبكوا وتضرّعوا وجعلوا يقولون: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً، اكشف عن عبادك هذه الفتنة، وارفع عنهم البلاء، وأنعم على عبادك الذين آمنوا بك حتى يعلنوا عبادتك. فبينا هم على ذلك إذ أدركهم الشرط، وكانوا قد دخلوا في مصلّى لهم فوجدوهم سجودا على وجوههم يبكون ويتضرّعون إلى الله عز وجلّ ويسألونه أن ينجيهم من دقيانوس وفئته. فلما رآهم أولئك الكفرة قالوا لهم: ما خلفكم عن أمر الملك؟ انطلقوا إليه. ثمّ خرجوا من عندهم فرفعوا أمرهم إلى دقيانوس، فقالوا: نجمع الجميع وهؤلاء الفتية من أهل بيتك يسخرون منك ويعصون أمرك؟ فلما سمع ذلك أتي بهم تفيض أعينهم من الدّمع، معفّرة وجوههم في التراب، فقال لهم: ما منعكم أن تشهدوا لذبح الآلهة الّتي تعبد في الأرض، وأن تجعلوا أنفسكم كغيركم؟ اختاروا إمّا أن تذبحوا لآلهتنا كما ذبح النّاس وإما أن أقتلكم. فقال مكسلمينا- وكان أكبرهم-: إن لنا إلها ملأ السماوات والأرض عظمته، لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً أبدا، ولن نقرّ بهذا الذي تدعونا إليه أبدا، ولكنّا نعبد الله ربّنا، وله الحمد والتكبير والتّسبيح من أنفسنا خالصا، إيّاه نعبد، وإيّاه نسأل النجاة والخير فأمّا الطواغيت وعبادتها، فلن نعبدها أبدا، فاصنع بنا ما بدا لك. ثمّ قال أصحاب مكسلمينا لدقيانوس مثل ما قال له، فلما قالوا ذلك أمرهم فنزع عنهم لبوس كان عليهم من لبوس عظمائهم، ثمّ قال: أمّا إذا فعلتم فإنّي سأؤخركم، وسأفرغ لكم فأنجز لكم ما وعدتكم من العقوبة، وما يمنعني أن اعجل ذلك لكم إلّا أني أراكم شبابا، حديثة أسنانكم، ولا أحب أن أهلككم حتى أجعل لكم أجلا تذكّرون فيه، وتراجعون عقولكم. ثمّ أمر بحلية كانت عليهم من ذهب وفضة فنزعت منهم، ثمّ أمر بهم حتى أخرجوا من عنده، وانطلق دقيانوس إلى مدينة سوى مدينتهم التي كانوا بها قريبا منهم لبعض أموره، فلما رأى الفتية أن دقيانوس قد خرج من مدينتهم بادروا قدومه، وخافوا إذا قدم مدينتهم أن يذكرهم، فائتمروا بينهم أن يأخذ كلّ رجل نفقة من بيت أبيه فيتصدقوا بها ويتزوّدوا مما بقي، ثمّ ينطلقوا إلى كهف قريب من المدينة في جبل يقال له ينجلوس فيمكثون فيه، ويعبدون الله عزّ وجلّ، حتى إذا جاء دقيانوس أتوه فقاموا بين يديه فيصنع بهم ما شاء. فلما قال ذلك بعضهم لبعض، عمد كلّ فتى منهم إلى بيت أبيه وأخذ نفقة فتصدّقوا بها، وانطلقوا بما بقي معهم من نفقتهم، وأتبعهم كلب كان لهم، حتى إذا أتوا ذلك الكهف الذي في ذلك الجبل تلبثوا فيه. وقال كعب الأحبار: مروا بكلب فنبح عليهم فطردوه، فعاد ففعلوا ذلك مرارا، فقال لهم الكلب: ما تريدون منّي؟ لا تخشون إجابتي. أنا أحب أحبّاء الله، فناموا حتى أحرسكم. وقال ابن عباس: هربوا ليلا من دقيانوس بن جلانوس حيث دعاهم إلى عبادة الأصنام، وكانوا سبعة فمروا براع معه كلب، وكان على دينهم، فخرجوا من البلد فأووا إلى الكهف، وهو قريب من البلدة، فلبثوا فيه ليس لهم عمل إلّا الصلاة والتسبيح والتكبير والتّحميد ابتغاء وجه الله تعالى، فجعلوا نفقتهم إلى فتى منهم يقال له تمليخا، فكان على طعامهم يبتاع لهم أرزاقهم من المدينة سرّا، وكان من أجملهم وأجلدهم. وكان تمليخا يصنع ذلك، فإذا دخل البلد يضع ثيابا كانت عليه حسانا، ويأخذ ثيابا كثياب المساكين الذين يستطعمون فيها، ثمّ يأخذ ورقة فينطلق إلى المدينة فيشتري طعاما وشرابا ويسّمّع ويتجسس لهم الخبر: هل ذكروا أصحابه بشيء؟ ثمّ يرجع إلى أصحابه. فلبثوا بذلك ما لبثوا، ثمّ قدم دقيانوس الجبّار إلى المدينة فأمر العظماء فذبحوا للطواغيت، ففزع من ذلك أهل الإيمان، وكان تمليخا بالمدينة يشتري لأصحابه طعامهم وشرابهم، فرجع إلى أصحابه وهو يبكي ومعه طعام قليل، فأخبرهم أنّ الجبّار دقيانوس قد دخل المدينة، وأنهم ذكروا والتمسوا مع عظماء المدينة ليذبحوا للطواغيت. فلما أخبرهم فزعوا ووقعوا سجودا يدعون الله عز وجلّ ويتضرّعون ويتعوّذون به من الفتنة. ثمّ إنّ تمليخا قال لهم: ارفعوا رؤوسكم فاطعموا من رزق الله وتوكّلوا على بارئكم. فرفعوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا وخوفا على أنفسهم، فطعموا منه وذلك مع غروب الشمس. ثمّ جلسوا يتحدّثون ويتدارسون ويذكر بعضهم بعضا، فبينا هم على ذلك إذ ضرب الله عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ وكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بباب الكهف، فأصابه ما أصابهم، وهم مؤمنون موقنون، ونفقتهم عند رؤوسهم. فلما كان من الغد تفقّدهم دقيانوس والتمسهم فلم يجدهم، فقال لبعضهم: لقد ساءني هؤلاء الفتية الذين ذهبوا، لقد كانوا ظنوني غضبا عليهم بجهلهم ما جهلوا من أمري، ما كنت لأحمل عليهم في نفسي ولا لواحد منهم إن تابوا وعبدوا آلهتي! فقال له عظماء المدينة: ما أنت بحقيق أن ترحم قوما فجرة مردة عصاة مقيمين على ظلمهم ومعصيتهم، وقد كنت أجّلت لهم أجلا، فلو شاؤوا لرجعوا في ذلك الأجل، ولكنّهم لم يتوبوا. فلما قالوا له ذلك غضب غضبا شديدا، ثمّ أرسل إلى آبائهم فسألهم عنهم، فقال: أخبروني عن أبنائكم المردة الذين عصوني. فقالوا له: أمّا نحن فلم نعصك، فلم تقتلنا بقوم مردة قد ذهبوا بأموالنا وأهلكوها في أسواق المدينة ثمّ انطلقوا فارتقوا إلى جبل يدعى ينجلوس؟ فلما قالوا له ذلك خلّى سبيلهم، وجعل لا يدري ما يصنع بالفتية، فألقى الله عز وجلّ في نفسه أن يأمر بالكهف فيسد عليهم، أراد الله عز وجل أن يكرمهم ويجعلهم آية لأمّة يستخلف من بعدهم، وأن يبين لهم أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ [[إشارة إلى الآية: 70 من سورة الحج.]] . فأمر دقيانوس بالكهف أن يسد عليهم، وقال: دعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشا وجوعا، وليكن كهفهم الذي اختاروا قبرا لهم. وهو يظن أنهم أيقاظ يعلمون ما يصنع بهم، قد توفى الله أرواحهم وفاة النوم وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ، بباب الكهف قد غشيه ما غشيهم، يتقلّبون ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ. ثمّ إن رجلين مؤمنين كانا في بيت الملك دقيانوس يكتمان إيمانهما، اسم أحدهما بيدروس، واسم الآخر روتاس ائتمرا أن يكتبا شأن الفتية وأنسابهم وأسماءهم وخبرهم في لوح من رصاص يجعلانه في تابوت من نحاس، ثمّ يجعلان التابوت في البنيان، وقالا: لعل الله يظهر على هؤلاء الفتية قوما مؤمنين قبل يوم القيامة فيعلم من فتح عليهم خبرهم حين يقرأ هذا الكتاب. ففعلا، ثمّ بنيا عليه، فبقي دقيانوس ما بقي، ثمّ مات وقومه وقرون بعد كثيرة، وخلفت الملوك بعد الملوك. وقال عبيد بن عمير: كان أصحاب الكهف فتيانا مطوّقين مسوّرين ذوي ذوائب، وكان معهم كلب صيدهم، فخرجوا في عيد لهم عظيم في زيّ وموكب وأخرجوا معهم آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، وقد قذف الله في قلوب الفتية الإيمان- وكان أحدهم وزير الملك- فآمنوا، وأخفى كل واحد منهم الإيمان عن صاحبه فقالوا في أنفسهم من غير أن يظهر بعضهم لبعض: نخرج من بين أظهر هؤلاء القوم لا يصيبنا عقاب بجرمهم، فخرج شاب منهم حتى انتهى إلى ظل شجرة فجلس فيه، ثمّ خرج آخر فرآه جالسا وحده، فرجا أن يكون على مثل أمره من غير أن يظهر ذلك، فجلس إليه ثمّ خرج الآخرون فجاؤوا فجلسوا إليهما، فاجتمعوا وقال بعضهم لبعض: ما جمعكم، وكل واحد يكتم إيمانه على صاحبه مخافة على نفسه؟ ثمّ قالوا: ليخرج كل فتيين منكم فيخلوا ثمّ ليفش كل واحد منكم إلى صاحبه. فخرج فتيان منهم فتواقفا ثمّ تكلّما فذكر كل واحد منهما أمره لصاحبه، فأقبلا مستبشرين إلى أصحابهما فقالا: قد اتفقنا على أمر واحد. فإذا هم جميعا على الإيمان، وإذا كهف في الجبل قريب منهم، فقال بعضهم لبعض: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً. فدخلوا ومعهم كلب صيد، فناموا ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً. قال: وفقدهم قومهم، وطلبوهم فعمّى الله عليهم آثارهم وكهفهم، فلما لم يقدموا كتب أحدهم في لوح: فلان وفلان أبناء ملوكنا، فقدناهم في شهر كذا من سنة كذا في مملكة فلان بن فلان. ووضعوا اللوح في خزانة الملك وقالوا: ليكوننّ لهذا شأن. ومات ذلك الملك، وجاء قرن بعد قرن. وقال وهب بن منبّه: جاء أحد حواريّ عيسى بن مريم (عليه السلام) الى مدينة أصحاب الكهف، فأراد أن يدخلها، فقيل له: إن على بابها صنما لا يدخلها أحد إلّا سجد له. فكره أن يدخلها فأتى حمّاما قريبا من تلك المدينة، فكان فيه، وكان يؤاجر نفسه من الحمامي ويعمل فيه. ورأى صاحب الحمام في حمامه البركة، ودرّ عليه الرزق، وجعل يقوم عليه، وعلقه فتية من أهل المدينة، فجعل يخبرهم خبر السماء وخبر الأرض وخبر الآخرة حتى آمنوا به وصدّقوه، وكانوا على مثل حاله في حسن الهيئة. وكان شرطه على صاحب الحمام: إن الليل لي لا يحول بيني وبين الصلاة أحد، وكان على ذلك حتى أتى ابن الملك بامراة فدخل بها الحمام، فعيّره الحواري وقال له: أنت ابن الملك وتدخل مع هذه؟ فاستحيا، فذهب، فرجع مرّة أخرى فقال له مثل ذلك، فسبّه وانتهره ولم يلتفت حتى دخلا معا فماتا جميعا في الحمام، فأتي الملك فقيل له: قتل صاحب الحمام ابنك. فالتمس فلم يقدر عليه، فهرب، فقال: من كان يصحبه؟ فسمّوا الفتية فالتمسوا فخرجوا من المدينة، فمرّوا بصاحب لهم في زرع وهو على مثل إيمانهم فذكروا له أنهم التمسوا، فانطلق معهم ومعه كلب حتى آواهم الليل إلى الكهف فدخلوا وقالوا: نبيت هاهنا الليلة، ثمّ نصبح إن شاء الله فترون رأيكم. فضرب الله عَلَى آذانِهِمْ. فخرج الملك في أصحابه يتبعونهم حتى وجدوهم قد دخلوا الكهف، وكلّما أراد الرجل منهم دخوله أرعب، فلم يطق أحد دخوله، وقال قائل: أليس لو قدرت عليهم قتلتهم؟ قال: بلى. قال: فابن عليهم باب الكهف واتركهم فيه يموتوا عطشا وجوعا. ففعل. قال وهب: تركهم بعد ما سدّ عليهم باب الكهف زمانا بعد زمان، ثمّ إنّ راعيا أدركه المطر عند الكهف فقال: لو فتحت هذا الكهف فأدخلته غنمي من المطر! فلم يزل يعالجه حتى فتح، وردّ الله إليهم أرواحهم من الغد حين أصبحوا. وقال محمد بن إسحاق: ثمّ ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له تيدوسيس، فلما ملك بقي في ملكه ثمانيا وثلاثين سنة فتحزب الناس في ملكه، وكانوا أحزابا منهم من يؤمن بالله ويعلم أن الساعة حق، ومنهم من يكذّب بها، فكبر ذلك على الملك الصالح، وبكى إلى الله عز وجلّ، وتضرّع إليه، وحزن حزنا شديدا. فلما رأى أهل الباطل يزيدون ويظهرون على أهل الحق ويقولون: لا حياة إلّا الحياة الدنيا، وإنما تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد فأما الجسد فتأكله الأرض. ونسوا ما في الكتاب، فجعل تيدوسيس يرسل إلى من يظن فيه خيرا وأنه معه في الحق، فجعلوا يكذبون بالساعة حتى كادوا يحولون الناس عن الحقّ وملّة الحواريين. فلما رأى ذلك الملك الصالح تيدوسيس دخل بيته وأغلقه عليه ولبس مسحا وجعل تحته رمادا ثمّ جلس عليه فدأب ليله ونهاره زمانا يتضرع إلى الله ويبكي مما يرى فيه الناس، ويقول: أي رب، قد ترى اختلاف هؤلاء الناس، فابعث إليهم من يبين لهم. ثمّ إن الرحمن الرحيم الذي يكره هلكة العباد أراد أن يظهر على الفتية أصحاب الكهف ويبين للناس شأنهم ويجعلهم آية له وحجة عليهم، وليعلموا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها، وأن يستجيب لعبده الصالح تيدوسيس ويتم نعمته عليه، ولا ينزع عنه ملكه ولا الإيمان الذي أعطاه، وأن يعبد الله ولا يشرك به شيئا، وأن يجمع من كان ببلده من المؤمنين. فألقى الله عز وجلّ في نفس رجل من أهل ذلك البلد الذي به الكهف- وكان اسم ذلك الرجل أولياس- أن يهدم ذلك البنيان الّذي على فم الكهف، فيبني به حظيرة لغنمه، فاستأجر عاملين فجعلا ينزعان تلك الحجارة ويبنيان بها تلك الحظيرة حتى نزعا ما على فم الكهف، وفتحا عليهم باب الكهف، فحجبهم الله تعالى من الناس بالرعب. فيزعمون أن أشجع من يريد أن ينظر إليهم أن يدخل من باب الكهف لم يتقدم حتى يرى كلبهم دونهم إلى باب الكهف، نائما. فلما نزعا الحجارة وفتحا باب الكهف أذن الله عز وجلّ بالقدرة والعظمة والسلطان محيي الموتى للفتية أن يجلسوا بين ظهراني الكهف، فجلسوا فرحين مسفرة وجوههم طيبة أنفسهم، فسلّم بعضهم على بعض كأنما استيقظوا من ساعتهم التي كانوا يستيقظون بها إذا أصبحوا من ليلتهم التي يبيتون فيها. ثمّ قاموا إلى الصلاة فصلوا كالذي كانوا يفعلون، لا يرى في وجوههم ولا أبشارهم ولا ألوانهم شيء ينكرونه، وإنما هم كهيئتهم حين رقدوا، وهم يرون أن ملكهم دقيانوس الجبّار في طلبهم. فلما قضوا صلاتهم قالوا لتمليخا صاحب نفقتهم: ائتنا يا أخانا ما الذي قال الناس في شأننا عشية أمس عند هذا الجبّار وهم يظنون أنهم قد رقدوا كبعض ما كانوا يرقدون، وقد خيّل إليهم أنهم قد ناموا كأطول ما كانوا ينامون في الليلة التي أصبحوا فيها، حتى تساءلوا بينهم فقال بعضهم لبعض: كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ. وكل ذلك في أنفسهم يسير، فقال لهم تمليخا: افتقدتم والتمستم بالمدينة وهو يريد أن يؤتى بكم اليوم فتذبحوا للطواغيت أو يقتلكم، فما شاء الله بعد ذلك فعل. فقال لهم مكسلمينا: يا إخوتاه، اعلموا أنكم ملاقو الله، فلا تكفروا بعد إيمانكم إذا دعاكم غدا. ثمّ قالوا لتمليخا: انطلق إلى المدينة فتسمّع ما يقال [عنّا] [[من عرائس المجالس، وفي المخطوط: لنا.]] بها اليوم وما الذي نذكر به عند دقيانوس، وتلطف ولا تشعرنّ بنا أحدا، وابتع لنا طعاما فائتنا به، فإنه قد نالنا الجوع، وزدنا على الطّعام الذي جئتنا به فإنه كان قليلا فقد أصبحنا جياعا. ففعل تمليخا كما كان يفعل، ووضع ثيابه، وأخذ الثياب التي كان يتنكّر فيها، فأخذ ورقا من نفقتهم الّتي كانت معهم التي ضربت بطابع دقيانوس، وكانت كخفاف الربع. فانطلق تمليخا خارجا فلمّا مرّ بباب الكهف رأى حجارة منزوعة عن باب الكهف فعجب منها، ثمّ مرّ فلم يبال بها، حتى أتى باب المدينة مستخفيا يصدّ عن الطريق تخوّفا أن يراه أحد من أهلها فيعرفه فيذهب إلى دقيانوس، ولا يشعر العبد الصالح أن دقيانوس وأهله قد هلكوا قبل ذلك بثلاثمائة سنة. فلما رأى تمليخا باب المدينة رفع بصره فرأى فوق ظهر الباب علامة تكون لأهل الإيمان، فلمّا رآها عجب وجعل ينظر إليها مستخفيا، فنظر يمينا وشمالا ثمّ ترك ذلك الباب فتحوّل إلى باب آخر من أبوابها فنظر فرأى مثل ذلك، فجعل يخيّل إليه أن المدينة ليست بالتي كان يعرف ورأى ناسا كثيرا محدثين لم يكن رآهم قبل ذلك، فجعل يمشي ويعجب ويخيل إليه أنه حيران، ثمّ رجع إلى الباب التي أتى منها، فجعل يتعجب منه ومن نفسه ويقول: يا ليت شعري أمّا هذه عشية أمس فكان المسلمون يخفون هذه العلامة ويستخفون بها، فأما اليوم فإنها ظاهرة فلعلّي حالم ثمّ يرى أنه ليس بنائم، فأخذ كساءه فجعله على رأسه ثمّ دخل المدينة، فجعل يمشي بين ظهراني سوقها فيسمع ناسا كثيرين يحلفون باسم عيسى بن مريم، فزاده فرقا فرأى أنه حيران، فقام مسندا ظهره إلى جدار من جدر المدينة ويقول في نفسه: والله ما أدري ما هذا، أمّا عشية أمس فليس على الأرض إنسان يذكر عيسى بن مريم إلّا قتل، وأمّا الغداة فأسمعهم وكلّ إنسان يذكر أمر عيسى ولا يخاف. ثمّ قال في نفسه: لعلّ هذه المدينة ليست بالمدينة التي أعرفها اسمع كلام أهلها ولا أعرف أحدا منهم والله ما أعلم مدينة قرب مدينتنا! فقام كالحيران لا يتوجّه وجها، ثمّ لقي فتى من أهل المدينة، فقال: ما اسم هذه المدينة يا فتى؟ قال: دفسوس. فقال في نفسه: لعل بي مسّا أو أمرا أذهب عقلي، والله يحقّ لي أن أسرع بالخروج منها قبل أن أخزى أو يصيبني شر فأهلك. هذا الذي حدّث به تمليخا أصحابه حين تبين له حالهم. ثمّ إنّه أفاق فقال: والله لو عجّلت الخروج منها قبل أن يفطن بي لكان أكيس بي. فدنا من الذين يبيعون الطعام فأخرج الورق التي كانت معه فأعطاها رجلا منهم، فقال: يا عبد الله، بعني بهذا الورق طعاما. فأخذها الرجل فنظر إلى ضرب الورق ونقشها، فعجب منها ثمّ طرحها إلى رجل من أصحابه، فنظر إليها. ثمّ جعلوا يتطارحونها من رجل إلى رجل، ويعجبون منها، ثمّ جعلوا يتسارّون من أجله، ففرق فرقا شديدا وجعل يرتعد ويظن أنهم فطنوا به وعرفوه، وأنهم إنما يريدون أن يذهبوا به إلى ملكهم دقيانوس، وجعل أناس آخرون يأتونه فيتعرّفونه، فقال لهم وهو شديد الفرق: أفصلوا عليّ، قد أخذتم ورقي فأمسكوا، وأما طعامكم فلا حاجة لي به. فقالوا: من أنت يا فتى؟ وما شأنك؟ والله لقد وجدت كنزا من كنوز الأوّلين، وأنت تريد أن تخفيه عنا، انطلق معنا فأرناه وشاركنا فيه نخف عليك ما وجدت فإنك إن لم تفعل نأت بك السّلطان فنسلمك إليه فيقتلك. فلما سمع قولهم عجب في نفسه، وقال: قد وقعت في كل شيء أحذر منه، ثمّ قالوا: يا فتى، إنك والله ما تستطيع أن تكتم ما حدث، ولا تظن في نفسك أنك سنخفي عليك. فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم وما يرجع إليهم، وفرق حتى ما يخبرهم شيئا، فلما رأوه لا يتكلم أخذوا كساءه وطوقوه في عنقه، ثمّ جعلوا يقودونه في سكك المدينة مكببا، حتى سمع به من فيها، فقيل: أخذ رجل عنده كنز، فاجتمع عليه أهل المدينة، صغيرهم وكبيرهم، فجعلوا ينظرون إليه ويقولون: والله ما هذه الفتى من أهل هذه المدينة، وما رأيناه فيها قط، وما نعرفه. فجعل تمليخا ما يدري ما يقول لهم مع ما يسمع منهم، فلما اجتمع عليه أهل المدينة فرق وسكت ولم يتكلم، ولو قال إنه من أهل المدينة لم يصدّق، وكان مستيقنا أن أباه وإخوته بالمدينة، وأن حسبه في أهل المدينة من عظماء أهلها، وأنهم سيأتونه إذا سمعوا، وقد استيقن أنه عشية أمس يعرف كثيرا من أهلها وأنه لا يعرف اليوم من أهلها أحدا. فبينا هو قائم كالحيران ينتظر متى يأتيه بعض أهله: أبوه أو بعض إخوته فيخلصه من أيديهم إذ اختطفوه، فانطلقوا به إلى رئيسي المدينة ومدبريها اللذين يدبّران أمرها، وهما رجلان صالحان اسم أحدهما أرموس واسم الآخر أسطيوس. فلما انطلقوا به إليهما ظن تمليخا أنه ينطلق به إلى دقيانوس الجبار ملكهم الذي هربوا منه، فجعل يلتفت يمينا وشمالا، وجعل الناس يسخرون منه كما يسخرون من المجنون والحيران، فجعل تمليخا يبكي ثمّ رفع رأسه إلى السماء وإلى الله عزّ وجلّ، ثمّ قال: اللهم إله السماء والأرض أفرغ عليّ اليوم صبرا وأولج معي روحا منك تؤيّدني به عند هذا الجبار. وجعل يبكي ويقول في نفسه: فرّق بيني وبين إخوتي، يا ليتهم يعلمون ما لقيت وأين يذهب بي، ولو أنهم يعلمون فيأتون فنقوم جميعا بين يدي هذا الجبار، فإنا كنا تواثقنا [لنكونن معا] [[في المخطوط: معا لنكونن.]] لا نكفر بالله ولا نشرك به شيئا ولا نعبد الطواغيت من دون الله [ف-] فرق بيني وبينهم فلن يروني ولن أراهم أبدا، وقد كنا تواثقنا على ألّا نفترق في حياة ولا موت، يا ليت شعري ما هو فاعل بي؟ أقاتلي أم لا؟ هذا ما حدث به تمليخا أصحابه عن نفسه حتى انتهي به إلى الرجلين الصالحين: أرموس وأسطيوس، فلما رأى تمليخا أنه لم يذهب به إلى دقيانوس أفاق وسكن عنه البكاء، فأخذ أرموس وأسطيوس الورق، فنظرا إليه وعجبا منه ثمّ قال أحدهما: أين الكنز الذي وجدت يا فتى؟ هذا الورق يشهد عليك أنك وجدت كنزا. فقال لهم تمليخا: ما وجدت كنزا، ولكن هذا الورق ورق آبائي ونقش هذه المدينة وضربها، ولكن والله ما أدري ما شأني، وما أدري ما أقول لكما. فقال أحدهما: فمن أنت؟ فقال له: أمّا ما أرى فكنت أرى أني من أهل القرية. قالوا له: فمن أبوك [ومن [[في المخطوط: فبيّن.]] ] يعرفك بها؟ فأنبأهم باسم أبيه فلم يجدوا أحدا يعرفه، ولا أباه، فقال له أحدهما: أنت رجل كذّاب لا تخبرنا بالحقّ. ولم يدر ما يقول لهم غير أنه نكس بصره إلى الأرض، فقال بعض من حوله: هذا رجل مجنون. وقال بعضهم: ليس بمجنون، ولكن يحمّق نفسه عمدا لينفلت منكم. فقال له أحدهما، ونظر إليه نظرا شديدا: أتظن أنا نرسلك ونصدقك بأن هذا مال، أبيك وضرب هذا الورق ونقشها أكثر من ثلاثمائة سنة، وأنت غلام شاب تظن أنك تأفكنا وتسخر بنا، ونحن شرط كما ترى، وحولك سراة أهل المدينة وولاة أمرها، وخزائن هذه البلدة بأيدينا، وليس عندنا من هذا الضرب درهم ولا دينار؟ إنني لأظنني سآمر بك فتعذّب عذابا شديدا ثمّ أوثقك حتى تعترف بهذا الكنز الذي وجدت. فلمّا قال له ذلك، قال تمليخا: أنبئوني عن شيء أسألكم عنه، فإن فعلتم صدّقتم ما عندي. قالوا له: سل، ما نكتمك شيئا. فقال: ما فعل الملك دقيانوس؟ قالا له: ليس نعرف ملكا يسمى دقيانوس على وجه الأرض، ولم يكن إلّا ملكا قد هلك منذ زمان ودهر طويل، وهلكت بعده قرون كثيرة. قال لهم تمليخا: فو الله ما هو بمصدّقي أحد من الناس بما أقول، لقد كنا فتية، وإن الملك أكرهنا على عبادة الأوثان والذبح للطواغيت فهربنا منه عشية أمس فنمنا، فلما انتبهنا خرجت لأشتري لأصحابي طعاما وأتجسّس الأخبار فإذا أنا كما ترون، فانطلقوا معي إلى الكهف الذي في جبل ينجلوس أركم أصحابي. فلما سمع أرموس ما يقول تمليخا، قال: يا قوم لعلّ هذه آية من آيات الله عزّ وجلّ جعلها لكم على يدي هذا الفتى، فانطلقوا بنا معه يرنا أصحابه كما قال. فانطلق معهم أرموس وأسطيوس وانطلق معهما أهل المدينة كبيرهم وصغيرهم نحو أصحاب الكهف ينظرون إليهم. ولمّا رأى الفتية أصحاب الكهف أن تمليخا قد احتبس عليهم بطعامهم وشرابهم عن القدر الذي كان يأتي به، ظنوا أنه قد أخذ فذهب به إلى ملكهم دقيانوس الذي هربوا منه، فبينا هم يظنون ذلك ويتخوفون إذ سمعوا الأصوات وجلبة الخيل مصعدة نحوهم، وظنوا أنهم رسل دقيانوس الجبّار وأنه بعث إليهم ليؤتى بهم، فقاموا حين سمعوا ذلك إلى الصلاة، وسلّم بعضهم على بعض، وقالوا: انطلقوا بنا نأت أخانا تمليخا، فإنه الآن بين يدي الجبّار دقيانوس ينتظر متى نأتيه، فبينا هم يقولون ذلك، وهم جلوس بين ظهراني الكهف، فلم يروا إلّا أرموس وأصحابه وقوفا على باب الكهف، وسبقهم تمليخا فدخل عليهم وهو ويبكي، فلما رأوه [[في المخطوط: رأوهم.]] يبكي، بكوا معه وسألوه عن شأنه، فأخبرهم بخبره وقصّ عليهم النبأ كلّه فعرفوا عند ذلك أنهم كانوا نياما بأمر الله ذلك الزمان كلّه، وإنما أوقظوا ليكونوا آية للناس، وتصديقا للبعث، وليعلموا أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها. ثمّ دخل على آثر تمليخا أرموس فرأى تابوتا من نحاس مختوما بخاتم من فضة فقام بباب الكهف، ثمّ دعا رجالا من عظماء المدينة ففتح التابوت عندهم فوجدوا فيه لوحين من رصاص مكتوبا فيها: (إن مكسلمينا ومجسلمينا وتمليخا ومرطولس وكسوطونس وبيوسرس وتكريوس وبطينوس [[يلاحظ أن المعدود ثمانية لا سبعة.]] كانوا فتية هربوا من ملكهم دقيانوس الجبار مخافة أن يفتنهم عن دينهم، فدخلوا هذا الكهف، فلمّا أخبر بمكانهم أمر بالكهف فسدّ عليهم بالحجارة، وإنا كتبنا شأنهم وخبرهم ليعلمه من بعدهم إن عثروا عليهم. فلمّا رأوه عجبوا وحمدوا الله الذي أراهم آية البعث فيهم، ثمّ إنهم رفعوا أصواتهم بحمد الله وتسبيحه، ثمّ دخلوا على فتية الكهف فوجدوهم جلوسا بين ظهرانيه مشرقة وجوههم، لم تبل ثيابهم، فخرّ أرموس وأصحابه سجّدا، وحمدوا الله الذي أراهم آية من آياته، ثمّ كلّم بعضهم بعضا وأنبأهم الفتية عن الذي لقوا من ملكهم دقيانوس. ثمّ إن أرموس وأصحابه بعثوا بريدا إلى ملكهم الصالح تيدوسيس أن عجّل، لعلك تنظر إلى آية من آيات الله جعلها الله على ملكك، وجعلها آية للعالمين لتكون نورا وضياء وتصديقا للبعث، فاعجل على فتية بعثهم الله تعالى، وقد كان توفّاهم منذ أكثر من ثلاثمائة سنة. فلما أتى الملك الخبر قام من المسندة التي كان عليها ورجع إليه عقله، وذهب عنه همّه، ورجع إلى الله عز وجلّ، فقال: أحمدك الله ربّ السماوات والأرض، وأعبدك وأسبّح لك تطوّلت علي، ورحمتني برحمتك، فلم تطفئ النّور الذي كنت جعلت لآبائي وللعبد الصالح قسطيطوس الملك. فلمّا نبّأ به أهل المدينة ركبوا وساروا حتى أتوا مدينة دقيانوس فتلقّاهم أهل المدينة وساروا معه حتى صعدوا نحو الكهف وأتوه، فلما رأى الفتية تيدوسيس فرحوا به وخرّوا سجّدا على وجوههم، وقام تيدوسيس قدامهم ثمّ اعتنقهم وبكى وهم جلوس بين يديه على الأرض يسبّحون الله عزّ وجلّ ويحمدونه، ثمّ قال الفتية لتيدوسيس: نستودعك الله، ونقرأ عليك السلام، وحفظك الله وحفظ ملكك ونعيذك بالله من شرّ الجن والإنس. فبينا الملك قائم إذ رجعوا إلى مضاجعهم فناموا وتوفّى الله أنفسهم، وقام الملك إليهم فجعل ثيابه عليهم وأمر أن يجعل لكل رجل منهم تابوت من ذهب، فلما أمسوا ونام أتوه في المنام فقالوا: إنّا لم نخلق من ذهب ولا فضّة، ولكنا خلقنا من تراب وإلى التراب نصير، فاتركنا كما كنّا في الكهف على التراب حتى يبعثنا الله عزّ وجلّ منه. فأمر الملك حينئذ بتابوت من ساج فجعلوا فيه وحجبهم الله تعالى حين خرجوا من عندهم بالرعب، فلم يقدر أحد على أن يدخل عليهم، وأمر الملك فجعل على باب الكهف مسجد يصلّى فيه، وجعل لهم عيدا عظيما، وأمر أن يؤتى كل سنة. وقيل: إنهم لما أتوا إلى باب الكهف قال تمليخا: دعوني حتّى أدخل على أصحابي فأبشّرهم فإنهم إن رأوكم معي أرعبتموهم. فدخل فبشّرهم، وقبض الله روحه وأرواحهم، وعمي عليهم مكانهم، فلم يهتدوا إليه. فهذا حديث أصحاب أهل الكهف. ويقال: إنّ نبي الله محمدا ﷺ‎ سأل ربّه أن يريه إيّاهم، فقال: «إنّك لن تراهم في دار الدنيا، ولكن ابعث إليهم أربعة من خيار أصحابك ليبلغوهم رسالتك ويدعوهم إلى الإيمان بك» . فقال رسول الله ﷺ‎ لجبرئيل (عليه السلام) : «كيف أبعثهم؟» . قال: «ابسط كساء لهم، وأجلس على طرف من أطرافها أبا بكر، وعلى الثاني عمر وعلى الثالث عليّا، وعلى الرابع أبا ذر، ثمّ ادع الريح الرخاء المسخّر لسليمان بن داود (عليهما السلام) فإن الله تعالى أمرها أن تطيعك» . ففعل النبي ﷺ‎ ما أمره، فحملتهم الريح حتى انطلقت بهم إلى باب الكهف، فلما دنوا من الباب قلعوا منه حجرا، فقام الكلب حين أبصر الضوء فهرّ وحمل عليهم، فلما رآهم حرّك رأسه وبصبص بذنبه وأومأ برأسه أن ادخلوا، فدخلوا الكهف وقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فردّ الله إليهم أرواحهم، فقاموا بأجمعهم وقالوا: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته. فقالوا: إنّ نبي الله محمد ابن عبد الله ﷺ‎ يقرأ عليكم السلام. فقالوا: على محمد رسول الله السلام ما دامت السماوات والأرض، وعليكم بما بلّغتم. ثمّ جلسوا بأجمعهم يتحدثون، فآمنوا بمحمد ﷺ‎، وقبلوا دين الإسلام، وقالوا: أقرئوا محمدا منّا السلام. فأخذوا مضاجعهم وصاروا إلى رقدتهم إلى آخر الزمان عند خروج المهدي. ويقال: إنّ المهدي يسلّم عليهم، فيحييهم الله عزّ وجلّ، ثمّ يرجعون إلى رقدتهم ولا يقومون إلى يوم القيامة. ثمّ جلس كل واحد منهم على مكانه، وحملتهم الريح، وهبط جبرئيل (عليه السلام) [على النبي ﷺ‎] وأخبره بما كان [منهم] [[في المخطوط: منه.]] ، فلما أتوا النبي ﷺ‎، قال رسول الله ﷺ‎: «كيف وجدتموهم؟ وما الذي أجابوا؟» . فقالوا: يا رسول الله، دخلنا عليهم فسلّمنا عليهم، فقاموا بأجمعهم، فردّوا السّلام، وبلّغناهم رسالتك فأجابوا وأنابوا وشهدوا أنّك رسول الله حقا، وحمدوا الله عزّ وجلّ على ما أكرمهم بخروجك وتوجيه رسولك إليهم، وهم يقرئونك السلام. فقال رسول الله ﷺ‎: «اللهم لا تفرّق بيني وبين أصهاري وأحبائي وأختاني، واغفر لمن أحبّني وأحب أهل بيتي وحامّتي، وأحبّ أصحابي» [[تفسير القرطبي: 10/ 390 بتفاوت يسير.]] [67] . فذلك قوله عزّ وجلّ إِذْ أَوَى أي صار وانضم الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ، وهو غار في جبل ينجلوس، واسم الكهف خيرم، فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً أي يسّر لنا ما نلتمس من رضاك. وقال ابن عباس: رَشَداً أي مخرجا من الغار في سلامة. وقيل: صوابا. قوله: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ هذا من فصيحات القرآن التي أقرّت العرب بالقصور عن الإتيان بمثله، ومعناه: أنمناهم وألقينا وسلّطنا عليهم النوم، كما يقال: ضرب الله فلان بالفالج، أي ابتلاه به وأرسله عليه. وقيل: معناه حجبناهم عن السّمع، وسددنا نفوذ الصوت إلى مسامعهم، وهذا وصف الأموات والنيام. وقال قطرب: هو كقول العرب: ضرب الأمير علي يد الرعية، إذا منعهم عن العبث والفساد، وضرب السّيد على يدي عبده المأذون في التجارة، إذا منعه عن التصرّف فيها. قال الأسود بن يعفر، وكان ضريرا: ومن الحوادث لا أبا لك أنني ... ضربت عليّ الأرض بالأسداد [[تفسير القرطبي: 15/ 10.]] سِنِينَ عَدَداً أي معدودة، وهو نعت للسنين، فالعدّ المصدر، والعدد الاسم المعدود، كالنقص والنقض والخبط والحبط. وقال أبو عبيدة: هو نصب على المصدر. ثُمَّ بَعَثْناهُمْ، يعني من نومهم لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً، وذلك حين تنازع المسلمون الأوّلون أصحاب الملك، والمسلمون الآخرون الذين أسلموا حين أوى أصحاب الكهف في قدر مدّة لبثهم في الكهف، فقال المسلمون الأولون: مكثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة وتسع سنين، وقال المسلمون الآخرون: بل مكثوا كذا وكذا. فقال الأوّلون: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا، فذلك قوله: ثُمَّ بَعَثْناهُمْ، لتعلموا أَيُّ الْحِزْبَيْنِ: الفريقين أَحْصى: أصوب وأحفظ لِما لَبِثُوا في كهفهم نياما، أَمَداً: غاية. وقال مجاهد: عددا. وفي نصبه وجهان: أحدهما على التفسير والثاني لوقوع لِما لَبِثُوا عليه. نَحْنُ نَقُصُّ، أي نقرأ وننزل عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ، أي خبر أصحاب الكهف بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ: شبان وأحداث آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، حكم الله لهم بالفتوّة حين آمنوا بلا واسطة لذلك. وقال أهل اللّسان: رأس الفتوّة الإيمان. وقال الجنيد: الفتوّة كفّ الأذى وبذل الندى، وترك الشكوى. وقيل: الفتوّة شيئان: اجتناب المحارم، واستعمال المكارم. وقيل: الفتى من لا يدّعي قبل الفعل، ولا يزكّي نفسه بعد الفعل. وقيل: ليس الفتى من يصبر على السياط، إنما الفتى من جاز على الصراط. وقيل: ليس الفتى من يصبر على السكين، إنما الفتى من يطعم المسكين. وَزِدْناهُمْ هُدىً إيمانا وبصيرة وإيقانا. وَرَبَطْنا: وشددنا عَلى قُلُوبِهِمْ بالصبر، وألهمناهم ذلك، وقوّيناهم بنور الإيمان حتى صبروا على هجران دار قومهم وفراق ما كانوا فيه من خفض العيش، وفرّوا بدينهم إلى الكهف، إِذْ قامُوا بين يدي دقيانوس فَقالُوا حين عاتبهم على تركهم عبادة الصنم: رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا: لن نعبد مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً، يعني إن دعونا غير الله، لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً. قال ابن عباس ومقاتل: جورا. قال قتادة: كذبا. وأصل الشطط والإشطاط: مجاوزة القدر، والإفراط. هؤُلاءِ قَوْمُنَا، يعني أهل بلدهم اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ، أي من دون الله آلِهَةً، يعني الأصنام يعبدونها من دون الله لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ أي هلّا يأتون على عبادتهم بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ: بحجة واضحة فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً، فزعم أنّ له شريكا وولدا؟ ثمّ قال بعضهم لبعض: إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ، يعني قومكم وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ، أي واعتزلتم أصنامهم التي يعبدونها من دون الله. وكذلك هو في مصحف عبد الله: (وما يعبدون من دون الله) . فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ، أي صيروا إليه يَنْشُرْ، أي يبسط لكم ويظهر لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً، أي رزقا رغدا. والمرفق: ما يرتفق به الإنسان، وفيه لغتان: مرفق، ومرفق.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب