الباحث القرآني

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ فرض عليكم القتال، واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال بعضهم: عنى بذلك أصحاب رسول الله ﷺ‎ خاصة دون غيرهم، وقال ابن جريج قلت لعطاء: قوله: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ أواجب الغزو على الناس من أجلها أو كتب على أولئك حينئذ؟ وأجرى بعضهم الآية على ظاهرها فقال: الغزو فرض واجب على المسلمين كلّهم إلى قيام الساعة. روى ابن أبي أنيسة عن أنس قال: قال رسول الله ﷺ‎: «ثلاث من أصل الإيمان: الكفّ عمّن قال: لا إله إلّا الله ما لم يره بذنب، ولا يخرجه من الإسلام بعمل، والجهاد ماض منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدّجال لا يبطنه ضنّ ولا شك، والإيمان بالأقدار» [114] [[سنن أبي داود: 1/ 569 ح 253، وبعد قوله الدجال، فيه: لا يبطله جور جائر ولا عدل عادل، وكذا في السنن الكبرى للبيهقي: 9/ 156.]] . أبو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ‎: «من مات ولم يغز ولم يحدّث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» [115] [[الدر المنثور: 1/ 245، وصحيح مسلم: 6/ 94.]] وقال بعضهم: هو فرض على الكفاية إذا قام به البعض سقط من الباقين. عن أحمد بن أنمار: وردّ السلام وتسميت العاطس وهو القول الصحيح المشهور الذي عليه الجمهور. وقال الزهري والأوزاعي: كتب الله الجهاد على الناس غزوا أو قعدوا، فمن غزا فبها ونعمت، ومن قعد فهو حرّ، إن استعين به أعان وإن استنفر نفر وإن استغني عنه قعد [[راجع أحكام القرآن للجصّاص: 3/ 147.]] ، فإنما يرجح عليه عطاء الواجب المال وإلّا فلا، من شاء غزا ومن شاء لم يغز، ويدلّ على صحة هذا القول قول الله تعالى فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ ... عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى، ولو كان القاعدون مضيعين فرضا لكان لهم السوأى لا الحسنى والله أعلم. وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ شاقّ عليكم، واتفق القرّاء على ضم الكاف هاهنا إلّا أبا عبد الرحمن السلمي، فإنه قرأها وَهُوَ كَرْهٌ بفتح الكاف وهما لغتان بمعنى واحد، مثل الغسل والغسل، والضّعف والضّعف، والرّهب والرّهب، وقال أكثر أهل اللغة: الكره بالضم المشقة وبالفتح الإجهاد. بعضهم: الكره بالفتح المصدر، وبالضم الاسم. وقال أهل المعاني: هذا الكره من حيث نفور الطبع عنه لما يدخل فيه على المال من المؤونة وعلى النفس من المشقّة وعلى الروح من الخطر لأنهم أظهروا الكراهة أو كرهوا أمر الله عزّ وجلّ. قال عكرمة: نسختها هذه الآية وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا يعني أنهم كرهوه ثم أحبّوه وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا قال الله عزّ وجلّ: وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لأن في الغزو أحد الحسنيين إمّا الظفر والغنيمة، وإمّا الشهادة والجنة وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً يعني القعود عن الغزو وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ لما فيه من الذل والصغر وحرمان الغنيمة والأجر وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ. قال ابن عباس: كنت ردف النبي ﷺ‎ فقال: «يا بن عباس ارض عن الله بما قدّر وإن كان خلاف هواك إنه مثبّت في كتاب الله» . قلت: يا رسول الله أين وقد قرأت القرآن، قال: «مكانين» وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ» [116] [[تفسير الطبري: 2/ 470.]] . عاصم بن علي المسعودي قال: قال الحسن: لا تكره الملمات الواقعة والبلايا الحادثة فلربّ أمر تكرهه فيه نجاتك، ولربّ أمر ترجوه فيه عطبك، وأنشد أبو سعيد الضرير: ربّ أمر تتقيه جرّ أمرا ترتضيه ... خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه [[تفسير القرطبي: 3/ 39.]] وأنشد محمد بن عرفة لعبد الله بن المعتز: لا تكره المكروه عند نزوله ... إن الحوادث لم تزل متباينه كم نعمة لا تستقل بشكرها ... لله في درج الحوادث كامنه عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه قال: بعث المتوكل إلى محمد بن الليث رسولا وقد كان بقي مدة في منزله فلمّا أتاه الرسول [امتثل] فركب بلا روح خوفا فمرّ به رجل وهو يقول: كم مرّة حفّت بك المكاره ... خار لك الله وأنت كاره فلمّا دخل على المتوكل ولّاه مصر وأمر له بمائة ألف وجميع ما يحتاج إليه من الآلات والدواب والغلمان. قال الثعلبي: أنشدني الحسن بن محمد قال: أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال: أنشدني محمد بن الفرحان: كم فرحة مطوية لك بين أثناء النوائب ... ومضرّة قد أقبلت من حيث تنتظر المصائب [[تاريخ مدينة دمشق: 42/ وجاء فيه: وذكر أنه لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السّلام.]] قال: وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال: أنشدنا أبو عبد الله الوضاحي: ربّما خيّر الفتى وهو للخير كاره ... ثم يأتي السرور من حيث تأتي المكاره يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ الآية، قال المفسّرون: بعث رسول الله ﷺ‎ عبد الله بن جحش وهو ابن عمّة النبي ﷺ‎ في جمادى الآخرة قبل قتال بدر بشهرين على رأس ستة عشر شهرا من مقدمه المدينة، وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين: سعد بن أبي وقاص الزهري وعكاشة بن محصن الأسدي وعتبة بن غزوان السلمي وأبو حذيفة بن عتبة بن ربيعة وسهيل بن بيضاء وعامر بن ربيعة وواقد بن عبد الله وخالد بن بكر وكتب بإمرة عبد الله بن جحش كتابا وقال: سر على اسم الله ولا تنظر في الكتاب حتّى تسير يومين، فإذا نزلت منزلين فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك، ثم امض لما أمرتك، ولا تكرهنّ أحدا من أصحابك على السير معك، فسار عبد الله يومين ثم نزل وفتح الكتاب فإذا فيه: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، أما بعد فسر على بركة الله بمن تبعك من أصحابك حتّى تنزل بطن نخلة فترصّد بها عير قريش لعلّك أن تأتينا منه بخبر، فلمّا نظر عبد الله بن جحش قال: سمعا وطاعة ثم قال ذلك لأصحابه وقال: إنه قد نهاني أن استكره أحدا منكم، فمن كان يريد الشهادة فلينطلق، ومن كره ذلك فليرجع، فإني ماض لأمر رسول الله ﷺ‎. ثم مضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد حتّى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له: نجوان أضلّ سعد بن أبي وقاص وعتبة بن غزوان بعيرا لهما كانا يتعقبانه فاستأذنا أن يتخلّفا في طلب بعيرهما، فأذن لهما فتخلفا في طلبه، ومضى عبد الله ببقيتهم حتّى نزلوا بطن نخلة بين مكة والطائف، فبينا هم كذلك إذ مرّ بهم عير لقريش تحمل زبيبا وأديما وتجارة من تجار الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله بن المغيرة ونوفل ابن عبد الله المخزوميان، فلمّا رأوا أصحاب رسول الله ﷺ‎ خافوهم، فقال عبد الله بن جحش: إنّ القوم قد ذعروا منكم فاحلقوا رأس رجل منكم فليتعرض لهم فإذا رأوه محلوقا أمنوا، وقالوا: قوم عمّار، فحلقوا رأس عكاشة ثمّ أشرف عليهم وقالوا: قوم عمّار لا بأس عليكم فأمّنوهم. وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة وكانوا يرون أنّه من جمادى وهو من رجب، فتشاور القوم بينهم وقالوا: لئن تركتموهم هذه الليلة لتدخلنّ الحرم فليمنعنّ منكم فأجمعوا أمركم في مواقعة القوم فرمى واقد بن عبد الله [[في تاريخ المدينة: التميمي.]] السهمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله، فكان أول قتيل من المشركين واستأسرا الحكم وعثمان [[الحكم بن كيسان وعثمان بن عبد الله.]] فكانا أول أسيرين في الإسلام وأفلت الآخران فأعجزاهم، واستاق المؤمنون العير والأسيرين حتّى قدموا على رسول الله ﷺ‎ بالمدينة، فقالت قريش: قد استحلّ محمد الشهر الحرام، شهرا يأمن فيه الخائف وينذعر فيه الناس لمعايشهم، فسفك فيه الدماء، وأخذ فيه الحرائر، وعيّر بذلك أهل مكة من كان بها من المسلمين، وقالوا: يا معشر الصباة استحللتم الشهر الحرام وقاتلتم فيه، وتفاءلت اليهود بذلك وقالوا: واقد: وقدت الحرب وعمروا: عمرت الحرب، والحضرمي: حضرت الحرب. وبلغ ذلك رسول الله ﷺ‎ فقال لابن جحش وأصحابه: ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، ودفعت العير والأسيرين فأبى أن يأخذ من ذلك شيئا، فعظم ذلك على أصحاب السريّة وظنّوا أن قد هلكوا وسقطوا في أيديهم وقالوا: يا رسول الله إنّا قتلنا ابن الحضرمي ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أمسينا أم في جمادى، وأكثر الناس في ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية فأخذ رسول الله العير فعزل منها الخمس، فكان أول خمس في الإسلام، وقسّم الباقي بين أصحاب السريّة، فكان أول غنيمة في الإسلام، وبعث أهل مكة في فداء أسيرهم فقال: بل نوقفهم حتّى يقدم سعد وعتبة وإن لم يقدما قتلناهما، فلمّا قدما فداهم. وأما الحكم بن كيسان فأسلم وأقام مع رسول الله ﷺ‎ بالمدينة فقتل يوم بئر معونة شهيدا، وأمّا عثمان بن عبد الله فرجع إلى مكة ومات فيها كافرا، وأمّا نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزاب ليدخل الخندق على المسلمين، فوقع في الخندق مع فرسه فتحطّما جميعا، وقتله الله وحجب المشركون جيفته بالثمن فقال رسول الله ﷺ‎: «خذوه فإنّه خبيث الجيفة خبيث الدية» [117] [[أسباب نزول الآيات: 44.]] فهذا سبب نزول قوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ يعني توخيا، سمّي بذلك لتحريم القتال فيه لعظم حرمته، وكذلك كان يسمّى في الجاهلية، تنزع الأسنّة وتفصل الالّ، لأنهم كانوا ينزعون الأسنّة والنصال عند دخول رجب انطواء على ترك القتال فيه، وكان يدعى الأصمّ لأنه لا تسمع فيه قعقعة السلاح فنسب الصمم إليه، كما قيل: ليل نائم، وسرّ كاتم. يدلّ عليه ما روى عطاء عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ‎: «إن رجب شهر الله ويدعى الأصمّ، وكان أهل الجاهلية إذا دخل رجب يعطلون أسلحتهم ويضعونها، وكان الناس يأمنون ويأمن السبيل فلا يخاف بعضهم بعضا حتّى ينقضي» [118] [[كنز العمال: 12/ 311 ح 35167.]] . قِتالٍ فِيهِ خفضه على تكرير (عن) ، تقديره: وهل قتال فيه وكذلك هي في قراءة عبد الله ابن مسعود والربيع بن أنس قُلْ يا محمد قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ عظيم ثم [كلام] ثم قتال وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ منع عن سبيل الله على الابتداء وخبره أَكْبَرُ، وذلك حين منعوا رسول الله ﷺ‎ عن البيت وَكُفْرٌ بِهِ أي بالله وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي وبالمسجد وَإِخْراجُ أَهْلِهِ أي أهل المسجد مِنْهُ أَكْبَرُ وأعظم وزرا وعقوبة عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أي الشرك أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ، يعني قتل ابن الحضرمي فلمّا نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش الى مؤمني مكّة: إذا عيّركم المشركون بالقتال في الشهر الحرام فعيّروهم أنتم بالكفر وإخراج رسول الله ﷺ‎ من مكّة ومنعهم عن البيت. ثم قال: وَلا يَزالُونَ يعني مشركي قريش وهو فعل لا مفعول له مثل عسى يُقاتِلُونَكُمْ يا معشر المؤمنين حَتَّى يَرُدُّوكُمْ يصدّوكم ويصرفوكم عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ جزم بالنسق ولو كان جوابا لكان [ ... ] وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ بطلت أَعْمالُهُمْ حسناتهم فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وأصل الحبط من الحباط [وهو من الحبط وهو فساد يلحق الماشية في بطونها لأكل الحباط [[وهو ضرب من الكلأ.]] ] [[زيادة عن تفسير القرطبي: 3/ 53.]] وهو أن تنتفخ بطنه فيموت، ثم سمّي الهلال حبطا، وقرأ الحسن حَبَطَتْ بفتح الباء في جميع القرآن يحبط بكسر الباء أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ فقال أصحاب السريّة: يا رسول الله هل [نؤثم] [[كنز العمال: 12/ 311 ح 35167.]] على رجبنا وهل نطمع أن يكون سفرنا هذا غزوا؟ فأنزل الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا فارقوا عشائرهم ومنازلهم وأموالهم وَجاهَدُوا المشركين في نصرة الدين فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعة الله، فجعلها جهادا أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب