الباحث القرآني

يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ. إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ. وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى، سئل الحسين بن الفضل عن الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه وتعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [[سورة العنكبوت: 13.]] فقال: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى طوعا وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ كرها. وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ يعني وَإِنْ تَدْعُ نفس مُثْقَلَةٌ بذنوب غيرها إِلى حِمْلِها، أي حمل ما عليها من الذنوب لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى: ولو كان المدعوّ ذا قربى له: ابنه أو أمه أو أباه أو أخاه. أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا عن أحمد بن محمد بن رزمة القزويني عن محمد بن عبد ابن عامر السمرقندي قال: حدّثنا إبراهيم بن الأشعث قال: سمعت الفضيل بن عياض يقول: قوله سبحانه: لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى قال: يعني الوالدة تلقي ولدها يوم القيامة فتقول: يا بني ألم تكن بطني لك وعاء؟ ألم يكن لك ثديي سقاء؟ فيقول: بلى يا أماه. فتقول: يا بني قد أثقلتني ذنوبي فاحمل عني ذنبا واحدا. فيقول: يا أماه إليك عني، فإني اليوم عنك مشغول. إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ أي يخافونه ولم يروه، وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى صلح عمل خيرا وصالحا فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ. وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ يعني: الجاهل والعالم، وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ يعني: الكفر والإيمان، وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ يعني: الجنة والنار، والحرور: الريح الحارة بالليل، والسموم بالنهار، وقال بعضهم: الحرور: بالنهار مع الشمس، وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ يعني: المؤمنين والكفار. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ، حتى يتعظ ويجيب وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ يعني: الكفار شبههم بالأموات، وقرأ أشهب العقيلي: (بِمُسْمِعِ مَنْ فِي الْقُبُورِ) بلا تنوين على الإضافة. إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ. إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ. وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ كرر وهما واحد لاختلاف اللفظين. ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ. أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها قدم النعت على الاسم فلذلك نصب. وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ: طرق، واحدها جدّة نحو مدة و (مدد) ، وأما جمع الجديد فجدد (بضم الدال) مثل: سرير وسرر بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ، قال الفراء: فيه تقديم وتأخير، مجازه: سود غرابيب، وهي جمع غربيب، هو الشديد السواد يشبّهها بلون الغراب قال الشاعر يصف كرما: ومن تعاجيب خلق الله غاطية ... البعض منها ملاحيّ وغربيب [[لسان العرب: 1/ 580.]] وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ قال: المؤرخ: إنما أَلْوانُهُ لأجل (من) [[أي ذكّر ضمير (ألوانه) مراعاة ل (من) .]] ، وسمعت أستاذنا أبا القاسم بن حبيب يقول: سمعت أبا بكر محمّد بن عياش يقول: إنما قال: أَلْوانُهُ لأجل أنها مردودة إلى «ما» في الإضمار، مجازه: وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ ما هو مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ [[تفسير القرطبي: 14/ 342.]] . كَذلِكَ تمام الكلام هاهنا، أي ومن هذه الأشياء مختلف ألوانه باختلاف الثمرات، ثم ابتدأ فقال سبحانه وتعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ روى عن عمر بن عبد العزيز أنه قرأ (إِنَّما يَخْشَى اللَّهُ) رفعا و (الْعُلَماءَ) نصبا، وهو اختيار أبي حنيفة على معنى يعلم الله، وقيل: يختار، والقراءة الصحيحة ما عليه العامة. وقيل: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه أخبرني ابن فنجويه قال: حدثنا ابن شنبه عن إسحاق بن صدقة قال: حدّثنا عبد الله بن هاشم عن سيف بن عمر قال: حدّثنا عباس بن عوسجة عن عطاء الخراساني رفع الحديث قال: ظهر من أبي بكر خوف حتى عرف فيه فكلمه النبي ﷺ‎ في ذلك فأنزل الله سبحانه تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ في أبي بكر رضي الله عنه وفي الحديث: «أعلمهم بالله أشدهم له خشية» [52] . وقال مسروق: كفى بالمرء علما أن يخشى الله، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه. وأخبرني الحسين بن محمد بن الحسين الثقفي قال: حدثنا محمد بن إبراهيم الربيعي قال: حدثنا إبراهيم بن عبد الله بن محمد بن أيوب المحرمي قال: حدثنا صالح بن مالك الأزدي قال: حدّثنا عبيد الله بن سعد عن صالح بن مسلم الليثي قال: أتى رجل الشعبيّ فقال: أفتني أيها العالم؟ فقال: العالم من خشي الله عز وجل. إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ. إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ الآية قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: هذه آية القراء، وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً. أخبرنا عبد الله بن حامد الوزان قال: حدّثنا ابن شاذان قال: حدثنا جيعويه قال: حدّثنا صالح بن محمد عن عبد الله بن عبد الله عن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن عبد الله بن عبيد الله بن عمير الليثي أنه قال: قام رجل إلى رسول الله ﷺ‎ فقال: يا رسول الله، ما لي لا أحبّ الموت؟ قال: «ألك مال؟» . قال: نعم. قال: «فقدمه» . قال: لا أستطيع. قال: «فإنّ قلب المرء مع ماله إن قدمه أحب أن يلحق به، وإن أخّره أحب أن يتأخر معه» [53] [[بتفاوت في كنز العمال: 15/ 551 ح 42139 وتفسير الثعالبي: 1/ 303.]] . يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ، قال الفراء: قوله يَرْجُونَ جواب لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ. وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ. ثُمَّ مردود إلى ما قبله من كتب الله في قوله: لِما بَيْنَ يَدَيْهِ، أي قبله من الكتب السالفة، أي أنزلنا تلك الكتب، ثُمَّ أَوْرَثْنَا هذا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا، ويجوز أن تكون ثُمَّ بمعنى الواو أي (وأورثنا) كقوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [[سورة البلد: 17.]] أي وكان ومعنى أَوْرَثْنَا: أعطينا لأنّ الميراث عطاء، قاله مجاهد، وقال بعض أهل المعاني: أَوْرَثْنَا أي أخرنا، ومنه الميراث لأنه تأخر عن الميت ومعناه: أخرنا القرآن عن الأمم السالفة وأعطيناكموه وأهّلناكم له، وقال عنترة: وأورثت سيفي عن حصين بن معقل ... إلى جده إني لثأري طالب أي أخرت، وفي هذا كرامة لأمة محمد ﷺ‎ حيث قال لهم: أَوْرَثْنَا وقال: لسائر الأمم وَرِثُوا الْكِتابَ الآية يعني القرآن. الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا وهم أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) . ثم قسمهم ثلاث طبقات ورتبهم على ثلاث درجات فقال الله تعالى: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قيّد اللفظ وعلّق الظلم بالنفس فلذلك ساغ أن يكون من أهل الاصطفاء مع ظلمه. فإن قيل: ما وجه الحكمة في تقديم الظالم وتأخير السابق وإنما يقدم الأفضل؟ فالجواب عنه أن نقول: إنما أخر السابق ليكون أقرب إلى الجنان والثواب، كما قدم الصوامع والبيع والصلوات في سورة الحج على المساجد التي هي أفضل بقاع الأرض، فتكون الصوامع أقرب إلى الهدم والخراب وتكون المساجد أقرب إلى ذكر الله تعالى. ومنهم من قال: إنما جعل ذلك لأن الملوك إذا أرادوا الجمع بين الأشياء بالذكر قدموا الأدنى على الأفضل. كقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [[سورة الرعد: 6.]] ، وقال: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ [[سورة الحج: 61.]] ، وقال: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ [[سورة الشورى: 49.]] وقال: خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ [[سورة الملك: 2.]] . وقيل: قدم الظالم لئلا ييأس من رحمته وأخر السابق لئلا يعجب بعمله. وقال جعفر الصادق (عليه السلام) : «بدأ بالظالم إخبارا [[في المصدر: قدم الظالم ليخبر.]] أنه لا يتقرب إليه إلّا بصرف رحمته وكرمه، وأنّ الظلم لا يؤثّر في الاصطفائية ثم ثنى بالمقتصدين لأنهم بين الخوف والرجاء، ثم ختم بالسابقين لئلا يأمن أحد مكر الله وكلّهم في الجنة بحرمة كلمة الإخلاص» [54] [[تفسير القرطبي: 14/ 349.]] . وقال بعضهم: قدم الظالم لأنه لم يكن له شيء يتكل عليه إلّا رحمة الله فاعتمد على الله واتكل على رحمته واتكل المقتصد على حسن ظنه بربه واتكل السابق على حسناته وطاعته. وقال محمد بن علي الترمذي: جمعهم في الاصطفاء إزالة للعلل عن العطاء لأنّ الاصطفاء أوجب الإرث لا الإرث أوجب الاصطفاء لذلك قيل: صحح النسبة ثم أطمع في الميراث. وقال أبو بكر الوراق: إنما رتبهم هذا الترتيب على مقامات الناس لأنّ أحوال العبد ثلاث: معصية، وغفلة، ثم توبة وقربة. فإذا عصى دخل في حيّز الظالمين، وإذا تاب دخل في جملة المقتصدين وإذا صحت التوبة وكثرت العبادة والمجاهدة اتصل بالله ودخل في عداد السابقين. واختلف المفسرون والمتأوّلون في معنى الظالم والمقتصد والسابق فأكثروا، وأنا ذاكر نصوص ما قالوا وبالله التوفيق: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمّد بن الحسين بن عبد الله الحافظ، قال: حدّثنا برهان ابن علي الصوفي والفضل بن الفضل الكندي قالا: أخبرني أبو خليفة الفضل بن الحباب قال: حدثنا محمد بن كثير قال: أخبرنا سفيان عن الأعمش عن أبي ثابت أنّ رجلا دخل المسجد فقال: اللهم ارحم غربتي وآنس وحشتي ويسر لي جليسا صالحا. قال أبو الدرداء: لئن كنت صادقا لأنا أسعد بذلك منك، سمعت رسول الله ﷺ‎: قرأ هذه الآية ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، فقال: «أما السابق فيدخل الجنة بِغَيْرِ حِسابٍ، وأما المقتصد ف يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً، وأما الظالم لنفسه فيحبس في المقام ثم يدخل الجنة، فهم [الذين] قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ... إلى قوله: لُغُوبٌ [55] [[تفسير مجمع البيان: 8/ 245، وكذلك في تفسير القرطبي: 14/ 351 بتفاوت.]] . قال الكندي والأعمش عن رجل عن أبي ثابت: وأخبرني الحسين بن محمد قال: أخبرني أبو بكر بن مالك القطيعي عن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدّثني أبي عن إسحاق بن عيسى حدّثني أنس بن عياض الليثي أبو ضمرة عن موسى بن عتبة عن علي بن عبد الله الأزدي عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول الله ﷺ‎ يقول: «قال الله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ، فأما الذين سبقوا بالخيرات فأولئك الذين يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ ... بِغَيْرِ حِسابٍ، وأما الذين اقتصدوا فأولئك يحاسبون حِساباً يَسِيراً، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك الذين يحسبون في طول المحشر ثم هم الذين تلقّاهم الله برحمته فهم الذين يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ ... إلى قوله: لُغُوبٌ [56] [[مسند أحمد: 5/ 198.]] وأخبرني الحسين قال: حدّثنا أبو عمرو عثمان بن أحمد بن سمعان الذرار قال: حدّثنا يوسف بن يعقوب بن الحسن المقرئ بواسط قال: حدّثنا محمّد بن خالد بن عبد الله المزني قال: حدّثنا فرج بن فضالة عن أزهر بن عبد الله الحرازي قال: حدّثني من سمع عثمان بن عفان تلا هذه الآية: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الآية، فقال: سابقنا: أهل جهادنا، ومقصرنا: أهل حضرنا، وظالمنا: أهل بدونا. وأخبرني الحسين قال: حدّثنا عمر بن الخطاب قال: حدّثنا محمد بن إسحاق قال: حدّثنا إسماعيل بن يزيد قال: حدّثنا داود عن الصلت بن دينار قال: حدّثنا عقبة بن صهبان قال: دخلت على عائشة فسألتها عن قول الله عز وجل: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ... فقالت لي: يا بني كلّهم في الجنة أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله ﷺ‎ شهد له رسول الله ﷺ‎ بالجنة، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم فجعلت نفسها معنا. وقال مجاهد والحسن وقتادة: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالوا: هم أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ ... ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ هم أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ... وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ هم السَّابِقُونَ ... الْمُقَرَّبُونَ من الناس كلهم. قال قتادة: فهذا في الدنيا على ثلاث منازل وعند الموت قال الله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ إلى قوله: وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ [[سورة الواقعة: 90- 94.]] ، وفي الآخرة أيضا، قال عز وجل: وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً. فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ إلى قوله: الْمُقَرَّبُونَ [[سورة الواقعة: 7- 11.]] . وقال ابن عباس: السابق: المؤمن المخلص، والمقتصد: المرائي، والظالم: الكافر بنعمة الله غير الجاحد لها لأنه حكم للثلاثة بدخول الجنة فقال: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها، وسمعت أبا محمد شيبة بن محمد بن أحمد الشعبي يقول: سمعت أبا بكر بن عبد يقول: قالت عائشة: السابق: الذي أسلم قبل الهجرة، والمقتصد: الذي أسلم بعد الهجرة، والظالم: نحن. وقال بكر بن سهل الدمياطي: الظالم لنفسه: الذي مات على كبيرة ولم يتب منها، والمقتصد: الذي لم يصب كبيرة، والسابق بالخيرات: الذي لم يعص الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له. وعن الحسن أيضا قال: السابق: من رجحت حسناته، والمقتصد: من استوى حسناته وسيئاته، والظالم: الذي ترجح سيئاته على حسناته. سهل بن عبد الله: السابق: العالم، والمقتصد: المتعلم، والظالم: الجاهل، وعنه أيضا: السابق: الذي اشتغل بمعاده، والمقتصد: الذي اشتغل بمعاده عن معاشه، والظالم: الذي اشتغل بمعاشه عن معاده. وقيل: الظالم: طالب الدنيا، والمقتصد: طالب العقبى، والسابق، طالب المولى. وقيل: الظالم: المسلم، والمقتصد: المؤمن، والسابق: المحسن. وقيل: الظالم: المرائي في جميع أعماله، والمقتصد: من تكون أعماله بعضها رياء وبعضها إخلاصا، والسابق: المخلص في أفعاله كلها، وقيل: الظالم: من أخذ الدنيا حلالا كان أو حراما، والمقتصد: من يجتهد في طلب الحلال، والسابق: الذي ترك الدنيا جملة وأعرض عنها. أبو عثمان الحبري: الظالم: من وجد الله بلسانه ولم يوافق فعله قوله، والمقتصد: من وجده بلسانه وأطاعه بجوارحه، والسابق: من وجده بلسانه وأطاعه بجوارحه وأخلص في عمله، وقيل: السابقون: هم المهاجرون الأولون، والمقتصدون: عامة الصحابة، والظالمون: التابعون. وسمعت محمد بن الحسين السلمي يقول: سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا القاسم البزاز بمصر يقول: قال ابن عطا: الظالم: الذي تحبه من أجل الدّنيا، والمقتصد: الذي تحبه من أجل العقبى، والسابق: الذي أسقط مراده بمراد الحق، فلا يرى لنفسه طلبا ولا مرادا لغلبة سلطان الحق عليه، وقيل: الظالم: من كان ظاهره خيرا من باطنه، والمقتصد: الذي استوى ظاهره وباطنه، والسابق: الذي باطنه خير من ظاهره. وقيل: الظالم: الذي يعبد الله خوفا من النار، والمقتصد: الذي يعبده طمعا في الجنة، والسابق: الذي يعبده لا لسبب، وقيل: الظالم: الزاهد، والمقتصد: العارف، والسابق: المحب، وقيل: الظالم: الذي يجزع عند البلاء، والمقتصد: الذي يصبر عند البلاء، والسابق: الذي يتلذذ بالبلاء، وقيل: الظالم: الذي يعبده على الغفلة والعادة، والمقتصد: الذي يعبده على الرغبة والرهبة، والسابق: الذي يعبده على الهيبة ورؤية المنة، وقيل: الظالم: الذي أعطي فمنع، والمقتصد: الذي أعطي فبذل، والسابق: الذي منع فشكر، وقيل: الظالم: غافل، والمقتصد: طالب، والسابق واجد، وقيل: الظالم: من استغنى بماله، والمقتصد: من استغنى بدينه، والسابق: من استغنى بربه، وقيل: الظالم التالي للقرآن، والمقتصد: القارئ له والعالم به، والسابق: القارئ لكتاب الله العالم بكتاب الله العامل به، وقيل: السابق: الذي يدخل المسجد قبل تأذين المؤذن، والمقتصد: الذي يدخل المسجد وقد أذن، والظالم: الذي يدخل المسجد وقد أقيم، وقيل: الظالم: الذي يحب نفسه، والمقتصد: الذي يحب ربه، والسابق: الذي يحبه ربه، وقيل: الظالم: مريد، والمقتصد: مراد، والسابق: مطلوب، وقيل: الظالم: مدعو، والمقتصد مأذون له، والسابق: مقرب، وقيل: الظالم: عيوف، والمقتصد: ألوف، والسابق: حليف. وسمعت أبا القاسم بن حبيب يقول: الظالم: ينتصف ولا ينصف، والمقتصد: ينصف وينتصف، والسابق ينصف ولا ينتصف. ذو النون المصري: الظالم: الذي لا يذكر الله بلسانه، والمقتصد: الذي يذكره بقلبه، والسابق: الذي لا ينسى ربه. أحمد بن عاصم الأنطاكي: الظالم: صاحب الأقوال، والمقتصد: صاحب الأفعال، والسابق: صاحب الأحوال. ثم جمعهم الله سبحانه وتعالى في دخول الجنة فقال سبحانه وتعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها. أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا أحمد بن محمد بن زرعة قال: حدّثنا يوسف بن عاصم الرازي قال: حدّثنا أبو أيّوب سليمان بن داود المنقري المعروف بالشاذكوي عن حصين ابن نمير أبو محصن عن ابن أبي ليلى عن أخيه عن أبيه عن أسامة بن زيد عن النبي ﷺ‎: فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الآية قال: «كلهم في الجنة» [57] [[تفسير الطبري: 22/ 160 ح 22175.]] . وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا علي بن محمد بن علي بن الحسين الفأفاء القاضي قال: حدّثنا بكر بن محمد المروزي قال: حدّثنا أبو قلابة قال: حدّثنا عمرو بن الحصين عن الفضل بن عميرة عن ميمون الكردي عن أبي عثمان الهندي قال: سمعت عمر بن الخطاب قرأ على المنبر: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا الآية فقال: قال رسول الله ﷺ‎: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج [[في المخطوط: ناجي.]] ، وظالمنا مغفور له» [58] [[كنز العمال: 2/ 10 ح 2925.]] . قال أبو قلابة: فحدثت به يحيى بن معين فجعل يتعجب منه. يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ أخبرني الحسين بن محمد بن الحسين قال: حدّثنا محمد بن الحسن بن بشير قال: حدثنا أبو الحرث أحمد بن سعيد بن أمّ سعيد قال: حدّثنا الربيع بن سليمان المرادي قال: حدّثنا أسيد بن موسى عن ابن ثومان عن عطاء ابن قرة عن عبد الله بن ضمرة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ‎ «لو أن أدنى أهل الجنة حلية عدلت حليته بحلية أهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله سبحانه به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعا» [[المعجم الأوسط: 8/ 362.]] [59] . وَقالُوا أي يقولون إذا دخلوا الجنة الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ أخبرني الحسين بن محمد العدل قال: حدّثنا محمد بن المظفر قال: حدّثنا علي بن إسماعيل بن حماد البغدادي قال: حدّثنا عمرو بن علي الفلاس قال: حدّثنا معاذ بن هشام، قال حدّثني أبي عن عمرو بن مالك عن ابن أبي الجوزاء عن ابن عباس في قول الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال: حزن النار. وأخبرني الحسين بن محمد عن محمد بن علي بن الحسن الصوفي قال: حدثنا أبو شعيب الحراني قال: حدّثنا عبد العزيز بن أبي داود الحراني قال: حدّثنا جرير عن أشعث بن قيس عن شمر بن عطية في قول الله عز وجل: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال حزن الخبز. عكرمة: حزن الذنوب والسيئات وخوف رد الطاعات، وقيل: حزن الموت، وقيل: حزن الجنة والنار لا يدرى إلى أيهما يصير. الثمالي: حزن الدنيا. الضحاك: حزن إبليس ووسوسته. ذو النون: حزن القطيعة. الكلبي: يعني الحزن الذي يحزننا في الدنيا من يوم القيامة، وقيل: حزن العذاب والحساب، وقيل: حزن أهوال الدنيا وأوجالها، وقال القاسم: حزن زوال النعم وتقليب القلب وخوف العاقبة. وسمعت السلمي يقول: سمعت النصرآبادي يقول: ما كان حزنهم إلّا تدبير أحوالهم وسياسة أنفسهم، فلما نجوا منها حمدوا وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ، أخبرني أبو عبد الله الدينوري قال: أخبرني أبو حذيفة أحمد بن محمد بن علي عن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي عن يحيى بن عبد الحميد الحماني عن عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عمر قال: سمعت النبي ﷺ‎ يقول: «ليس على أهل (لا إله إلّا الله) وحشة في قبورهم ولا في محشرهم ولا في منشرهم، وكأني بأهل (لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ) يخرجون من قبورهم وهم ينفضون التراب عن وجوههم ويقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ [60] [[كتاب الدعاء للطبراني: 436، والمعجم الأوسط: 9/ 181.]] . الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ أي الإقامة مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ أي كلال وإعياء وفتور، وقراءة العامة بضم اللام، وقرأ السلمي بنصب اللام وهو مصدر أيضا كالولوع، وقال الفراء: كأنه جعله ما يلغب مثل لغوب. أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجوزقي قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن مهدي قال: أبو عبد الله محمد بن زكريا بن محمدويه [[كذا في الأصل.]] الرجل الصالح عن عبد الله بن عبد الوهاب الخوارزمي قال: حدّثنا عاصم بن عبد الله قال: حدّثني إسماعيل عن ليث بن أبي سليم عن الضحاك بن مزاحم في قول الله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ قال: إذا دخل أهل الجنة استقبلهم الولدان والخدم كأنهم اللؤلؤ المكنون. قال: فيبعث الله ملكا من الملائكة معه هدية من رب العالمين وكسوة من كسوة الجنة فيلبسه. قال: فيريد أن يدخل الجنة فيقول الملك: كما أنت فيقف ومعه عشرة [[في المخطوط: عشر.]] خواتيم من خواتيم الجنة هدية من رب العالمين فيضعها في أصابعه. مكتوب في أول خاتم منها: طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [[سورة الزمر: 73.]] ، وفي الثاني مكتوب: ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ [[سورة ق: 34.]] ، وفي الثالث مكتوب: «رفعت عنكم الأحزان والهموم» ، وفي الرابع مكتوب: «زوجناكم الحور العين» ، وفي الخامس مكتوب: «ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» ، وفي السادس مكتوب: إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا [[سورة المؤمنون: 111.]] ، وفي السابع مكتوب: «أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ» ، وفي الثامن: «صرتم آمنين لا تخافون» ، وفي التاسع مكتوب: «رافقتم النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ» ، وفي العاشر مكتوب: «سكنتم في جوار من لا يؤذي الجيران» . ثم تقول الملائكة: «ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ» . فلما دخلوا بيوتا ترفع قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ.. إلى قوله: لُغُوبٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب