الباحث القرآني

فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ أي خرج [ورحل] بهم، وأصل الفصل: القطع فمعنى قوله فَصَلَ أي قطع مستقر فتجاوزه شاخصا إلى غيره نظير قوله تعالى: وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ [[سورة يوسف: 94.]] . فخرج طالوت من بيت المقدس بالجنود وهم يومئذ سبعون ألف مقاتل. وقيل: ثمانون ألفا لم يتخلّف عنه إلّا كبير لهرمه أو مريض لمرضه أو ضرير لضرره أو معذور لعذره [[تفسير القرطبي: 3/ 250، وتفسير الطبري: 2/ 834.]] . وذلك أنّهم لما رأوا التابوت قالوا: قد أتانا التابوت وهو النور لا شك فيه، فتسارعوا إلى الجهاد. فقال طالوت: لا حاجة لي في كلّ ما أرى. لا يخرج معي رجل بني بناء لم يفرغ منه، ولا صاحب تجارة مشتغل بها، ولا رجل عليه دين، ولا رجل تزوّج بامرأة لم يدن لها ولا أبتغي إلّا الشاب النشيط الفارغ. فاجتمع ثمانون ألفا ممن شرطه وكان في حرّ شديد فشكوا قلّة المياه بينهم وبين عدوهم، وقالوا: إنّ المياه لا تحملنا فادع الله تعالى أن يجري لنا نهرا. ف قالَ طالوت: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ مختبركم ليرى طاعتكم وهو أعلم بِنَهَرٍ قرأه العامّة بفتح الهاء، وقرأ حميد وابن محصن بِنَهْرٍ ساكنة الهاء، وهما لغتان مثل شعر وشعر وصخر وصخر وصمغ وصمغ وسمع وسمع وفحم وفحم. قال ابن عباس والسدي: هو نهر فلسطين. قتادة والربيع: نهر بين الأردن وفلسطين عذب. فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي أي ليس من أهل ديني وطاعتي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ يشربه فَإِنَّهُ مِنِّي نظير قوله: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [[سورة المائدة: 93.]] ثم استثنى فقال: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ قرأ ابن عباس، وابن أبي إسحاق، وسليمان التيمي، وابن أبي الجوزاء، وأبو جعفر، وشيبة، ونافع، وأبو مخرمة، وأبو عمرو، وأيوب: غَرْفَةً بفتح الغين وقرأ الباقون بضمّه وهو قراءة عثمان وهما لغتان. وقال الكسائي وأبو عبيدة: الغرفة بالضم الذي يحصل في الكف من الماء إذا غرف. والغرفة: الاغتراف، فالضم اسم والفتح مصدر. وقال أبو حاتم: الغرفة بالضم ملء الكف أو ملء المغرفة، والغرفة: المرّة الواحدة من القليل والكثير. فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ نصب على الاستثناء. وقرأ ابن مسعود قليل بالرفع كقول الشاعر: وكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلّا الفرقدان وكلّ قرينة قرنت بأخرى ... وإن ضنّت بها سيفرّقان [[لسان العرب: 15/ 432.]] واختلفوا في القليل الذي لم يشربوا، فقال السدي: كانوا أربعة آلاف، وقال غيره: ثلاث مائة وبضعة عشر وهو الصحيح، يدلّ عليه قول البراء بن عازب قال: قال لنا رسول الله ﷺ‎ يوم بدر: «أنتم اليوم على عدّة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاء معه إلّا مؤمن» [[كنز العمال: 10/ 400 ح 29955 وجامع البيان: 2/ 839 بتفاوت.]] [181] قال: وكنّا يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا. قالوا: فمن اغْتَرَفَ غُرْفَةً كما أمر الله سبحانه، قوي قلبه وصحّ إيمانه وعبر النهر سالما وكفته تلك الغرفة الواحدة لشربه وحمله ودوابه، والذين شربوا وخالفوا أمر الله، سوّدت شفاههم وغلبهم العطش فلم يرووا وبقوا على شط النهر وجبنوا عن لقاء العدو ولم يشهدوا الفتح. فَلَمَّا جاوَزَهُ يعني النهر هُوَ يعني طالوت وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ يعني القليل قالُوا الذين شربوا وخالفوا أمر الله عزّ وجلّ وكانوا أهل شك ونفاق لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ وانصرفوا عن طالوت ولم يشهدوا قتال جالوت. قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ يوقنون ويعلمون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ وهم الذين ثبتوا مع طالوت كَمْ وقرأ أبيّ: كائن مِنْ فِئَةٍ جماعة وهي جمع لا واحد له من لفظه، وجمعها فئات وفئون في الرفع، وفئين في النصب والخفض قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ معينهم وناصرهم. قال الزجّاج: إنّما قيل للفرقة فئة من فأوت رأسه بالعصا وفائته إذا شققته كأنّها قطعة. وَلَمَّا بَرَزُوا يعني طالوت وجنوده المؤمنين لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ المشركين ومعنى بَرَزُوا صاروا بالبراز من الأرض وهو ما ظهر واستوى قالُوا وهم أهل البصيرة والطاعة رَبَّنا أَفْرِغْ أنزل وأصبب عَلَيْنا صَبْراً كما يفرغ الدلو وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وقوّ قلوبنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ وفي الآية إضمار تقديرها: فأنزل الله عليهم صبرا ونصرا فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ. صفة قتل داود جالوت قال المفسّرون بألفاظ متشابهة ومعان متّفقة: عبر النهر فيمن عبر مع طالوت أيضا أبو داود في ثلاثة عشر ابنا وكان داود أصغرهم، فأتاهم ذات يوم فقال: يا أبتاه ما أرمي بقذافتي شيئا إلّا صرعته فقال: أبشر فإنّ الله جعل رزقك في قذافتك، ثم أتاه مرّة أخرى فقال: يا أبتاه لقد دخلت بين الجبال فوجدت أسدا رابضا فركبته وأخذت بأذنيه ولم يهمّني، فقال: أبشر يا بني فإنّ هذا خير أعطاكه الله. ثم أتاه يوما آخر فقال: يا أبتاه إنّي لأمشي بين الجبال فاسبّح فما يبقى جبل إلّا يسبّح معي، فقال: أبشر يا بني فإنّ هذا خير أعطاكه الله. قالوا: فأرسل جالوت إلى طالوت أن ابرز اليّ من يقاتلني فإن قتلني فلكم ملكي وإن قتلته فلي ملككم، فشقّ ذلك على طالوت فنادى في عسكره من يقتل جالوت زوّجته ابنتي وناصفته ملكي، فخاف الناس جالوت فلم يجبه أحد. فسأل طالوت نبيّهم اشمويل ان يدعوا الله، فدعا الله عزّ وجلّ في ذلك، فأتى بقرن فيه دهن، وتنور من حديد، فقيل: إنّ صاحبكم الذي يقتل جالوت هو الذي يوضع هذا القرن على رأسه فيغلي الدهن حتّى يدهن رأسه منه ولا يسيل على وجهه يكون على رأسه كهيئة إلّا كليل، ويدخل في هذا التنور فيملؤه لا يتقلقل فيه، فدعا طالوت بني إسرائيل فجرّبهم فلم يوافقه منهم أحد. فأوصى الله تعالى إلى نبيهم إنّ في ولد أيشا من يقتل الله به جالوت، فدعا طالوت أيشا وقال: أعرض عليّ نبيك، فأخرج له اثني عشر رجلا أمثال السواري، فجعل يعرضهم على القرن فلا يرى شيئا فيقول لرجل منهم: بادع عليهم جسم ارجع فيردد عليه فأوحى الله تعالى إليه إنا لا نأخذ الرجال على صورهم ولكنّا نأخذ على صلاح قلوبهم، فقال لأيشا: هل بقي لك ولد غيرهم؟ قال: لا. فقال النبي عليه السّلام: يا ربّ إنّه زعم أنّ لا ولد له غيرهم، فقال: كذب. فقال النبيّ: إنّ ربّي كذّبك، فقال: صدق الله يا نبي الله إنّ لي ابنا صغيرا يقال له: داود، استحييت أن يراه الناس لقصر قامته وحقارته، فخلّفته في الغنم يرعاها وهو في شعب كذا، وكان داود عليه السّلام رجلا قصيرا مسقاطا مصفارا أزرق أمعد. فدعاه طالوت، ويقال: بل خرج طالوت إليه فوجد الوادي قد سال بينه وبين الزرب التي يريح إليها، فوجده يحمل شاتين شاتين يجيزهما السيل ولا يخوض بهما الماء، فلما رآه النبيّ عليه السّلام قال: هذا هو لا شك فيه هذا يرحم البهائم فهو بالناس أرحم، فدعاه ووضع القرن على رأسه ففاض [[جامع البيان: 2/ 851، وتاريخ الطبري: 1/ 337.]] . فقال له طالوت: هل لك أن تقتل جالوت وأزوجك ابنتي وأجري خاتمك في ملكي؟ قال: نعم. قال: وهل أنست من نفسك شيئا تقوى به على قتله؟ قال: نعم، أنا أرعى فيجيء الأسد والنمر والذئب فيأخذ شاة وأقوم له وأفتح لحييه عنها وأخرقهما إلى قفاه. فردّه إلى عسكره، فمرّ داود بحجر فناده: يا داود احملني فإنّي حجر هارون الذي قتل بي ملك كذا، فحمله في مخلاته. ثم مرّ بحجر آخر فناده: يا داود احملني فإنّي حجر موسى الذي قتل بي ملك كذا، فحمله في مخلاته. فمرّ بحجر آخر فقال: احملني فإنّي حجرك الذي تقتل بي جالوت، وقد خبأني الله لك، فوضعها في مخلاته. فلما تصافوا القتال وبرز جالوت وسأل المبارزة، انتدب له داود فأعطاه طالوت فرسا ودرعا وسلاحا، فلبس السلاح وركب الفرس، فسار قريبا ثم انصرف فرجع إلى الملك، فقال من حوله: جبن الغلام فجاء فوقف على الملك، فقال: ما شأنك؟ فقال: إنّ الله إن لم ينصرني لا يغني عني السلاح شيئا فدعني أقاتل كما أريد. قال: نعم، فأخذ داود مخلاته فتقلّدها وأخذ المقلاع ومضى نحو جالوت، وكان جالوت من أشدّ الناس وأقواهم وكان يهزم الجيوش وحده وكان له بيضة فيها ثلاث مائة من حديد، فلما نظر إلى داود ألقى في قلبه فقال له: أنت تبرز لي؟ قال: نعم. وكان جالوت على فرس أبلق عليه السلاح التام. قال: فأتيتني بالمقلاع والحجر كما تؤتى الكلاب؟ قال: نعم، لأنت شرّ من الكلب. قال: لا جرم لأقسّمنّ لحمك بين سباع الأرض وطير السماء. قال داود: أو يقسم الله لحمك. ثم قال داود: باسم إله إبراهيم وأخرج حجرا، ثم أخرج الآخر وقال: باسم إله إسحاق ووضعه في مقلاعه، ثم أخرج الثالث وقال: باسم إله يعقوب ووضعه في مقلاعه فصار كلّها حجرا واحدا، ودوّر المقلاع ورماه به فسخّر الله الريح حتّى أصاب الحجر أنف البيضة فخالط دماغه فخرج من قفاه وقتل من وراءه ثلاثين رجلا، وهزم الله سبحانه الجيش وخرّ جالوت قتيلا فأخذه فجرّه حتّى ألقاه بين يدي طالوت. ففرح المسلمون فرحا شديدا وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين والناس يذكرون داود فجاء داود طالوت، وقال: أنجز لي ما وعدتني وأعطني امرأتي، فقال له: أتريد ابنة الملك بغير صداق. قال داود: ما شرطت عليّ صداقا وليس لي شيء. قال: لا أكلّفك إلّا ما تطيق، أنت رجل حربي وفي جبالنا أعداء لنا غلف، فإذا قتلت منهم مائتي رجل وجئتني بغلفهم زوّجتك ابنتي، فأتاهم فجعل كلّما قتل منهم رجلا نظم غلفته في خيطه حتّى نظم غلفهم فجاء بها إلى طالوت فألقى إليه وقال: ادفع إلى امرأتي، فزوّجه أبنته وأجرى خاتمه في ملكه. فمال الناس إلى داود وأحبّوه وأكثروا ذكره، فوجد طالوت من ذلك وحسده فأراد قتله، فأخبر بذلك بنت طالوت رجل يقال له ذو المغنيين، فقالت لداود: إنّك لمقتول الليلة. قال: ومن يقتلني؟ قالت: أبي. قال: وهل جزمت جزما؟ قالت: حدّثني من لا يكذب ولا عليك لن تفوت الليلة حتّى تنظر مصداق ذلك. فقال: لئن كان أراد ذلك ما أستطيع خروجا ولكن ائتيني بزق من خمر، فأتته، فوضعه في مضجعه على السرير. وسجّاه ودخل تحت السرير فدخل طالوت نصف الليل وأراد أن يقتل داود فقال لها: أين بعلك؟ فقالت: هو نائم على السرير، فضربه ضربة بالسيف فسال الخمر، فلما وجد ريح الشراب قال: يرحم الله داود ما أكثر شربه الخمر وخرج، فلما أصبح علم أنّه لم يفعل شيئا فقال: إن رجلا طلبت منه ما طلبت لخليق أن لا يدعني حتّى يدرك منّي ثأره، فشدّد حجّابه وحرّاسه وأغلق دونه أبوابه. ثم إن داود أتاه ليلة وقد هدأت العيون وأعمى الله تعالى الحجبة وفتح له الأبواب فدخل عليه وهو نائم على فراشه فوضع سهما عند رأسه وسهما عند رجليه وسهما عن يمينه وسهما عن شماله ثم خرج. فلما استيقظ طالوت أبصر بالسهام فعرفها فقال: يرحم الله داود فهو خير منّي، ظفرت به فقصدت قتله وظفر بي فكفّ عنّي، ولو شاء لوضع هذا السهم في حلقي. وما أنا بالذي آمنه. فلما كانت المقابلة أتاه ثانيا فأعمى الله الحجّاب فدخل عليه وهو نائم وأخذ إبريق طالوت الذي كان يتوضأ منه وكوزه الذي كان يشرب منه وقطع شعرات من لحيته وشيئا من هدب ثيابه ثم خرج وهرب وتوارى. فلما أصبح طالوت ورأى ذلك، سلّط على داود العيون وطلبه أشدّ الطلب فلم يقدر عليه، ثم إن طالوت ركب يوما فوجد داود يمشي في البريّة، فقال طالوت: اليوم أقتل داود أنا راكب وهو ماش، وكان داود إذا فزع لم يدرك فركض طالوت على أثره، فاشتدّ داود فدخل غارا فأوحى الله تعالى إلى العنكبوت فنسجت عليه بيتا. فلما انتهى طالوت إلى الغار ونظر إلى بناء العنكبوت، قال: لو كان دخل هاهنا لخرق بناء العنكبوت فتركه ومضى، وانطلق داود وأتى الجبل مع المتعبّدين فتعبّد فيه. وطعن العلماء والعبّاد في طالوت في شأن داود، فجعل طالوت لا ينهاه أحد عن قتل داود إلّا قتله وأغرى بقتل العلماء، فلم يكن يقدر على عالم في بني إسرائيل فيطيق قتله إلّا قتله ولم يكن يحارب جيشا إلّا هزم، حتى أتى بامرأة تعلم اسم الله الأعظم فأمر جبّارا بقتلها فرحمها الجبّار فقال: لعلّنا نحتاج إلى عالم فتركها، فوقع في قلب طالوت التوبة وندم على ما فعل وأقبل على البكاء حتّى رحمه. فكان كلّ ليلة يخرج إلى القبور فيبكي وينادي: أنشد الله عبدا يعلم أن لي توبة إلّا أخبرني بها. فلما أكثر عليهم ناداه مناد من القبور: يا طالوت أما ترضى أن قتلتنا حتّى تؤذينا أمواتا، فازداد بكاء وحزنا، فرحمه الجبّار فكلّمه فقال: مالك أيّها الملك؟ فقال: هل تعلم لي في الأرض عالما أسأله هل لي من توبة؟ فقال الجبّار: هل تدري ما مثلك؟ إنّما مثلك مثل ملك نزل قرية عشاء فصاح الديك فتطيّر منه، فقال: لا تتركوا في القرية ديكا إلّا ذبحتموه، فلما أراد أن ينام قال لأصحابه، إذا صاح الديك فأيقضونا حتى ندلج. فقالوا: هل تركت ديكا نسمع صوته. ولكن هل تركت عالما في الأرض، فازداد حزنا وبكاء. فلما رأى الجبّار ذلك قال: أرأيتك إن دللتك على عالم لعلّك أن تقتله. قال: لا. فتوثّق عليه الجبّار فأخبره أن المرأة العالمة عنده قال: انطلق بي إليها أسألها هل لي من توبة؟ وكان إنّما يعلم ذلك الاسم أهل بيت إذا فنيت رجالهم علمت نساءهم. فلما بلغ طالوت الباب قال الجبّار: أيّها الملك إنّها إن رأتك فزعت، فخلّفه خلفه ثم دخل عليها فقال لها: ألست أعظم الناس عليك منّة أن نجّيتك من القتل وآويتك عندي؟ قالت: بلى. قال: فإنّ لي إليك حاجة: هذا طالوت يسأل هل له من توبة، فغشي عليها من الخوف. فقال لها: إنّه لا يريد قتلك ولكن يسألك هل له من توبة؟ فقالت: والله لا أعلم لطالوت توبة، ولكن هل تعلمون مكان قبر نبي؟ فانطلق بها إلى قبر أشمويل، فصلّت ودعت ثم نادت صاحب القبر، فخرج أشمويل من القبر فنفض من رأسه التراب، فلما نظر إليهم ثلاثتهم: المرأة وطالوت والجبّار، قال: ما لكم أقامت القيامة؟ قالا: لا، ولكن طالوت يسألك هل له من توبة؟ قال: أشمويل: يا طالوت ما فعلت بعدي؟ قال: لم أدع من الشرّ شيئا إلّا فعلته وجئت أطلب التوبة. قال: كم لك من الولد؟ قال: عشرة رجال. قال: ما أعلم لك توبة إلّا أن تتخلّى من ملكك وتخرج أنت وولدك في سبيل الله ثم تقدّم ولدك حتّى [يقتلوا] [[في المخطوط: تقتل.]] بين يديك ثم تقاتل أنت حتّى تقتل آخرهم، ثم رجع أشمويل إلى القبر وسقط ميّتا. ورجع طالوت أحزن ما كان رهبة إن لا يتابعه ولده، وقد بكى حتّى سقط أشفار عينيه ونحل جسمه، فدخل أولاده عليه، فقال لهم: أرأيتم لو دفعت إلى النار هل كنتم تفدونني؟ قالوا: بلى، نفديك بما قدرنا عليه. قال: فإنّها النار إن لم تفعلوا ما أقول لكم، قالوا: فاعرض علينا، فذكر لهم القصّة، قالوا: وإنّك لمقتول؟ قال: نعم. قالوا: فلا خير لنا في الحياة فقد طابت أنفسنا بالذي سألت. فتجهّز بماله وولده، فقدّم ولده وكانوا عشرة فقاتلوا حتّى قتلوا بين يديه ثم شدّ هو بعدهم حتّى قتل، فجاء قاتله إلى داود النبيّ عليه السّلام ليبشّره وقال: قد قتلت عدوّك. فقال: ما كنت بالذي تحيا بعده فضرب عنقه، وأتى بنو إسرائيل بداود فأعطوه خزائن طالوت وملّكوه على أنفسهم. وكان ملك طالوت من أوّله إلى أن قتل في الغزو مع ولده أربعين سنة. قال الضحاك والكلبي: ملك داود بعد جالوت تسعا وستين سنة. ولم يجتمع بنو إسرائيل على ملك واحد إلّا على داود، فذلك قوله وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وهو داود بن أيشا بن سوئل بن ناغر بن سلمون بن يخشون بن عمّي ابن يا رب بن رام بن حصرون بن فارض بن يهود بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السّلام، وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ يعني النبوّة. وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ فقال الكلبي وغيره: يعني صنعة الدروع، والتقدير: في السر وكان يصنعها ويبيعها حتّى جمع من ذلك مالا، وكان لا يأكل إلّا من عمل يديه دليله قوله: وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ [[سورة الأنبياء: 80.]] وقيل: منطق الطير وكلام النحل والنمل، وقيل: الزبور، وقيل: الصوت الطيّب والألحان، ولم يعط الله أحدا من خلقه مثل صوته، كان إذا قرأ الزبور يدنوا الوحوش حتّى تؤخذ بأعناقها وتظلّه الطيور مصيخة له. ويركد الماء الجاري ويسكن الريح، وما صنعت المزامير والبرابط والصنوج إلّا على صوته. الضحاك عن ابن عباس قال: إنّ الله سبحانه أعطاه سلسلة موصولة بالمجرّة والفلك ورأسها عند صومعة داود عليه السّلام وكان قوّتها قوّة الحديد ولونها لون النار وحلقها مستدير مفصّلة بالجواهر مدسّرة بقضبان اللؤلؤ الرطب، فلا يحدّث في الهواء حدث إلّا صلصلت السلسلة فعلم داود ذلك الحدث، ولا يمسّها ذو عاهة إلّا برء، وكان علامة دخول قومه في الدين أن يمسّوها بأيديهم ثمّ يمسحون أكفّهم على صدورهم، وكانوا يتحاكمون إليها بعد داود إلى أن رفعت، وكانوا يأتونها فمن تعدّى على صاحبه وأنكر له حقّا أتى السلسلة، فمن كان صادقا محقّا مدّ يده إلى السلسلة فنالتها ومن كان كاذبا ظالما لم ينلها، وكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة. فبلغنا أن بعض ملوكها أودع رجلا جوهرة ثمينة، فلما استردّها منه أنكر فتحاكما إلى السلسلة، فعلم الذي كانت الجوهرة عنده أنّ يده لا تنال السلسلة، فعمد إلى عكازه فنقرها ثم ضمّنها الجوهرة وأعتمد عليها حتّى حضروا السلسلة. فقال صاحب الجوهرة: ردّ إلىّ الوديعة. فقال صاحبه: ما أعلم لك عندي وديعة، فإنّ كنت صادقا فتناول السلسلة فتناولها بيده، فقيل للمنكر أيضا: قم أنت أيضا فتناولها، فقال لصاحب الجوهرة: خذ عكازتي [[والتي فيها جوهرته وهو لا يعلم.]] هذه فاحفظها حتّى أتناول السلسلة، فأخذها وقال الرجل: اللهمّ إنّ كنت تعلم إنّ هذه الوديعة يدعيها عليّ قد وصلت إليه فقرّب السلسلة، فمدّ يده فتناولها، فتعجّب القوم وشكّوا فيها فأصبحوا وقد رفع الله السلسلة. وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع ويعقوب وأيوب (دفاع الله) بالألف هاهنا وفي سورة الحجّ واختاره أبو حاتم، وقرأ الآخرون بغير ألف فيهما وأختاره أبو عبيد قال: لأنّ الله تعالى لا يغالبه أحد وهو الدافع وحده، وقال أبو حاتم: وقد يكون الفعال من واحد مثل قول العرب: أحسن الله عنك الدفاع، وعافاك الله، وعاقبه الله، وناول شيئا. ابن عباس ومجاهد: لولا دفع الله بجنود المسلمين وسراياهم ومرابطيهم لغلب المشركون على الأرض فقتلوا المؤمنين وخرّبوا البلاد والمساجد. وقال سائر المفسّرين: لولا دفع الله بالمؤمنين والأبرار عن الكفّار والفجّار لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ لهلكت بمن فيها. قال رسول الله ﷺ‎: «يدفع الله العذاب بمن يصلّي، عمّن لا يصلّي، وبمن يزكّي عمّن لا يزكّي، وبمن يصوم عمّن لا يصوم، وبمن يحجّ عمّن لا يحج، وبمن يجاهد عمّن لا يجاهد. ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء ما ناظرهم الله طرفة عين» . ثم تلا رسول الله ﷺ‎ هذه الآية [182] [[تفسير القرطبي: 3/ 260.]] . وروى مالك بن عبيد عن أبيه عن جدّه إنّ رسول الله ﷺ‎ قال: «لولا عباد لله ركع وصبية رضّع، وبهائم رتّع، لصبّ عليكم العذاب صبّا ثم لترضن رضا» [[السنن الكبرى: 3/ 345، والمعجم الكبير: 22/ 310، وفيه: ثمّ رضّ رضا، وفي الآحاد والمثاني للضحّاك (2/ 210) : ثمّ رصّ رصا، بالصاد.]] . قال الثعلبي وأنشدني لنفسه: لولا عباد للاله ركع ... وصبية من اليتامى رضّع ومهملات في الفلاة رتّع ... صبّ عليكم العذاب الأوجع [[تفسير القرطبي: 3/ 260.]] وروى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله ﷺ‎: «إنّ الله سبحانه ليصلح بصلاح الرجل [[في المصدر: المسلم.]] ولده وولده ولده وأهل دويرته ودويرات حوله ولا يزالون في حفظ الله ما دام فيهم» [183] [[جامع البيان: 2/ 855.]] . وقال قتادة: يبتلي الله المؤمن بالكافر ويعافي الكافر بالمؤمن. [ ... ] [[غير مقروءة في المخطوط.]] بن عبد الرحمن عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ‎: «إنّ الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيت من جيرانه البلاء» [184] [[كنز العمال: 9/ 5 ح 24654.]] ، ثم قرأ ابن عمر: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ. وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ أي كلام الله. وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب