الباحث القرآني

فَإِنْ طَلَّقَها يعني ثلاثا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ يعني من بعد التطليقة الثالثة، وبعد رفع على الغاية حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ أي غير المطلّق فيجامعها، والنكاح يتناول العقد والوطء جميعا. نزلت هذه الآية في تميمة، وقيل: عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك القرطي، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرطي، وكان ابن عمها فطلّقها ثلاثا، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير وما معه إلّا مثل هدبة الثوب، وإنه طلقني قبل أن يمسّني أفأرجع إلى ابن عمي زوجي الأول؟ فتبسّم رسول الله ﷺ‎ وقال: «أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة، لا حتّى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» . قال: وأبو بكر جالس عند النبي ﷺ‎، وخالد بن سعيد بن العاص جالس بباب الحجرة فطفق خالد ينادي: يا أبا بكر ألا تزجر هذه عما تهجر به عند رسول الله [148] [[مسند أحمد: 6/ 34، 37، 226، وجامع البيان للطبري: 2/ 626.]] ، والعسيلة اسم للجماع، وأصلها من العسل شبّه للّذة التي ينالها الإنسان في تلك الحال بالعسل يقال منه: عسلها يعسلها عسلا إذا جامعها. فلبثت ما شاء الله أن تلبث ثم رجعت إلى النبي ﷺ‎ فقالت: إن زوجي كان قد مسّني، فقال لها النبي ﷺ‎: «كذبت بقولك الأول فلن نصدّقك في الآخر» [149] فلبثت حتّى قبض النبي ﷺ‎ فأتت أبا بكر، فقالت: يا خليفة رسول الله أرجع إلى زوجي الأول، فإن زوجي الآخر قد مسّني وطلّقني، فقال أبو بكر: قد شهدت رسول الله ﷺ‎ حين أتيته، وقال لك ما قال فلا ترجعي إليه، فلمّا قبض أبو بكر أتت عمر (رضي الله عنه) وقالت له مثل ما قالت لأبي بكر، فقال عمر: لئن رجعت إليه لأرجمنّك، فإن الله تعالى قد أنزل فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها زوجها الثاني أو مات عنها بعد ما جامعها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما يعني على المرأة المطلّقة وعلى الزوج الأول أَنْ يَتَراجَعا بنكاح جديد، فذكر النكاح بلفظ التراجع إِنْ ظَنَّا علما، وقيل: رجوا، قالوا: ولا يجوز أن يكون بمعنى العلم لأنّ أحدا لا يعلم ما هو كائن إلّا الله عزّ وجلّ أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ يعني ما بيّن الله من حق أحدهما على الآخر، ومحلّ (أن) في قوله أَنْ يَتَراجَعا نصب بنزع حرف الجر أي في أن يتراجعا، وفي قوله أَنْ يُقِيما نصب بوقوع الظن عليه. وقال مجاهد: ومعناه إن علما أنّ نكاحهما على غير دلسة، وأراد بالدلسة التحليل، هذا مذهب سفيان والأوزاعي ومالك وأبي عبيدة وأحمد وإسحاق، قالوا في الرجل يطلّق امرأته ثلاثا فتزّوج زوجا غيره ليحلّها لزوجها الأول: إن النكاح فاسد، وكان الشافعي يقول: إذا تزوّجها ليحلّها فالنكاح ثابت إذا لم يشترط ذلك في عقد النكاح مثل أن يقول: أنكحك حتى أصيبك فتحلّي لزوجك الأول، فإذا اشترط هذا فالنكاح باطل، وما كان من شرط قبل عقد النكاح فلا يفسد النكاح. وقال نافع أتى رجل ابن عمر فقال: إنّ رجلا طلّق امرأته ثلاثا، فانطلق أخ له من غير مراجعة فتزوجها ليحلّها للأول فقال: لا، إلّا بنكاح رغبة، كنّا نعدّ هذا سفاحا على عهد رسول الله ﷺ‎، وقال عليه السّلام: «لعن الله المحلّل والمحلّل له» [150] [[سنن ابن ماجة: 1/ 622.]] . عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ‎: «ألا أدلّكم على التيس المستعار؟» قالوا: بلى يا رسول الله، قال: «هو المحلّل والمحلّل له» [151] [[كنز العمال: 9/ 706 ح 28066.]] . قبيصة بن جابر الأسدي، قال: سمعت عمر بن الخطاب يخطب وهو على المنبر: والله لا أوتى بمحلّل ولا بمحلّل له إلّا رجمتها. وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها روى المفضل وأبان عن عاصم بالنون لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ نزلت في رجل من الأنصار يدعى ثابت بن يسار، طلّقت امرأته حتّى إذا انقضت عدتها إلّا يومين أو ثلاثة وكادت تبين منه، راجعها ثم طلقها، ففعل بها ذلك حتّى مضيت لها تسعة أشهر مضارة لها بذلك، ولم يكن الطلاق يومئذ محصورا، وكان إذا أراد الرجل أن يضارّ امرأته طلقها ثم تركها حتّى تحيض الحيضة الثالثة، ثم راجعها ثم طلّقها فتطويله عليها هو الضرار، فأنزل الله تعالى وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ أي أمرهنّ في أن تبين بانقضاء العدة، ولم يرد إذا انقضت عدتهنّ لأنها إذا انقضت عدّتها لم يكن للزوج إمساكها، فالبلوغ هاهنا بلوغ مقاربة، وقوله بعد هذا فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ بلوغ انقضاء وانتهاء، والبلوغ يتناول المعنيين جميعا، يقال: بلغ المدينة إذا صار إلى حدّها وإذا دخلها. فَأَمْسِكُوهُنَّ أي راجعوهنّ بِمَعْرُوفٍ قال محمد بن جرير: بمعروف أي بإشهاد على الرجعة وعقد لها دون الرجعة بالوطء أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أي اتركوهنّ حتّى تنقضي عدّتهنّ، وكنّ أملك لأنفسهنّ. وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً مضارّة وأنتم لا حاجة بكم إليهنّ لِتَعْتَدُوا عليهن بتطويل العدّة وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ الاعتداء فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ ضرّها بمخالفة أمر الله عزّ وجلّ. مرّة الطيب، عن أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله ﷺ‎: «ملعون من ضارّ مسلما أو ماكره» [152] [[سنن الترمذي: 3/ 223.]] . وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً الحسن عن أبي الدرداء قال: كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول: إنّما طلّقت وأنا لاعب فيرجع فيها ويعتق، فيقول مثل ذلك ويرجع فيه وينكح، ويقول مثل ذلك، فأنزل الله تعالى وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً يقول: حدود الله وقرأها رسول الله ﷺ‎، فقال: من طلق أو حرّر وأنكح وزعم أنّه لاعب فهو جدّ ، وفي الخبر: خمس جدّهنّ جدّ وهزلهنّ جدّ: الطلاق، والعتاق، والنكاح، والرجعة، والنذر. وعن أبي موسى، قال: غضب رسول الله ﷺ‎ على الأشعريين قال: يقول «أحدكم لامرأته: قد طلقتك، قد راجعتك، ليس هذا طلاق المسلمين، طلّقوا المرأة في قبل طمثها [[في تفسير الطبري والدر المنثور: (1/ 286) : عدتها.]] [[بتفاوت في سنن ابن ماجة: 1/ 650 ح 2017، والسنن الكبرى: 7/ 322، وتمامه في تفسير الطبري: 2/ 655.]] . وقال الكلبي وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً يعني قوله فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ. وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ بالإيمان وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ يعني القرآن وَالْحِكْمَةِ يعني مواعظ القرآن والحدود والأحكام. يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ الآية، نزلت في جميلة بنت يسار أخت معقل بن يسار المزني، كانت تحت أبي البدّاح عاصم بن عدي بن عجلان، فطلّقها تطليقة واحدة ثم تركها حتّى انقضت عدّتها ثم جاء يخطبها وأراد مراجعتها وكان رجل صدق، وكانت المرأة تحبّ مراجعته، فمنعها أخوها معقل وقال لها: لئن راجعته لا أكلمك أبدا، وقال لزوجها: أفرشتك كريمتي وآثرتك بها على قومي فطلّقتها، ثم لم تراجعها حتّى إذا انقضت عدّتها جئت تخطبها، والله لا أنكحك بها أبدا، وحمى أنفا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فدعا رسول الله معقلا وتلاها عليه، فقال: فإني أؤمن بالله واليوم الآخر، فأنكحها إيّاه وكفّر يمينه على قول أكثر المفسّرين. وقال السدّي: نزلت هذه الآية في جابر بن عبد الله الأنصاري، وكانت له بنت عم فطلّقها زوجها تطليقة واحدة وانقضت عدّتها ثم أراد رجعتها، فأتى جابر فقال: طلّقت ابنة عمي ثم تريد أن تنكحها الثانية، وكانت المرأة تريد زوجها فأنزل الله وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فانقضت عدّتهن قال الزجّاج: الأجل آخر المدة وعاقبة الأمور، قال لبيد: فاخرها بالبرّ لله الأجل يريد عاقبة الأمور. فَلا تَعْضُلُوهُنَّ فلا تمنعوهنّ، والعضل: المنع من التزوّج، وأنشد الأخفش: ونحن عضلنا بالرماح لسانا ... وما فيكم عن حرمة له عاضل وأنشد: وأن قصائدي لك فاصطنعني ... كرائم قد عضلن عن النكاح وأصل العضل الضيق والشدّة، يقال: عضلت المرأة والشاة إذا تشبث ولدهما في بطنهما فضاق عليه الخروج، وعضلت الدجاجة إذا تشبّث البيض فيها، وعضل الفضاء بالجلّس إذا ضاق عليهم لكثرتهم، ويقال: ذا عضال إذا ضاق علاجه فلا يطاق، ويقال: عضل الأمر إذا اشتدّ وضاق. قال عمر (رضي الله عنه) : أعضل أهل الكوفة لا يرضون بأمير ولا يرضاهم أمير، وقال أوس بن حجر: وليس أخوك الدائم العهد بالذي ... يذمّك إن ولّى ويرضيك مقبلا ولكنّه النائي إذا كنت آمنا ... وصاحبك الأدنى إذا الأمر أعضلا [[جامع البيان للطبري: 2/ 661.]] قال طاوس: لقد وردت عضل أقضية ما قام بها إلّا ابن عباس، وكل مشكل عند العرب معضل ومنه قول الشافعي: إذا المعضلات بعدن عني ... كشفت حقائقها بالنظر أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ الأوّل بنكاح جديد إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ بعقد حلال ومهر جائز، ونظم الآية: فلا تعضلوهنّ أن ينكحن أزواجهنّ بالمعروف إذا تراضوا بينهم، وفي هذه الآية دليل قول من قال: لا نكاح إلّا بولي لأنه تعالى خاطب الأولياء في التزويج، ولو كان للمرأة إنكاح نفسها لم يكن هناك عضل ولا لنهي الله الأولياء عن العضل معنى، يدلّ عليه ما روى أبو بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ‎: «لا نكاح إلّا بولي» [153] [[مسند أحمد: 4/ 394.]] . ذلِكَ أي ذلك الذي ذكرت من النهي يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وإنما قال ذلك موحدا والخطاب للأولياء لأنّ الأصل في مخاطبة الجمع ذلكم ثم كثر ذلك حتى توهّموا أنّ الكاف من نفس الحرف، وليس بكاف الخطاب، فقالوا ذلك، وإذا قالوا هذا كانت الكاف موحدة منصوبة في الآيتين والجمع والمذكر والمؤنث. وقيل: ها هنا خطاب للنبي ﷺ‎ فلذلك وحّده ثم رجع إلى خطاب المؤمنين، فقال عزّ من قائل ذلِكُمْ أَزْكى خير وأفضل لَكُمْ وَأَطْهَرُ لقلوبكم من الريبة وذلك أنهما إذا كان في نفس كل واحد منهما علاقة حبّ لم يؤمن بأن يتجاوز ذلك إلى غير ما أحلّ الله لهما، ولم يؤمن من أوليائهما إن سبق إلى قلوبهم منهما لعلّهما أن يكونا بريئين من ذلك فيأثمون. وَاللَّهُ يَعْلَمُ من خبر كل واحد منهما لصاحبه وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب