الباحث القرآني

لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ نزلت في مشركي العرب، وذلك أنهم كانوا في رخاء ولين من العيش وكانوا يتجرون ويتنعمون، فقال بعض المؤمنين: إن أعداء الله فيما يرى من الخير وقد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت هذه الآية. وقال الفراء: كانت اليهود تضرب في الأرض فتصيب الأموال، فأنزل الله لا يَغُرَّنَّكَ. وقرأ يعقوب: (يغرنْك) وأخواتها ساكنة النون. وأنشد: لا يغرنك عشاء ساكن ... قد يوافي بالمنيات السحر [[راجع تفسير القرطبي: 4/ 319.]] تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا: ضربهم وتصرفهم في البلاد للتجارات والبياعات وأنواع المكاسب والمطالب، والخطاب للنبي ﷺ‎ والمراد به غيره، لأنه لم يغيّر لذلك. قال قتادة في هذه الآية: والله ما غرّوا نبي الله ولا وكّل إليهم شيئا من أمر الله تعالى حتى قبضه الله على ذلك، نظيره قوله تعالى: فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ [[سورة غافر: 4.]] ، ثم قال: مَتاعٌ قَلِيلٌ أي هو متاع قليل بلغة فانية ومتعة زائلة، لأن كل ما هو فان فهو قليل. الأعمش عن عمارة عن يزيد بن معاوية النخعي قال: إن الدنيا جعلت قليلا فما بقي منه إلّا القليل من قليل. روى سفيان عن إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حازم عن المستورد الفهري قال: سمعت النبي ﷺ‎ يقول: «ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ، فلينظر بم يرجع» [[مسند أحمد: 4/ 229.]] [218] . وقال ﷺ‎: «ما الدنيا فيما مضى إلّا كمثل ثوب شق باثنين وبقي خيط إلّا وكان ذلك الخيط قد انقطع» [[الجامع الصغير: 2/ 534 ح 8166، كنز العمال: 3/ 231 ح 6301.]] [219] . ثُمَّ مَأْواهُمْ مصيرهم جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ. لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ. قرأ أبو جعفر: بتشديد النون، الباقون: بتخفيفه. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا. قرأ الحسن والنخعي: (نُزْلًا) بتخفيف الزاي استثقالا لضمتين، وثقّله الآخرون، والنزل الوظيفة المقدرة لوقت. قال الكلبي: جزاء وثوابا من عند الله، وهو نصب على التفسير، كما يقال: هو لك صدقه وهو لك هبة، قاله الفراء. وقيل: هو نصب على المصدر، أي انزلوا نزلا، وقيل: جعل ذلك نزلا. وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ من متاع الكفار. الحسن عن أنس بن مالك قال: دخلت على رسول الله ﷺ‎ وهو على حصير مزمول بالشريط، وتحت رأسه وسادة من أدم حشوها ليف، ودخل عليه عمر وناس من أصحابه فانحرف النبي ﷺ‎ انحرافة فرأى عمر (رضي الله عنه) أثر الشريط في جنبه فبكى، فقال له: «ما يبكيك يا عمر؟» فقال عمر: وما لي لا أبكي وكسرى قيصر يعيشان فيما يعيشان فيها من الدنيا وأنت على الحال الذي أرى. فقال له النبي ﷺ‎: «يا عمر ألم ترضى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة» قال: بلى. قال: «هو كذلك» [[مسند أحمد: 2/ 140.]] [220] . وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الآية، اختلفوا في نزولها: فقال جابر بن عبد الله وابن عباس وأنس وقتادة: نزلت في النجاشي ملك الحبشة. واسمه أضحمة وهو بالعربية عطية. وذلك أنه لما مات نعاه جبرئيل لرسول الله في اليوم الذي مات فيه. فقال رسول الله ﷺ‎ لأصحابه: «أخرجوا فصلوا على أخ لكم مات بغير أرضكم» . قالوا: ومن هو؟ قال: «النجاشي» ، فخرج رسول الله ﷺ‎ إلى البقيع وكشف له من المدينة إلى أرض الحبشة فأبصر سرير النجاشي، وصلّى عليه ركعتين وكبّر أربع تكبيرات واستغفر له، وقال لأصحابه: «استغفروا له» [221] . فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج حبشي نصراني لم يره قط وليس على دينه، فأنزل الله تعالى هذه الآية [[أسباب النزول الواحدي: 93 ومسند أحمد: 2/ 269.]] . عطاء: نزلت في أربعين رجلا من أهل نجران من بني الحرث بن كعب، وأثني وثلاثين من أرض الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى فآمنوا بالنبي ﷺ‎. ابن جريج وابن زيد: نزلت في عبد الله بن سلام وأصحابه، مجاهد: نزلت في مؤمني أهل الكتاب كلهم. وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ يعني القرآن وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ يعني التوراة والإنجيل خاشِعِينَ لِلَّهِ خاضعين متواضعين، وهو نصب على الحال والقطع لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا يعني لا يحرّفون كتبهم ولا يكتمون صفة محمد ﷺ‎ لأجل المأكلة والرئاسة، كما فعلت رؤساء اليهود أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا. قال الحسن: (اصْبِرُوا) على دينكم فلا تدعوه لشدة ولا رخاء ولا سرّاء ولا ضرّاء، قتادة: (اصْبِرُوا) على طاعة الله، الضحاك ومقاتل بن سليمان: (اصْبِرُوا) على أمر الله عزّ وجلّ، مقاتل ابن حيان: (اصْبِرُوا) على فرائض الله، زيد بن أسلم: على الجهاد، الكلبي: على البلاء. قالت الحكماء: الصبر ثلاثة أشياء: ترك الشكوى، وصدق الرضا، وقبول القضاء. وقيل: الصبر الثبات على أحكام الكتاب والسنّة. وَصابِرُوا يعني الكفار، قاله أكثر المفسرين. قال عطاء والقرظي: (وَصابِرُوا) الوعد الذي وعدكم، وَرابِطُوا يعني المشركين، وأصل الرباط أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم، ثم قيل ذلك لكل مقيم في ثغر يدفع عمّن وراءه وإن لم يكن له مركب، قال الله تعالى: وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ [[سورة الأنفال: 60.]] . قال الثعلبي: وسمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سمعت أبا حامد [الخازرنجي] يقول: المرابطة اعتقال المبارزين في الحرب، وأصل الربط الشد، ومنه قيل للخيل: الرباط، ويقال: فلان رابط الجأش، أي قوي القلب. قال لبيد: رابط الجأش على كل وجل [[الصحاح: 2/ 482.]] قال عبيد: داوموا واثبتوا. عن سمط بن عبد الله البجلي عن سلمان الفارسي: أنهم كانوا في جند المسلمين، فأصابهم ضرّ وحصر فقال سلمان لصاحب الخيل: ألا أحدّثك حديثا سمعته من رسول الله ﷺ‎ فيكون لك عونا على الجند، سمعت رسول الله ﷺ‎ يقول: «من رابط يوما أو ليلة في سبيل الله كان عدل صيام شهر وصلاته الذي لا يفطر ولا ينصرف من صلاة إلّا لحاجة، ومن مات مرابطا في سبيل الله أجرى الله له أجرة حتى يقضي بين أهل الجنة وأهل النار» [[المصنف لابن أبي شيبة: 4/ 590. وكنز العمال: 4/ 2327 باختلاف.]] [222] . الأعمش عن أبي سفيان عن جابر قال: سمعت رسول الله ﷺ‎ يقول: «من رابط يوما في سبيل الله جعل الله عزّ وجلّ بينه وبين النار سبعة خنادق، كل خندق منها كسبع سماوات وسبع أرضين» [[تحفة الاحوذي: 5/ 207، مجمع الزوائد: 5/ 289.]] [223] . وفيه قول آخر وهو ما روى مصعب بن ثابت عن عبد الله بن الزبير عن عبد الله بن صالح قال: قال لي سلمة بن عبد الرحمن: يا ابن أخي هل تدري في أي شيء نزلت هذه الآية اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا؟ قال: قلت: لا. قال: إنه يا ابن أخي لم يكن في زمان النبي ﷺ‎ غزو يرابط فيه، ولكنّه انتظار الصلاة خلف الصلاة. ودليل هذا التأويل ما روى العلاء بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ‎: «ألا أخبركم بما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات» قالوا: بلى يا رسول الله. قال: «إسباغ الوضوء عند المكاره وكثرة الخطى إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط» [[تفسير الطبري: 4/ 293، والسنن الكبرى: 2/ 62، وتفسير القرطبي: 4/ 323.]] [224] . وقال أصحاب اللسان في هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا عند صيام النفس على احتمال الكرب وَصابِرُوا على مقابلة العناء والتعب وَرابِطُوا في دار أعدائي بلا هرب. وَاتَّقُوا اللَّهَ بهمومكم من الالتفات إلى السبب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ غدا بلقائي على بساط الطرب. السري السقطي: اصْبِرُوا على الدنيا، رجاء السلامة (وَصابِرُوا) عند القتال بالبينات والاستقامة (وَرابِطُوا) هو النفس اللوامة (وَاتَّقُوا) ما يعقب لكم الندامة (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) غدا على بساط الكرامة. وقيل: (اصْبِرُوا) على بلائي (وَصابِرُوا) على نعمائي (وَرابِطُوا) في دار أعدائي (وَاتَّقُوا) محبة من سواي (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) غدا بلقائي. وقيل: (اصْبِرُوا) على الدنيا (وَصابِرُوا) على البأساء والضراء (وَرابِطُوا) في دار الأعداء (وَاتَّقُوا) إله الأرض والسماء (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) في دار البقاء.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب