الباحث القرآني

وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ. قرأ الحسن وأبو جعفر: (كاين) مقصورا بغير همزة ولا تشديد حيث وقع. وقرأ مجاهد وابن كثير وشيبة: (وكأين) مهموزا ممدودا مخففا على وزن فاعل، وهو اختيار أبي عبيد، اعتبارا بقول أبي بن كعب لزر بن حبيش: (كاين) بعد سورة الأحزاب. فقال: كذا آية. وقرأ ابن محيصن: (كأي) ممدودا بغير نون. وقرأ الباقون: (وَكَأَيِّنْ) مشدودا بوزن كعيّن، وهي لغة قريش واختيار أبي حاتم، وكلها لغات معروفة بمعنى واحد. وأنشد المفضل: وكائن ترى في الحي من ذي صداقة ... وغيران يدعو ويله من حذاريا [[معجم البلدان: 4/ 373 ونسبه لجرير.]] وقال في التشديد: كأين من أناس لم يزالوا ... أخوهم فوقهم وهم كرام [[تفسير القرطبي: 4/ 228.]] وجمع الآخر بين اللغتين، فقال: كأين أبدنا من عدوّ يغزنا ... وكأين أجرنا من ضعيف وخائف [[تفسير القرطبي: 4/ 229.]] ومعناه كم، وهي كاف التشبيه ضمت إلى أي الاستفهام، ولم يقع التنوين صورة في الخط إلّا في هذا الحرف خاصة. قتل. قرأ قتادة وابن كثير ونافع وأبو عمرو ويعقوب (قتل) : وهي قراءة ابن عباس واختيار أبي حاتم. وقرأ الآخرون: (قاتَلَ) ، وهي قراءة ابن مسعود واختيار أبي عبيد، فمن قرأ (قاتَلَ) فلقوله: فَما وَهَنُوا ويستحيل وصفهم بأنهم لم يهنوا بعد ما قتلوا، ولقول سعيد بن جبير: ما سمعنا أن نبيا قط قتل في القتال. وقال أبو عبيد: إن الله تعالى إذا حمد من قاتل كان من قتل داخلا فيه، وإذا حمد من قتل خاصة لم يدخل فيه غيرهم، فقاتل أعم. ومن قرأ (قتل) فله ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون القتل واقعا على النبي وحده، وحينئذ يكون تمام الكلام عند قراءة (قتل) فيكون في الآية إضمار معناه ومعه رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ كما يقال: قتل الأمير معه جيش عظيم، أي ومعه، ويقول: خرجت معي تجارة، أي ومعي. والوجه الثاني: أن يكون القتل نال النبي ومعه من الربيين، ويكون وجه الكلام: قتل بعض من كان معه، تقول العرب: قتلنا بني تميم وبني فلان، وإنما قتلوا بعضهم ويكون قوله: فَما وَهَنُوا راجعا إلى الباقين الذين لم يقتلوا. والوجه الثالث: أن يكون القتل للربيين لا غير. رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ، قرأ ابن مسعود وأبو رجاء والحسن وعكرمة: (رُبِّيُّونَ) بضم الراء، وهي لغة بني تميم. الباقون: بالكسر، وهي اللغة الفاشية [العالية] . والربيون جمع الربّية وهي الفرقة، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع. السدي: جموع كثير. قال حسان: وإذا معشر تجافوا عن الحق ... حملنا عليهم ربيا [[تفسير القرطبي: 4/ 230، الدر المنثور: 2/ 82.]] ابن مسعود: الربيون الألوف، الضحاك: الربية الواحدة ألف، الكلبي: الربية الواحدة عشر ألف، الحسن: فقها علما صبرا، ابن زيد: هم الأتباع، والرابيون: هم الولاة، والربيون: الرعية، وقال بعضهم: هم الذين يعبدون الرب، والعرب تنسب الشيء إلى الشيء فيغير حركته كما يقول بصريّ منسوب إلى بصرة، فكذلك رِبِّيُّونَ منسوب إلى الربّ، وقال بعضهم: مطيعون منيبون إلى الله فَما وَهَنُوا. قرأه العامة: بفتح الهاء، وقرأ قعنب أبو السماك العدوي: بكسر الهاء، فمن فتحه فهو من وهن يهن وهنا، مثل وعد يعد وعدا، قاله المبرد وأنشد: إن القداح إذا اجتمعن فرامها ... بالكسر ذو جلد وبطش أيد عزّت ولم تكسر وإن هي بددت ... قالوهن والتكسير للمتبدد [[تفسير الطبري: 1/ 568، شرح نهج البلاغة: 17/ 7.]] ومن كسر فهو من وهن يهن، مثل ورم يرم قاله أبو حاتم. فقال الكسائي: هو من وهن يوهن وهنا، مثل وجل يوجل وجلا. قال الشاعر: طلب المعاش مفرق بين الأحبة والوطن ... ومصير جلد الرجال إلى الضّراعة والوهن [[تاريخ مدينة دمشق: 49/ 133.]] ومعنى الآية: ف ما ضَعُفُوا عن الجهاد لما نالهم من ألم الجراح، وقيل: الأصحاب وما عجزوا لقتل نبيّهم. قال قتادة والربيع: يعني ما ارتدّوا عن بصيرتهم ودينهم، ولكنهم قاتلوا على ما قاتل عليه نبيهم حتى لحقوا بالله، السدي: وما ذلّوا، عطاء: وما تضرّعوا، مقاتل: وما استسلموا وما خضعوا لعدوهم، أبو العالية: وما جبنوا، المفضل والقتيبي: وما خشعوا، ومنه أخذ المسكين لذله وخضوعه وهو مفعيل منه، مثل معطير من العطر ومنديل من الندل، وهو دفعه من واحد إلى آخر، وأصل الندل السوق، ولكنهم صبروا على أمر ربّهم وطاعة نبيّهم وجهاد عدوهم. وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ وَما كانَ قَوْلَهُمْ. قرأ الحسن وابن أبي إسحاق: (قَوْلُهُمْ) بالرفع على اسم كان وخبره في قوله: أَنْ قالُوا. وقرأ الباقون: بالنصب على خبر كان والاسم في أن، قالوا تقديره: وما كان قولهم إلّا قولهم كقوله: وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ [[سورة الأعراف: 82.]] وما كانَ حُجَّتَهُمْ [[سورة الجاثية: 25.]] ونحوهما، ومعنى الآية: وَما كانَ قَوْلَهُمْ عند قتل نبيّهم إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا يعني خطايانا الكبار، وأصله مجاوزة الحد وَثَبِّتْ أَقْدامَنا كيلا تزول وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فهلا فعلتم وقلتم مثل ذلك يا أصحاب محمد فَآتاهُمُ اللَّهُ، وقرأ الجحدري: فأثابهم الله من الثواب، ثَوابَ الدُّنْيا النصرة والغنيمة وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ الأجر والجنة وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يعني اليهود والنصارى، فقال علي (رضي الله عنه) : يعني المنافقين في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم وادخلوا في دينهم ، يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ يرجعوكم إلى أول أمركم الشرك بالله تعالى فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ فتنقلبوا مغبونين ثم قال بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ناصركم وحافظكم على دينكم وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ. سَنُلْقِي. قال السدي: لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين نحو مكة، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ثم إنّهم ندموا وقالوا: بئسما صنعنا، قتلناهم حتى لم يبق منهم إلّا الشريد وتركناهم رجعوا. فلما عزموا على ذلك قذف الله في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عمّا همّوا به. وستأتي هذه القصة بتمامها إن شاء الله وما نزّل الله تعالى فيها. سَنُلْقِي قرأ أيوب السختياني: سيلقي بالياء يعني الله عزّ وجلّ لقوله: بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ، قرأ الباقون: بالنون على التعظيم أي سنقذف، فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ الخوف وثقل عينه، أبو جعفر وابن عامر والكسائي ويعقوب، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وخففها الآخرون. بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ هو (ما) المصدر، تقديره باشراكهم بالله ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً حجة وبيانا وعذرا وبرهانا، ثم أخبر عن مصيرهم فقال: وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ مقام الكافرين. وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ، قال محمد بن كعب القرظي: لما رجع رسول الله ﷺ‎ وأصحابه إلى المدينة، وقد أصابهم ما أصابهم بأحد، فقال ناس من أصحابه: من أين أصابنا وقد وعدنا بالنصر، فأنزل الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ الذي وعد بالنصر والظفر، وهو قوله: بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا الآية، وقول رسول الله للرماة: «لا تبرحوا مكانكم فإنا لا نزل غالبين ما ثبتم» [[تفسير الطبري: 4/ 149. بتفاوت.]] [165] ، والصدق يتعدى إلى مفعولين كالمنع والغصب ونحوهما، إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ وذلك أن رسول الله ﷺ‎ جعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وجعل حنين وهو جبل عن يساره، وأقام عليه الرماة وأمر عليهم عبد الله بن جبير وقال لهم: «احموا ظهورنا فإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تشركونا وإن رأيتمونا نقتل فلا تنصرونا» [[مسند أحمد: 1/ 287.]] [166] . وأقبلوا المشركون وأخذوا في القتال، فجعل الرماة يرشفون بالنبل والمسلمون يضربونهم بالسيف حتى ولوا هاربين وانكشفوا منهزمين، فذلك قوله: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ أي تقتلونهم قتلا ذريعا سريعا شديدا. قال الشاعر: حسسناهم بالسيف حسّا فأصبحت ... بقيتهم قد شردوا وتبددوا [[تفسير القرطبي: 4/ 235.]] وقال أبو عبيدة: الحس الاستيصال بالقتل، يقال: جراد محسوس إذا قتله البرد، وسنة حسوس إذا أتت على كل شيء. قال روبة: إذا شكونا سنة حسوسا ... تأكل بعد الأخضر اليبيسا [[تفسير القرطبي: 4/ 235، لسان العرب: 2/ 44.]] حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ، قال بعض أهل المعاني: يعني إلى أن فشلتم، جعلوا (حَتَّى) غاية بمعنى إلى، وحينئذ لا جواب له. وقال الآخرون: هو بمعنى فلما وفي الكلام تقديم وتأخير قالوا: وفي قوله: وَتَنازَعْتُمْ مقحمة زائدة، ونظم الآية: حتى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم وفشلتم أي جبنتم وضعفتم، ومعنى التنازع الاختلاف، وأصله من نزع القوم الشيء بعضهم من بعض، وكان اختلافهم أن الرماة تكلموا حين هزم المشركون وقالوا: انهزم القوم فما مقامنا، وقال بعضهم: لا تجاوزوا أمر رسول الله ﷺ‎ فثبت عبد الله بن جبير في نفر يسير دون العشرة وانطلق الباقون ينهبون، فلما نظر خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل إلى ذلك، حملوا على الرماة فقتلوا عبد الله بن جبير وأصحابه وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريح فصارت دبورا بعد ما كانت صبا، وانتفضت صفوف المسلمين، فاختلطوا وجعلوا يقتتلون على غير شعار، فقتل بعضهم بعضا وما يشعرون من الدهش، ونادى إبليس ألا إن محمدا قد قتل، وكان ذلك سبب هزيمة المؤمنين. مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ يا معشر المؤمنين ما تحبون هو الظفر والغنيمة مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا يعني الذين تركوا المركز فاقبلوا إلى النهب وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يعني الذين ثبتوا مع ابن جبير حتى قتلوا. وقال عبد الله بن مسعود: ما شعرت أن أحدا من أصحاب رسول الله ﷺ‎ يريد الدنيا وعرضها حتى كان يوم أحد فنزلت هذه الآية ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ أي ردّكم عنهم بالهزيمة لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ فلم يستأصلكم بعد المعصية والمخالفة، قاله أكثر المفسرين، ونظيره: ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ [[سورة البقرة: 52.]] . وقال الكلبي: يعني تجاوز عنكم فلم يؤاخذكم بذنبكم. وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. إِذْ تُصْعِدُونَ يعني ولقد عفونا عنكم إذ تصعدون هاربين. قرأه العامة: (تُصْعِدُونَ) بضم التاء وكسر العين. وقرأ أبو رجاء العطاردي وأبو عبد الرحمن والحسن وقتادة بفتح التاء. وقرأ ابن محيصن وشبل: إذ يصعدون ويلوون بالياء، يعني المؤمنين. ثم رجع إلى الخطاب فقال وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ على البلوى. قال أبو حاتم: يقال أصعدت إذا مضيت حيال وجهك، وصعدت إذا ارتقيت في جبل أو غيره، والإصعاد السير في مستوى الأرض وبطون الأودية والشعاب، والصعود الارتفاع على الجبال والسطوح والسلالم والدّرج، قال المبرد: أصعد إذا أبعد في الذهاب. قال الأعشى: إلّا أيهذا السائلي أين أصعدت ... فإنّ لها من بطن يثرب موعدا [[تفسير القرطبي: 4/ 239.]] وقال الفراء: الإصعاد الابتداء في كل سفر والانحدار والرجوع منه يقال: أصعدنا من بغداد إلى مكة وإلى خراسان وأشباه ذلك، إذا خرجنا إليها وأخذنا في السفر وانحدرنا إذا رجعنا. وأنشد أبو عبيدة: لقد كنت تبكين على الإصعاد ... فاليوم سرحت وصاح الحادي [[تفسير القرطبي: 4/ 239.]] ودليل قراءة العامة قول النبي ﷺ‎ للمنهزمين: «لقد ذهبتم فيها عريضة» [[تفسير القرطبي: 4/ 194.]] [167] . وقرأ أبي بن كعب: إذ تصعدون في الوادي، ودليل فتح التاء والعين ما روى أنهم صعدوا في الجبل هاربين وكلتا القراءتين صواب، فقد كان يومئذ من المنهزمين مصعد وصاعد. وقال المفضل: صعد وأصعد وصعّد بمعنى واحد. ولا يلوون على أحد يعني ولا يعرجون ولا يقيمون على أحد منكم، لا يلتفت بعض إلى بعض هربا. وقرأ الحسن: ولا يلون بواو واحدة اتباعا للخط، كقولك: استحببت واستحبت على أحد. قال الكلبي: يعني على محمد ﷺ‎ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ أي في آخركم ومن ورائكم إليّ عباد الله فأنا رسول الله من بكّر فله الجنة، يقال: جاء فلان في آخر الناس وآخرة الناس وأقرى الناس وأخراة الناس وأخريات الناس، فجاز لكم جعل الإنابة بمعنى العقاب وأصلها في الحسنات كقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [[سورة الإنشقاق: 24.]] . قال الشاعر: أخاف زيادا أن يكون عطاؤه ... أداهم سودا أو محدرجة سمرا» يعني بالسود: القيود والسياط وكذلك معنى الآية، جعل مكان الثواب الذي كنتم ترمون غمّا بغمّ. قال الحسن: يعني بغم المشركين يوم بدر. وقال آخرون: الباء بمعنى على، أي غمّا على غمّ، وقيل: غَمًّا بِغَمٍّ، فالغم الأول ما فاتهم من الظفر والغنيمة، والغم الثاني ما نالهم من القتل والهزيمة، وقيل: الغم الأول انحراف خالد ابن الوليد عليهم بخيل من المشركين، والغم الثاني حين أشرف عليهم أبو سفيان، وذلك أن رسول الله ﷺ‎ انطلق يومئذ يدعو الناس حتى انتهى إلى أصحاب الصخرة، فلما رأوه وضع رجل سهما في قوسه فأراد أن يرميه فقال: «أنا رسول الله» [168] ففرحوا حين وجدوا رسول الله ﷺ‎، وفرح النبي حين رأى في أصحابه من يمتنع، فلما اجتمعوا وفيهم رسول الله ﷺ‎ ذهب عنهم الحزن، فأقبلوا يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قتلوا، فأقبل أبو سفيان وأصحابه حتى وقفوا بباب الشعب، ثم أشرف عليهم، فلما نظر المسلمون إليهم، همّهم ذلك وظنّوا أنهم سوف يميلون عليهم فيقتلونهم، فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله ﷺ‎: «ليس لهم أن يعلونا، اللهم إن تقتل هذه العصابة لا تعبد في الأرض» [169] ثم ندب أصحابه فرموهم بالحجارة حتى أنزلوهم فنزلوا سريعا [[تاريخ الطبري: 2/ 201- 202.]] . لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ من الفتح والغنيمة وَلا ما أَصابَكُمْ (ما) في موضع خفض أي: ولا على ما أصابكم من القتل والهزيمة حين أنساكم ذلك هذا الغم، وهمّكم ما أنتم فيه غما قد أصابكم قبل. فقال الفضل: (لا) صلة معناه: لكي تحزنوا على ما فاتكم وما أصابكم عقوبة لكم في خلافكم إياه، وترككم المركز كقوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ [[سورة الحديد: 29.]] . وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ، روى عبد الله بن الزبير بن العوام عن أبيه قال: لقد رأيتني مع رسول الله ﷺ‎ حين اشتد علينا الخوف أرسل الله علينا النوم، والله لا نسمع قول مصعب بن عمير والنعاس يغشاني ما أسمعه إلّا كالحلم يقول: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا ، فأنزل الله تعالى ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ يا معشر المؤمنين وأهل اليقين، أَمَنَةً يعني أمنا، وهي مصدر كالعظمة والغلبة، وقرأ ابن محيصن: أَمْنَةً بسكون الميم. نُعاساً بدل من الأمنة يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ، قرأ ابن محيصن والأعمش وحمزة والكسائي وخلف: (تغشي) بالتاء ردا إلى الأمنة، وقرأ الباقون: بالياء ردا إلى النعاس، وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم، قال أبو عبيد: لأن النعاس يلي الفعل، فالتذكير أولى به ممّا بعد منّه. قال ابن عباس: آمنهم يومئذ بنعاس يغشاهم بعد فرق، وإنما ينعس من يأمن والخائف لا ينام، ونظيره في سورة الأنفال في قصة بدر. روى حماد بن سلمة عن ثابت عن أنس عن أبي طلحة قال: رفعت رأسي يوم أحد فجعلت ما أرى أحدا من القوم إلّا وهو يميد تحت جحفته من النعاس. قال أبو طلحة: وكنت ممّن ألقي عليه النعاس يومئذ، وكان السيف يسقط من يدي فآخذه، ثم يسقط السوط من يدي من النوم فآخذه. وَطائِفَةٌ يعني المنافقين، وهب بن قشير وأصحابه، وهو رفع على الابتداء وخبرها في قوله: يَظُنُّونَ ... قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي حملتهم على الهمّ، يقال: أمر مهم، ومنه قول العرب: همّك ما أهمّك. يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ أي لا ينصر محمدا، وقيل: ظنوا أن محمدا قد قتل ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ أي كظن أهل الجاهلية والشرك يَقُولُونَ هَلْ لَنا أي ما لنا، لفظ استفهام ومعناه هل مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ يعني النصر قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ. قرأ أبو عمرو ويعقوب: (كُلُّهُ) على الرفع بالابتداء وخبره في قوله: لِلَّهِ وصار هذا الابتداء والجملة خبرا لإنّ، كما يقول: إن عبد الله وجهه حسن، فيكون عبد الله مبتدأ ووجهه ابتداء ثانيا وحسن خبره، وجملة الكلام خبر للابتداء الأول. وقرأ الباقون: (كُلَّهُ) بالنصب على البدل، وقيل: على النعت. وروى مجاهد عن الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يعني به التكذيب بالقدر، وذلك أنّهم يظنوا في القدر، فقال الله عزّ وجلّ: إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يعني القدر خيره وشرّه من الله وهو قولهم: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا وذلك أنّ المنافقين قال بعضهم لبعض: لو كان لنا عقول لم نخرج مع محمد إلى قتال أهل مكة ولمّا قتل رؤساؤنا، فقال الله: قل لهم: لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ لخرج. وقال ابن أبي حيوة: (لَبُرِّزَ) بضم الباء وتشديد الراء على الفعل المجهول. الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ، قرأ قتادة: القتال إِلى مَضاجِعِهِمْ مصارعهم، وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ليختبر الله ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ يخرج ويطهّر ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما في القلوب من خير أو شر إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا انهزموا مِنْكُمْ يا معشر المؤمنين يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين والمشركين إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ. قال المفضل: حملهم على الزلل، وهو استفعل من الزلّة وهي الخطيئة. وقال القتيبي: طلب زلتهم، كما يقال: استعجلت عليها، أي طلبت عجلته، واستعجلته طلبت عمله، وقيل: أزل واستزل بمعنى واحد. وقال الكلبي: زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ حينما كسبوا، أي بشؤم ذنوبهم، قال المفسرون: بتركهم المراكز، وقال الحسن: ما كَسَبُوا قبولهم من إبليس وما وسوس إليهم من الهزيمة. وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ. وروى إبراهيم بن إسحاق الزهري، أن جعفر بن عون حدثهم أن زائدة حدثهم عن كليب ابن وائل قال: جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن عثمان أكان شهد بدرا؟ قال: لا، قال: أكان شهد بيعة الرضوان؟ قال: لا، قال: أفكان من الذين تولّوا يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ؟ قال: نعم، فقيل له: إن هذا يرى أنك قد عبته، فقال: عليّ به، أمّا بدر فإن رسول الله ﷺ‎ قد ضرب له بسهمه، وأما بيعة الرضوان فقد بايع [له] [[هكذا في الأصل.]] رسول الله ﷺ‎ ويد رسول الله ﷺ‎ خير من يد عثمان، وأما الذين تولوا يوم التقى الجمعان [فإن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ] فاذهب فاجهد عليّ جهدك [[المصنف لابن أبي شيبة: 7/ 490 وما بين المعكوفتين بياض في المخطوط استدركناه منه.]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب