الباحث القرآني

وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ أي ولتكونوا أمة من صلة، كقوله فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ [[سورة: الحج: 30.]] ، ولم يرد اجتناب رجس الأوثان وإنما فاجتنبوا [[في المخطوط بعدها: من.]] الأوثان وإنها رجس. واللام في قوله وَلْتَكُنْ لام الأمر. يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ: الإسلام وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: سمعنا ابن الزبير يقرأ: (ولتكن منكم أمة يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون على ما أصابهم) . وروي مثله عن عثمان [........] [[بياض في مصوّرة المخطوط.]] . فصل في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر روى حسان بن سليمان عن النبي ﷺ‎ قال: «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه وخليفة رسوله وخليفة كتابه» [88] [[الكامل لابن عدي: 6/ 84.]] . وعن عبد الله بن عمر عن درة بنت أبي لهب قالت: جاء رجل إلى النبي ﷺ‎ وهو على المنبر فقال: يا رسول الله من خير الناس؟ قال: «آمرهم بالمعروف، وأنهاهم عن المنكر، وأتقاهم لله تعالى، وأوصلهم لأرحامه» [89] . عن ابن عباس قال: قلنا: يا رسول الله، ما نعمل نأتمر بالمعروف حتى لا يبقى من المعروف شيء إلّا ائتمرنا به، وننتهي عن المنكر حتى لا يبقى من المنكر شيء إلّا انتهينا عنه، ولم نأمر بالمعروف ولم ننه عن المنكر، فقال: «مروا بالمعروف وإن لم تعملوا به، وانهوا عن المنكر وإن لم تنتهوا عنه كله» [90] [[مجمع الزوائد: 7/ 277، والمعجم الصغير: 2/ 78 وفيهما: وإن لم تجتنبوه كله.]] . الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ‎: «مثل الفاسق في القوم كمثل قوم ركبوا سفينة فاقتسموها فصار لكل إنسان منها نصيب فأخذ رجل منهم فأسا فجعل ينقر في موضعه، وقال له أصحابه: أي شيء تصنع، تريد أن تغرق وتغرقنا؟ قال: هو مكاني، فإن أخذوا على يده نجوا ونجا وإن تركوه غرق وغرقوا» [91] [[المعجم الأوسط: 3/ 149 بتفاوت.]] . وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه: «أفضل الجهاد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وشنآن الفاسقين فمن أمر بالمعروف شدّ ظهر المؤمن، ومن نهى عن المنكر أرغم أنف المنافق، ومن شنأ المنافقين وغضب لله عز وجل غضب الله تعالى له» [92] . وقال أبو الدرداء: لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما لا يجلّ كبيركم ولا يرحم صغيركم ويدعو خياركم فلا يستجاب لهم، ويستنصرون فلا ينصرون، ويستغفرون فلا يغفر لهم. وقال حذيفة اليماني: يأتي على الناس زمان لئن يكون فيهم جيفة حمار أحب إليهم من مؤمن يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر. وقال الثوري: إذا كان الرجل محبّبا في جيرانه محمودا عند القوم فاعلم أنه مداهن [[سير أعلام النبلاء: 7/ 278.]] . وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا. الآية. قال أكثر المفسرين: هم اليهود والنصارى. وقال بعضهم: هم المبتدعة من هذه الأمّة. عن عبد الله بن شدّاد قال: وقف أبو أمامة وأنا معه على رؤوس الحرورية بالشام عند باب حمص أو دمشق فقال لهم كلاب النار، كلاب النار. مرتين أو ثلاثة. شرّ قتلى تظل السماء وخير قتلى قتلاهم. [قيل] : أشيء من قبل رأي رأيته أو شيء سمعته من رسول الله ﷺ‎؟ قال: «إن هو من جل رأي رأيته، إني إذن لجريء إن لم أسمعه من رسول الله ﷺ‎ إلّا مرة أو مرتين. حتى عدّ سبع مرات. ما حدثت به. فقال رجل فإني رأيتك دمعت عيناك. قال: هي رحمة رحمتهم إنهم كانوا مؤمنين فكفروا بعد إيمانهم، ثم قرأ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا إلى قوله بَعْدَ إِيمانِكُمْ ثم قال: هم الحرورية [[تفسير القرطبي: 4/ 168، ومسند الشاميين: 2/ 248 بتفاوت فيهما، وتاريخ دمشق: 12/ 367.]] . وروى قبيصة عن جابر أن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) لما نزل بباب من أبواب دمشق يقال له الجابية، حمد الله فأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: قام فينا رسول الله ﷺ‎ كمقامي فيكم ثم قال: «من سرّه بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة فإن الشيطان مع الفذ [[الفذّ: الفرد. كتاب العين: 8/ 177. فذ.]] وهو من الاثنين أبعد» [93] [[المصنف لعبد الرزاق: 11/ 341.]] . يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، ... يَوْمَ نصب على الظرف، أي في يوم، وانتصاب الظرف على التشبيه بالمفعول وقرأ يحيى بن وثّاب (تِبيض وتِسود) . بكسر التاءين. على لغة تميم. وقرأ الزهري: (تبياض وتسواد) . فأما الذين [اسوادت] [[في المخطوط: اسودن.]] . و [المعنى] [[في المخطوط: معنى.]] تبيض وجوه المؤمنين، وتسود وجوه الكافرين. وقيل: يوم تبيض وجوه المخلصين، وتسود وجوه المنافقين. وقال عطاء: تبيض وجوه المهاجرين والأنصار، وتسود وجوه قريظة والنضير. سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ قال: تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة. الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: إذا كان يوم القيامة رفع لكل قوم مما كانوا يعبدونه فيسعى كل قوم إلى ما كانوا يعبدون، وهو قوله تعالى: نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى [[سورة: النساء: 115.]] ، فإذا انتهوا إليه حزنوا فيسود وجوههم من الحزن. ويبقى أهل القبلة واليهود والنصارى لم يعرفوا شيئا مما رفع لهم، فيأتهم الله عز وجل فيسجد له من كان سجد في دار الدنيا مطيعا مؤمنا، ويبقى أهل الكتاب والمنافقون كأنهم لا يستطيعون السجود ثم يؤذن لهم فيرفعون رؤوسهم ووجوه المؤمنين مثل الثلج بياضا، والمنافقون وأهل الكتاب قيام كأن في ظهورهم السفافيد فإذا نظروا إلى وجوه المؤمنين وبياضها حزنوا حزنا شديدا واسودت وجوههم فيقولون: ربنا سوّدت وجوه من يعبد غيرك فما لنا مسودة وجوهنا ف وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ؟ فيقول الله للملائكة: انظروا كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ. وقال أهل المعاني: ابيضاض الوجوه: إشراقها واستبشارها وسرورها بعملها وثواب الله عز وجل، واسودادها حزنها وكآبتها وكسوفها بعملها وبعذاب الله تعالى يدل عليه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [[يونس: 26.]] . الآية. وقوله: وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ [[يونس: 27.]] ، وقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ [[القيامة: 22.]] ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ [[القيامة: 24- 22.]] . ثم بين حالهم ومآلهم فقال فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ، فيه اختصار يعني: فيقال لهم: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ؟ واختلفوا فيه فروى الربيع عن أبي العالية عن أبيّ بن كعب أنهم كل من كفر بعد إيمانه بالله يوم الميثاق حين أخرجهم من صلب آدم (عليه السلام) وقال لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى [[الأعراف: 172.]] ، فيعرفهم الله عز وجل يوم القيامة بكفرهم فيقول: أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ يوم الميثاق. قال الحسن: هم المنافقون أعطوا كلمة الإيمان بألسنتهم، وأنكروها بقلوبهم وأعمالهم. وقال يونس بن أبي مسلم: سألت عكرمة عن هذه الآية فقال: لو فسرتها لم أخرج من تفسيرها ثلاثة أيام، ولكني سأجمل لك: هؤلاء قوم من أهل الكتاب كانوا مصدقين بأنبيائهم، مصدقين بمحمد ﷺ‎ قبل أن يبعث، ولما بعث كفروا به، فذلك قوله أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ. وقال الآخرون: هم من أهل ملتنا. قال الحارث الأعور: سمعت عليا (رضي الله عنه) على المنبر يقول: «إن الرجل ليخرج من أهله فما يؤوب إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به الجنة، وإنّ الرجل ليخرج من أهله فما يعود إليهم حتى يعمل عملا يستوجب به النار» [94] . ثمّ قرأ يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ الآية. ثم نادى الذين كفروا بعد الإيمان [أَكَفَرْتُمْ] ، يدل عليه حديث النبي ﷺ‎: «يأتي على أمتي زمان يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا يبيع دينه بعرض يسير من الدنيا» [95] [[المصنّف: 8/ 593، مسند ابن راهويه: 1/ 401.]] . وقال أبو أمامة الباهلي: هم الخوارج. وقال قتادة: هم أهل البدع كلهم. ودليل هذه التأويلات قوله: وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ [[الزمر: 60.]] وقول النبي ﷺ‎: «ليردنّ الحوض من صحبتي أقوام حتى إذا رأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولن: أصحابي، أصحابي، فيقال لي: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنهم ارتدوا على أدبارهم القهقرى» [96] [[مسند أحمد: 3/ 381 و 5/ 50.]] . وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ هؤلاء أهل طاعته والوفاء بعهده، فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ: جنّة الله هُمْ فِيها خالِدُونَ إلى وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ فيعاقبهم بلا جرم. وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ. كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ. الآية. قال عكرمة ومقاتل: نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ وسالم مولى أبي حذيفة، وذلك أن ابن الصيف ووهب بن يهود اليهوديين قالا لهم: إن ديننا خير مما تدعوننا إليه ونحن خير وأفضل منكم. فأنزل الله تعالى هذه الآية. سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ هم الذين هاجروا مع النبي ﷺ‎ إلى المدينة. وروى جويبر عن الضحاك قال: هم أصحاب محمد خاصة الرواة الدعاة الذين أمر الله عز وجل بطاعتهم. يدل عليه ما روى السدي أن عمر الخطاب قال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ، قال: تكون لأولنا ولا تكون لآخرنا. وعن عمر بن الحصين قال: قال رسول الله ﷺ‎: «طوبى لمن رآني ولمن رأى من رآني ولمن رأى من رأى من رأى [[كذا في المخطوط مكرّرة.]] من رآني» [97] [[المعجم الصغير: 2/ 34، ومعرفة علوم الحديث للحاكم: 288.]] . الأعمش عن أبي صالح عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ‎: «لا تسبوا أصحابي فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه» [98] [[مسند أحمد: 3/ 11، وسنن الترمذي: 5/ 357.]] . وقال آخرون: هم جمع المؤمنين من هذه الأمة وقوله: كُنْتُمْ يعني أنتم كقوله: مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا [[مريم: 29.]] أي من هو في المهد. وإدخال (كان) واسقاطه في مثل هذا المعنى واحد، كقوله: وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا [[الأعراف: 86.]] وقال في موضع آخر: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ [[الأنفال: 26.]] . وقال محمد بن جرير [[جامع البيان للطبري: 4/ 62.]] : هذا بمعنى التمام، وتأويله: خلقتم ووجدتم خير أمة. وقال: معنا كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ عند الله في اللوح المحفوظ، أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال قوم: للناس من صلة قوله: خَيْرَ أُمَّةٍ: يعني أنتم خير الناس للناس. قال أبو هريرة: معناه كنتم خير الناس للناس يجيئون بهم في السلاسل فيدخلونهم في الإسلام. قتادة هم أمة محمد ﷺ‎ لم يؤمر نبي قبله بالقتال فيسبون من سبي الروم والترك والعجم فيدخلونهم في دينهم، فهم خير أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. مقاتل بن حيان: ليس خلق من أهل الأديان ولا يأمرون من سواهم بالخير وهذه الآية يأمرون كل أهل دين وأنفسهم لا يظلم بعضهم بعضا، بل يأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر فأمّة محمد ﷺ‎ خير أمم الناس. وقال آخرون: قوله: لِلنَّاسِ من صلة قوله: أُخْرِجَتْ ومعناه ما أخرج الله للناس أمّة خيرا من أمة محمد ﷺ‎ فهم خير أمة أقامت وأخرجت للناس، وعلى هذا تتابعت الأخبار. روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده أنّه سمع النبي ﷺ‎ يقول في قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ قال: «إنكم تتمّون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل» [99] [[مسند أحمد: 4/ 447 وفيه: توفون، وتفسير الطبري: 4/ 61.]] . وروى عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله ﷺ‎: «أهل الجنة عشرون ومائة صف، منها ثمانون من هذه الأمة» [100] [[المعجم الأوسط: 1/ 172.]] . نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله ﷺ‎: «ما من أمة إلّا وبعضها في النار، وبعضها في الجنّة، وأمتي كلّها في الجنة» [101] [[تاريخ بغداد: 9/ 384.]] . ثابت البناني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ‎: «مثل أمتي مثل المطر لا يدرى أوله خير أم آخره» [102] [[المعجم الأوسط: 4/ 231.]] . وعن أنس قال: أتى رسول الله أسقف فذكر أنه رأى في منامه الأمم كانوا يمنعون على الصراط [.......] [[كلمة غير مقروءة.]] حتى أتت أمة محمد ﷺ‎ غرّا محجلين قال: فقلت: من هؤلاء الأنبياء؟ قالوا: لا، قلت: مرسلون؟ قالوا: لا، فقلت: ملائكة؟ قالوا: لا، فقلت: من هؤلاء؟ قالوا: أمة محمد ﷺ‎ غرّا محجلين عليهم أثر الطهور، فلما أصبح الأسقف أسلم. عن سعيد بن المسيب، عن عمر، عن رسول الله ﷺ‎ قال: «الجنة حرمت على الأنبياء كلهم حتى أدخلها، وحرمت على الأمم حتى تدخلها أمتي» [103] [[مجمع الزوائد: 1/ 69.]] . وروى أبو بردة عن أبي موسى قال: قال رسول الله ﷺ‎: «إن أمتي أمة مرحومة، إذا كان يوم القيامة أعطى الله كل رجل من هذه الأمة رجلا من الكفّار فيقول: هذا فداؤك من النار» [104] [[بتفاوت في المعجم الصغير: 1/ 10، والمعجم الأوسط: 1/ 5.]] . وعن أنس قال: خرجت مع رسول الله ﷺ‎ فإذا بصوت يجيء من شعب، قال: «يا أنس، انطلق فانظر ما هذا الصوت» ، قال: فانطلقت فإذا برجل يصلي إلى شجرة فيقول: «اللهم اجعلني من أمة محمد المرحومة، المغفور لها، المستجاب لها، المتاب عليها» . فأتيت رسول الله ﷺ‎، فأعلمته ذلك فقال: «انطلق فقل له إن رسول الله يقرئك السلام ويقول: من أنت؟» . فأتيته فأعلمته ما قال رسول الله ﷺ‎، فقال: «أقرىء منّي رسول الله السلام وقل له: أخوك الخضر يقول [أسألك] [[بياض في مصوّرة المخطوط، والظاهر ما أثبتناه.]] أن يجعلني من أمتك المرحومة المغفور لها المستجاب لها المتاب عليها» [105] [[الإصابة: 2/ 260، والمستدرك على الصحيحين: 2/ 674، ح 4231.]] . وقيل لعيسى (عليه السلام) : يا روح الله، هل بعد هذه الأمة أمة؟ قال: «علماء حلماء حكماء، أبرار أتقياء، كأنهم من العلم أنبياء يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل يدخلهم الجنة بشهادة أن لا إله إلّا الله» [[تاريخ دمشق: 47/ 382.]] . وبلغنا أن كعب الأحبار قيل له: لم لم تسلم على عهد رسول الله ﷺ‎، وأبي بكر، وأسلمت على عهد عمر؟ فقال: لأن أبي دفع إلي كتابا مختوما، وقال: لا تفكّ ختمه. فرأيت في المنام أيام عمر (رضي الله عنه) قائلا قال لي: إن أبي خانك في تلك الصحيفة، ففككتها فإذا فيها نعت أمة محمد ﷺ‎: سالوما وعالوما وحاكوما وصافوحا وخاروجا، فسألوه عن تفسيرها، فقال: هو أن شعارهم أن يسلم بعضهم على بعض، وعلماؤهم مثل أنبياء بني إسرائيل، وحكم الله لهم بالجنّة، ويتصافحون فيغفر لهم ويخرجون من ذنوبهم كيوم ولدتهم أمّهاتهم. وقال يحيى بن معاذ: هذه الآية مدحة لأمة محمد ﷺ‎ ولم يكن ليمدح قوما ثم يعذبهم. ثم ذكر مناقبهم فقال: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ إلى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً. الآية. قال مقاتل: إنّ رؤوس اليهود كعبا وعديا والنعمان وأبا رافع وأبا ياسر وكنانة وأبو صوريا عمدوا إلى مؤمنيهم عبد الله بن سلام وأصحابه: فآذوهم لإسلامهم، فأنزل الله تعالى لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً يعني لن يضركم أيها المؤمنون هؤلاء اليهود إلّا أذى باللسان يعني وعيدا وطعنا. وقيل: دعاء إلى الضلالة. وقيل: كلمة الكفر إن يسمعوها منهم يتأذّوا بها وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ منهزمين، وهو جزم بجواب الجزاء، ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ استأنف [[أي جعلت ثُمَّ استئنافية لا عاطفة، ولو جعلها عاطفة لجزم الفعل بعدها.]] لأجل رؤوس الآي لأنها على النون، كقوله وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [[المرسلات: 36.]] . تقديرها: ثم هم لا ينصرون. وقال في موضع آخر: لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا [[فاطر: 36.]] إذ لم يكن رأس آية. قال الشاعر: ألم تسأل الربع القديم فينطق أي فهو ينطق. قال الأخفش: قوله لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً استثناء خارج من أول الكلام، كقول العرب: ما اشتكى شيئا إلّا خيرا، قال الله تعالى لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً. إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً [[النبأ: 25.]] ولأن هذا الأذى لا يضرهم. ومعناه لكن آذى. ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا: حيثما وجدوا ولقوا، يعني: حيث ما لقوا غلبوا واستضعفوا وقتلوا فلا يؤمنون إِلَّا بِحَبْلٍ: عهد من الله وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ: محمد والمؤمنين يردون إليهم الخراج فيؤمنونهم. وفي الكلام اختصار، يعني: إلّا أن يعتصموا بحبل، كقول الشاعر: رأتني بحبليها فصدّت مخافة ... وفي الحبل روعاء الفؤاد فروق أي أقبلت بحبليها. وقال آخر: حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خامل أدنو لصيد قريب الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيدا أني بقيد يعني: رآني مقيد [بقيد] [[في المخطوط: لقيد.]] . وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ إلى لَيْسُوا سَواءً. الآية. قال ابن عباس ومقاتل: لما أسلم عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيد وأسيد بن سعيد وأسد بن عبيد ومن أسلم من اليهود قالت رؤوس اليهود: ما آمن بمحمد إلّا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا ما تركوا دين آبائهم، وقالوا لهم: لقد خسرتم حيث استبدلتم بدينكم دينا غيره [[أحكام القرآن للجصاص: 2/ 45.]] ، فأنزل الله تعالى لَيْسُوا سَواءً وسواء يقتضي شيئين اثنين فصاعدا، واختلفوا في وجه هذه الآية فقال قوم: في الكلام إضمار تقديره: ليسوا سواء [[كذا في المخطوط، وهناك علامة سقط على كلمة سواء، لكن لم يشر لهذا السقط في هامش مصوّرة المخطوط.]] . مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ وأخرى غير قائمة فتزلّ الأخرى لاكتفائه بذكر أحد الفريقين كقول أبي ذؤيب: عصيت إليها القلب إني لأمرها ... مطيع فما أدري أرشد طلابها أراد: أرشد أم غيّ، فحذفه لدلالة الكلام عليه. وهذا قول مجموع مقدم كقولهم: (أكلوني البراغيث) و (ذهبوا أصحابك) . وقال: تمام القول عند قوله: لَيْسُوا سَواءً وهو وقف لأن ذكر الفريقين من أهل الكتاب قد جرى في قولهم مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ ثم قال لَيْسُوا سَواءً يعني المؤمنين والفاسقين، ثم وصف الفاسقين فقال: لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً، ثم وصف المؤمنين فقال: أُمَّةٌ قائِمَةٌ. الآية. فهو مردود على أول الكلام، وهو مختار محمد بن جرير [[تفسير الطبري: 4/ 71.]] والزجاج، قال: وإن شئت جعلت قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ ابتداء لكلام آخر لأنّ ذكر الفريقين قد جرى، ثمّ قال: ليس هذان الفريقان سواء وهم، ثمّ ابتدأ فقال: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ. قال ابن مسعود: معناها لا يستوي اليهود وأمة محمد القائمة بأمر الله تعالى يعني الثابتة على الحقّ المستقيم. ابن عباس: أُمَّةٌ قائِمَةٌ مهتدية قائمة على أمر الله لن تنزع عنه ولم تتركه كما تركه الآخرون وضيّعوه. مجاهد: عادلة، السدي: مطيعة قائمة على كتاب الله وفرائضه وحدوده. وقيل: قائمة في الصلاة. قال الأخفس أمة قائمة أي ذو أمّة قائمة، والأمّة: الطريقة، من قولهم: أممت الشيء أي قصدته. قال النابغة: وهل يأتمن [[كذا في المخطوط، والظاهر أنّه يأتمر.]] ذو أمّة وهو طائع. أي ذو طريقة. ومعنى الآية ذوا [[كذا في المخطوط.]] طريقة مستقيمة. يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ يقرءون كتاب الله. قال مجاهد: يتبعون، يقال: تلاه، أي اتّبعه. قال الشاعر: قد جعلت دلوي تسيلينني ... ولا أريد تبع القرين [[الصحاح: 6/ 2273.]] إني لم أردهما [ ... ] [[كلمتان غير مقروءتين.]] . أي تستتبعني. آناءَ اللَّيْلِ، أي ساعاته، وإحداها إني مثل نحي وأنحاء وإنى مثل معى. قال الشاعر: حلو ومر كعطف القدح شيمته ... في كل إني قضاء الليل ينتعل [[لسان العرب: 14/ 50. إنى.]] أي تسليه آناء الليل بأمر مضى فيه ولم يتأخر. قال الراجز في اللغة الأخرى: لله درّ جعفر أي فتى ... مشمّر عن ساقه كلّ إنى وقال السدي: آناءَ اللَّيْلِ جوفه. الأوزاعي عن حسان عطية قال: بلغنا أن رسول الله ﷺ‎ قال: «ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل خير له من الدنيا وما فيها، ولولا أن يشق على أمّتي لفرضتهما عليهم» [106] [[تفسير مجمع البيان: 2/ 368.]] . وَهُمْ يَسْجُدُونَ أي يصلون لأنّ التلاوة لا تكون في الركوع والسجود، نظيره قوله: وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي يصلّون وفي القرآن: وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ [[الفرقان: 60.]] أي صلوا، وقوله: فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا [[النجم: 62.]] . واختلفوا في نزول الآية ومعناها فقال بعضهم: هي قيام الليل عن مجمع بن يحيى الأنصاري عن رجل من بني شيبة كان يدرس الكتب فقال: إنا نجد كلاما من كلام [الرب] [[في المخطوط: العرب.]] أيحسب راعي إبل وغنم، إذا جنه الليل انخذل بكن وهو قائم وساجد آناء الليل. ابن مسعود: هو في صلاة العتمة، يصلونها ومن حولهم من أهل الكتاب لا يصلونها. عاصم عن زرين عن ابن مسعود قال: أخر رسول الله ﷺ‎ صلاة العشاء ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة، قال: «أما إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله عز وجل ذه الساعة غيركم» [107] [[مسند أحمد: 1/ 396، وأسباب النزول للواحدي: 79.]] ، فأنزل الله هذه الآية: لَيْسُوا سَواءً حتى بلغ قوله وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ. وروى الثوري عن منصور قال: بلغنا أنها نزلت في قوم كانوا يصلون فيما بين المغرب والعشاء. وقال عطاء في قوله: لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ. الآية. تزيد أربعين رجلا من أهل نجران من العرب، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى (عليه السلام) وصدقوا بمحمد ﷺ‎ وكان من الأنصار منهم عدة قبل قدوم النبي ﷺ‎، منهم أسعد ابن زرارة والبراء بن معرور ومحمّد بن مسلمة وأبو قيس هرمة [[كذا في المخطوط.]] بن أنس، وكانوا موحدين يغتسلون من الجنابة ويقرّون بما عرفوا من شرائع الحنيفية حتى جاءهم الله عز وجل بالنبي ﷺ‎ فصدقوه ونصروه. وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ، قرأ الأعمش وحمزة ويحيى والكسائي وحفص وخلف: بالياء فيهما، اخبار عن الأمة القائمة. وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي عبيدة. وقرأ الآخرون بالتاء فيهما على الخطاب كقوله كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ، وهي اختيار أبي حاتم. وكان أبو عمرو يرى القراءتين جميعا: الياء والتاء. ومعنى الآية وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ: فلن يقدروا ثوابه، ولن يجحدوا جزاءه بل يشكر [لهم] [[في المخطوط: لكم.]] ويجازون عليه، وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ: المؤمنين.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب