الباحث القرآني

مَثَلُهُمْ شبههم. كَمَثَلِ الَّذِي بمعنى الذين، دليله سياق الآية نظير قوله تعالى: وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ ثم قال أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [[سورة البقرة: 177.]] . وقال الشاعر: وانّ الذي حانت بفلج دماؤهم ... هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد [[كتاب العين: 8/ 209، بدل (بفلح) كلمة (بفلج) .]] اسْتَوْقَدَ: أوقد نارا كما يقال: أجاب واستجاب. قال الشاعر: وداع دعانا من يجيب الى النّدى ... فلم يستجبه عند ذاك مجيب [[لسان العرب: 1/ 283.]] فَلَمَّا أَضاءَتْ النار ما حَوْلَهُ يقال: ضاء القمر يضوء ضوءا، وأضاء يضيء إضاءة وأضاء غيره: فَلَمَّا أَضاءَتْ النار يكون لازما ومتعدّيا. وقرأ محمد بن السميقع (ضاءت) بغير ألف. و (حَوْلَهُ) نصب على الظرف. ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ أي أذهب الله نورهم، وإنما قال: (بِنُورِهِمْ) والمذكور في أوّل الآية النار لأنّ النار شيئان النّور والحرارة فذهب نورهم وبقيت الحرارة عليهم. وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ: قال ابن عباس وقتادة والضحّاك ومقاتل والسدي: نزلت هذه الآية في المنافقين. يقول: مثلهم في كفرهم ونفاقهم كمثل رجل أوقد نارا في ليلة مظلمة في مفازة فاستضاء بها فاستدفأ ورأى ما حوله فاتّقى ما يحذر ويخاف فأمن، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فبقي مظلما خائفا متحيّرا، كذلك المنافقون إذا أظهروا كلمة الإيمان استناروا بنورها واعتزّوا بعزّها وناكحوا المسلمين ووارثوهم وقاسموهم الغنائم وأمّنوا على أموالهم وأولادهم، فإذا ماتوا عادوا الى الخوف والظلمة وهووا في العذاب والنقمة. وقال مجاهد: إضاءة النار: إقبالهم الى المسلمين والهدى، وذهاب نورهم: إقبالهم الى المشركين والضّلالة. سعيد بن جبير ومحمد بن كعب وعطاء، ويمان بن رئاب: نزلت في اليهود وانتظارهم خروج النبي ﷺ‎ وإيمانهم به واستفتاحهم به على مشركي العرب، فلمّا خرج كفروا به، وذلك بأنّ قريظة والنضير وبنو قينقاع قدموا من الشام الى يثرب حتى انقطعت النبوة من بني إسرائيل وأفضت الى العرب، فدخلوا المدينة يشهدون لمحمد ﷺ‎ بالنبوة وأنّ أمّته خير الأمم وكان يغشاهم رجل من بني إسرائيل يقال له: عبد الله بن هيبان قبل أن يوحي الى رسول الله ﷺ‎ كلّ سنة فيعظهم على طاعة الله تعالى وإقامة التوراة والإيمان بمحمد ﷺ‎ رسول إذا خرج: فلا تفرّقوا عنه وانصروه وقد كنت أطمع أن أدركه، ثمّ مات قبل خروج النبي ﷺ‎ فقبلوا منه، ثم لمّا خرج رسول الله ﷺ‎ كفروا به فضرب الله لهم هذا المثل. وقال الضحاك: لمّا أضاءت النار أرسل الله عليه ريحا قاصفا فأطفأها، فكذلك اليهود كلّما أوقدوا نارا لحرب محمد ﷺ‎ أَطْفَأَهَا اللَّهُ. ثم وصفهم جميعا فقال: صُمٌّ: أي هم صمّ عن الهدى فلا يسمعون. بُكْمٌ: عنه فلا يقولون. عُمْيٌ: عنه فلا يرونه. وقيل: صُمٌّ يتصاممون عن سماع الحقّ، بُكْمٌ يتباكمون عن قول الحقّ، عُمْيٌ يتعامون عن النظر الى الحق بغير اعتبار. وقرأ عبد الله: صمّا بكما عميا على معنى وتركهم كذلك، وقيل: على الذّم، وقيل: على الحال. فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ عن الضلالة والكفر الى الهداية والإيمان. ثم قال: أَوْ كَصَيِّبٍ هذا مثل آخر ضربه الله لهم أيضا معطوف على المثل الأوّل مجازه: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ومثلهم أيضا كَصَيِّبٍ. قال أهل المعاني: (أَوْ) بمعنى الواو، يريد وكصيّب، كقوله تعالى: أَمْ تُرِيدُونَ [[سورة البقرة: 108.]] وأنشد الفرّاء: وقد زعمت سلمى بأنّي فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها [[لسان العرب: 14/ 55.]] وأنشد أبو عبيدة: يصيب قد راح يروي الغدرا ... [فاستوعب] الأرض لمّا أن سرا وأصله من صاب يصوب صوبا إذا نزل. قال الشاعر: فلست لإنسي ولكن لملاك ... تنزّل من جوّ السماء يصوب [[لسان العرب: 10/ 394، وتاج العروس: 1/ 339.]] وقال امرأ القيس: كأن المدام وصوب الغمام ... وريح الخزامي ونشر القطر [[تاج العروس: 3/ 565.]] فسمّي المطر صيّبا لأنّه ينزل من السماء. واختلف النّحاة في وزنه من الفعل، فقال البصريون: هو على وزن فيعل بكسر العين، ولا يوجد هذا المثال إلّا في المعتل نحو سيّد وميّت وليّن وهيّن وضيّق وطيّب، وأصله صهيوب، فجعلت الواو ياء فأدغمت إحدى الياءين في الأخرى. وقال الكوفيون: هو وأمثاله على وزن فعيل بكسر العين وأصله: صييب فاستثقلت الكسرة على الياء فسكّنت وأدغمت إحداهما في الأخرى وحرّكت الى الكسر. والسماء: كلّ ما علاك فأظلك [[لسان العرب: 14/ 398.]] وأصله: سماو لأنه من سما يسمو، فقلبت الواو همزة لأنّ الألف لا تخلو من مدّة وتلك المدّة كالحركة، وهو من أسماء الأجناس، يكون واحدا أو جمعا، قال الله: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ [[سورة البقرة: 29.]] ثم قال: فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ [[سورة البقرة: 29.]] . وقيل: هو جمع واحدتها سماوة، والسموات جمع الجمع. قال الرّاجز: سماوة الهلال حتى احقوقفا ... طي الليالي زلفا فزلفا [[لسان العرب: 9/ 52، ولكن العبارة هكذا: طي الليالي زلفا فزلفا ... سماوة الهلال حتى احقوقفا]] فِيهِ أي في الصيّب، وقيل: في الليل كناية عن [ضمير] مذكور، وقيل: في السماء لأنّ المراد بالسماء السّحاب، وقيل: هو عائد الى السماء على لغة من يذكرها. قال الشاعر: فلو رفع السماء إليه قوما ... لحقنا بالسماء مع السّحاب [[لسان العرب: 14/ 398.]] والسماء يذكّر ويؤنّث. قال الله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [[سورة المزمل: 18.]] . وقال: إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ [[سورة الإنفطار: 1.]] . ظُلُماتٌ: جمع ظلمة، وضمّت اللام على الإتباع بضمّ الظاء. وقرأ الأعمش: (ظُلْماتٌ) بسكون اللام على أصل الكلام لأنّها ساكنة في التوحيد. كقول الشاعر وهو ذو الرّمّة: أبت ذكر من عوّدن أحشاء قلبه ... خفوقا ورفصات الهوى في المفاصل [[لسان العرب: 1/ 475.]] ونزّل الفاء ساكنة على حالها في التوحيد. وقرأ أشهب العقيلي: (ظُلَماتٌ) بفتح اللام، وذلك إنّه لمّا أراد تحريك اللام حرّكها الى أخفّ الحركات. كقول الشاعر: فلمّا رأونا باديا ركباتنا ... على موطن لا نخلط [[في تفسير القرطبي: «نخلط» بدلا من «يخلط» .]] الجدّ بالهزل [[تفسير القرطبي: 16/ 310.]] وَرَعْدٌ: وهو الصوت الذي يخرج من السحاب. وَبَرْقٌ: وهو النار الذي تخرج منه. قال مجاهد: الرعد ملك يسبّح بحمده، يقال لذلك الملك: رعد، والصّريم أيضا رعد. والبرق: ملك يسوق السحاب. وقال عكرمة: الرعد ملك موكّل بالسحاب يسوقها كما يسوق الراعي الإبل [[زاد المسير: 1/ 34.]] . شهر بن حوشب: الرعد ملك يزجي السحاب كما يحثّ الراعي الإبل فإذا انتبذت السحاب ضمّها فإذا اشتدّ غضبه طار من فيه النار فهي الصواعق. ربيعة بن الأبيض عن علي عليه السّلام قال: البرق مخاريق الملائكة [[السنن الكبرى (البيهقي) : 3/ 363 الصحاح (الجوهري) : 4/ 1467.]] . وقال أبو الدرداء: الرعد للتسبيح، والبرق للخوف والطمع، والبرد عقوبة، والصواعق للخطيئة، والجراد رزق لقوم وزجر لآخرين، والبحر بمكيال، والجبال بميزان. وأصل البرق من البريق والضوء، والصواعق: المهالك، وهو جمع صاعقة، والصاعقة والصاقعة والصّعقة: المهلكة، ومنه قيل: صعق الإنسان، إذا غشي عليه، وصعق، إذا مات. حَذَرَ الْمَوْتِ أي مخافة الموت، وهو نصب على المصدر، وقيل لنزع حرف الصفة. وقرأ قتادة: حذار الموت. وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ أي عالم بهم، يدل عليه قوله: وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً [[سورة الطلاق: 12.]] . وقيل: معناه: والله مهلكهم وجامعهم، دليله قوله: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [[سورة يوسف: 66.]] : أي تهلكوا جميعا. وأمال أبو عمرو والكسائي (الكافرين) في حال الخفض والنّصب ولكسرة الفاء والراء. يَكادُ الْبَرْقُ أي يقرب. يقال: كاد، أي قرب ولم يفعل، والعرب تقول: كاد يفعل- بحذف أن- فإذا سببّوه بقي قالوا: كاد أن يفعل، والأوّل أوضح وأظهر. قال الشاعر: قد كاد من طول البلى أن تمسحا يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ: أي يخطفها ويشغلها، ومنه الخطّاف. وقرأ أبيّ: يتخطف. وقرأ ابن أبي إسحاق: نصب الخاء والتشديد (يخطّف) فأدغم. وقرأ الحسن: كسر الخاء والطّاء مع التشديد أتبع الكسرة الكسرة. وقرأ العامة: التخفيف لقوله: فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ [[سورة الحج: 31.]] وقوله: إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ [[سورة الصافات: 10.]] . كُلَّما: حرف علة ضمّ إليه (ما) الجزاء فصار أداة للتكرار، وهي منصوبة بالظرف، ومعناهما: متى ما. أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ: وفي حرف عبد الله [.....] [[غير مقروءة في المخطوط.]] . وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا: أي أقاموا ووقفوا متحيّرين. القول في معنى الآيتين ونظمهما وحكمهما قوله تعالى: أَوْ كَصَيِّبٍ أي كأصحاب صيّب، كقوله: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ [[سورة يوسف: 82.]] شبههم الله في كفرهم ونفاقهم وحيرتهم وتردّدهم بقوم كانوا في مفازة في ليلة مظلمة فأصابهم مطر فيه ظلمات من صفتها إنّ الساري لا يمكنه المشي من ظلمته، فذلك قوله: إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا. ورعد من صفته أن يضع السامع يده الى أذنه من الهول والفرق مخافة الموت والصعق، ذلك قوله تعالى: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ. وبرق من صفته أن يقرب من أن يخطف أبصارهم ويذهب بضوئها ونعيمها من كثرته وشدّة توقّده، وذلك قوله يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ. وهذا مثل ضربه الله تعالى للقرآن واجماع الناس والكافرين معه: فالمطر: هو القرآن لأنه حياة الجنان كما أن المطر حياة الأبدان. فِيهِ ظُلُماتٌ وهو ما في القرآن من ذكر الكفر والشرك والشك وبيان الفتن والمحن. وَرَعْدٌ: وهو ما خوّفوا به من الوعيد وذكر النار والزّواجر والنواهي. وَبَرْقٌ: وهو ما في القرآن من الشفاء والبيان والهدى والنّور والرعد وذكر الجنة. فكما أنّ أصحاب الرعد والبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم حذر الموت كذلك المنافقون واليهود والكافرون يسدّون آذانهم عند قراءة القرآن ولا يصغون إليه مخافة ميل القلب الى القرآن فيؤدّي ذلك الى الإيمان لأنّ الإيمان بمحمد ﷺ‎ عندهم كفر والكفر موت. وقال قتادة: هذا مثل ضربه الله للمنافق لجبنه، لا يسمع صوتا إلّا ظنّ أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلّا ظنّ إنه ميّت أجبن قوم وأخذ له للحق [[تفسير الدر المنثور: 1/ 33.]] كما قال في آية أخرى: يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ [[سورة المنافقون: 4.]] . وقوله: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا يعني المنافقين إذا أظهروا كلمة الإيمان أمنوا وصارت لهم نورا فإذا ماتوا عادوا الى الخشية والظلمة. قتادة: والمنافق إذا كثر ماله وحسن حاله وأصاب في الإسلام رخاء وعافية ثبت عليه فقال: أنا معكم، وإذ ذهب ماله وأصابته شدّة، قام متحيرا وخفق عندها فلم يصبر على بلائها ولم يحتسب أجرها. وتفسيره في سورة الحجّ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [[سورة الحج: 11.]] الآية. الوالبي عن ابن عباس: هم اليهود لما نصر رسول الله ﷺ‎ ببدر طمعوا وقالوا: هذا والله النبي الذي بشرّنا به موسى لا تردّ له راية، فلمّا نكب بأحد ارتدّوا وسكتوا. وَلَوْ: حرف تمنّي وشك وفيه معنى الجزاء وجوابه اللام. ومعنى الآية: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ: أي أسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنية حتى صاروا صمّا بكما عميا. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ قادر، وكان حمزة يكسر شِاء، وجِاء وأمثالها لانكسار فاء الفعل، إذا أخبرت عن نفسك قلت: شئت وجئت وزدتّ وطبت وغيرها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب