الباحث القرآني

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا وهو ما تقدّم ذكره من نقضهم الميثاق وكفرهم بالآيات وبهتانهم على مريم وقولهم: إنا قتلنا المسيح. ونظم الآية فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا ... وَبِصَدِّهِمْ أي صرفهم أنفسهم وغيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دين الله صدا كبيرا وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ مثل الاكل التي كانوا يصيبونها من عوامهم، وما كانوا يأخذونها في ايمان كتبهم التي كتبوها، وقالوا هذه من عند الله، وما كانوا يأخذون من الرشاء في الحكم، كقوله تعالى وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ [[سورة المائدة: 63.]] عاقبناهم بأن حرّمنا عليهم الطيبات وكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرم عليهم شيئا من الطيبات التي كانت حلالا لهم، يدلّ عليه قوله تعالى وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ [[سورة الأنعام: 146.]] ووَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ [[سورة النحل: 118.]] . نكتة قال لهم: حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ وقال لنا: وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ، وقال: وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً فلم يحرّم علينا شيئا بذنوبنا فكما أمننا من تحريم الطيبات التي ذكر في هذه الآية نرجو أن يؤمننا في الآخرة من العذاب الأليم وقال الله تعالى وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً لأنه جمع بينهما في الذكر. نكتة اطلق في تحريم الطيبات اللفظ في العذاب، لأن التحريم شيء قد مضى له العذاب مستقبل، وقد علم ان منهم من يؤمن فيأمن من العذاب، فقال وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً ثمّ استثنى مؤمني أهل الكتاب فقال: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ يعني ليس أهل الكتاب كلّهم كما ذكرنا لكن الراسخون التائبون المناجون، في العلم وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ. واختلفوا في وجه انتصابه. فقالت عائشة وأبان بن عثمان: هو غلط من الكاتب، ونظيره قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى [[سورة المائدة: 69.]] وقوله تعالى: إِنْ هذانِ لَساحِرانِ [[سورة طه: 63.]] وقال بعض النحويين: هو نصب على المدح والعرب تفعل ذلك في صفة الشيء الواحد إذا تطاولت بمدح أو ذم خالفوا من اعراب أوله وأوسطه، نظيره قوله وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ [[سورة البقرة: 177.]] وقيل: نصب على فعل، تقديره: اعني المقيمين، على معنى: أذكر النازلين وهم الطيبون. وقال قوم: موضعه خفض، واختلفوا في وصفه، قال بعضهم: معناه: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ ومن الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، وقيل معناه: يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وإلى الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ، وقال بعضهم: يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من الكتاب وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ. ثم اختلفوا فيهم من هم؟ فقيل: هم الملائكة، وقيل: هم الأنبياء، وقيل: هم المؤمنون، وقيل: مؤمنوا أهل الكتاب وهم الراسخون. قوله تعالى إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية، نزلت في اليهود وذلك لما أنزل الله تعالى قوله يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ [[سورة النساء: 153.]] إلى قوله تعالى: وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً [[سورة النساء: 165.]] . لفضحهم وذكر عيوبهم وذنوبهم غضبوا وقالوا: ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ وأنزل إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ جعله الله تعالى ثاني المصطفى ﷺ‎ في موضعين من كتابه في أهل الميثاق بقوله تعالى: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ [[سورة الأحزاب: 7.]] والثاني في الوحي، فقال: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ فإن قيل: ما الحكمة في تقديم نوح على سائر الأنبياء وفيهم من هو أفضل منه؟ يقال: لأنه كان أبو البشر قال الله تعالى وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ وقيل: لأنه أول نبي من أنبياء الشريعة وأول داع ونذير عن الشرك. وقيل: لأنه أول من عذب أمّته لردّهم دعوته وأهلك كل الأرض بدعائه عليهم لأنه كان أطول الأنبياء عمرا. وقيل: إنه كبير الأنبياء، وجعل معجزته في نفسه لأنه عمّر ألف سنة ولم ينقص له سن ولم تنقص له قوة ولم يشب له شعر. وقيل لأنه لم يبالغ أحد من الأنبياء في الدين ما بالغ نوح ولم يصبر على أذى قوم ما صبر نوح وكان يدعو قومه ليلا ونهارا إعلانا وإسرارا وكان يشتم ويضرب حتى يغمى عليه فإذا فاق دعا وبالغ وكان الرجل منهم يأخذ بيد ابنه فيقول له: يا بني احذر هذا فإنه ساحر كذاب. قال الله تعالى وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى [[سورة النجم: 52.]] وقال من عتق عنه [......] [[كلمة غير مقروءة.]] يوم القيامة بعد محمد ﷺ‎، وقيل لأن مقامه الشكر قال الله تعالى إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً [[سورة الإسراء: 3.]] فكما [......] [[كلمة غير مقروءة.]] القرآن فكذلك نوح (عليه السلام) صدر [......] [[كلمة غير مقروءة.]] وقال أول من يدعى إلى الجنة الحمّادون لله على كل حال. وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وهم أولاد يعقوب وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً قرأ يحيى بن وثاب، والأعمش وحمزة زُبُوراً بضم الزاي بمعنى جمع زبر وزبور كأنه قال: قد كتبنا صحفا من بعده أي مكتوبة، والباقون بفتح الزاي على أنه كتاب داود المسمى زبورا، وكان داود يبرز إلى البرّية فيدعو بالزبور وكان يقوم معه علماء بني إسرائيل فيقومون خلفه. ويقوم الناس خلف العلماء ويقوم الجن خلف الناس، الأعظم فالأعظم في [فلاة] عظيمة ويقوم [الناس] لهذا الجن الأعظم فالأعظم وتجيء الدواب التي في الجبال، إذا سمعن صوت داود فيقمن بين يديه تعجبّا لما سمعن منه، وتجيء الطير حتى يظللن داود وسليمان والجن والإنس في كثرة لا يحصيهم إلّا الله عز وجل يرفرفن على رؤسهم ثم تجيء السباع حتى تخالط الدواب والوحش لما سمعن حتى من لم ير ذلك، فقيل له: ذاك انس الطاعة، وهذه وحشة المعصية. وروى طلحة بن يحيى عن أبي بردة أبي موسى عن أبيه قال: قال لي رسول الله ﷺ‎: «لو رأيتني البارحة وأنا أستمع لقرآنك، لقد أعطيت مزمارا من مزامير آل داود» [[صحيح البخاري: 6/ 112، باب حسن الصوت بالقراءة، وصحيح مسلم 2/ 193.]] [395] قلت: أما والله يا رسول الله لو علمت إنّك تسمع قراءتي لحسّنت صوتي وزدته [تحبيرا] . وكان عمر (رضي الله عنه) إذا رآه قال: ذكّرنا يا أبا موسى فيقرأ عنده. وعن أبي عثمان [النهدي] وكان قد أدرك الجاهلية، قال: ما سمعت [طنبورا ولا صنجا] ولا مزمارا أحسن من صوت أبي موسى وإن كان ليؤمّنا في صلاة الغداة لنودّ أنه يقرأ سورة البقرة من حسن صوته [[التغنّي بالقرآن: 26، وسير أعلام النبلاء: 3/ 392.]] [[كلمة غير مقروءة.]] حيث نزع حرف الصفة فالمعنى: كما أوحينا إلى نوح وإلى رسل. وقيل معناه وقصصنا عليك رسلا نصب بعائد الذكر، وفي قراءة وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ بمكة في سورة الأنعام لأن هذه السورة مدنية أنزلت من بعد الأنعام وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ سمّى الله تعالى النبيين بهذين الاسمين، فقال: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ [[سورة البقرة: 213.]] ثم سمّى المرسلين خاصة بهذا الإسم، فقال (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) ثم سمّى نبينا خاصة بهذين الاسمين، فقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [[سورة الفتح: 908.]] لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فيقول: ما أرسلت إلينا رسولا فنتبع وما أنزلت علينا كتابا. وقال في آية أخرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [[سورة الإسراء: 15.]] . قال رسول الله ﷺ‎: «ما أحد أغير من الله تعالى» [[مجمع الزوائد: 8/ 118.]] [396] . ولذلك حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ [[سورة الأنعام: 151.]] وما [أحسن] إليه المدح من الله تعالى ولذلك مدح نفسه جل جلاله وما أحد أحبّ إليه العذر من الله تعالى لذلك أرسل الرسل، وأنزل الكتب لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ الآية. اعلم أن الله تعالى شهد على سبعة أشياء على التوحيد، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ [[سورة آل عمران: 18.]] والثاني على العدل وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ [[سورة الفتح: 28. 29.]] وقال تعالى قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً [[سورة العنكبوت: 52.]] وقال: قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [[سورة الأنعام: 19.]] وقال: فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ [[سورة آل عمران: 81.]] والثالث على اعمال العباد فقال: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا [[سورة المجادلة: 6.]] الآية وقال: إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً [[سورة يونس: 61.]] أي تفيضون فيه وقال: وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ [[سورة آل عمران: 98.]] ، والرابع على جميع الأشياء فقال أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [[سورة فصّلت: 53.]] والخامس على كذب المنافقين قال تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ [[سورة المنافقون: 1.]] ، والسادس على شريعة المصطفى فقال عز من قائل قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ [[سورة الأنعام: 19.]] أي شهيد على القرآن لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ الآية. وقال ابن عباس: إن رؤساء مكة أتوا رسول الله ﷺ‎ فقالوا: يا محمد أخبرنا أولا عن صفتك ونعتك في كتابهم فزعموا إنهم لا يعرفونك، ودخل على رسول الله ﷺ‎ جماعة من اليهود فقال لهم: «إني والله أعلم أنكم تعرفون أني رسول الله» [397] . فقالوا: نعلم، فأنزل الله تعالى إن كذبوك وجحدوك لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب