الباحث القرآني

وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالتحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً. روى الصادق عن علي (عليهما السلام) قال: قدم علينا امرؤ عند ما دفنّا رسول الله ﷺ‎ ثلاثة أيام فرمى بنفسه على قبر النبي عليه الصلاة والسلام وحثا على رأسه من ترابه وقال: يا رسول الله قلت فسمعنا قولك ووعيت من الله فوعينا عنك وكان فيما أنزل الله عليك وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً فقد ظلمت نفسي فجئتك لتسغفر لي فنودي من القبر أنه قد غفر لك [[كنز العمال: 2/ 386، ح 4322، وتفسير القرطبي: 5/ 265.]] . فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ الآية. نزلت في الزبير بن العوام وخصمه، واختلف في اسمه، فقال الصالحي: ثعلبة بن الحاطب، وقال الآخرون: حاطب بن أبي بلتعة وذلك أنهما اختصما إلى رسول الله ﷺ‎ في شراج من الخزة كانا يستقيان به النخل فقال ﷺ‎: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك، فغضب الرجل، فقال: يا رسول الله أكان ابن عمتك؟ فتغيّر وجه رسول الله ﷺ‎ أرسل يا زبير ثم احبس الماء حتى ترجع الجدد فاستوف حقك ثم أرسل إلى جارك. وكان رسول الله ﷺ‎ أشار إلى الزبير بالسقي له ولخصمه فلما احفظ رسول الله ﷺ‎ استوعب الزبير حقه في صريح الحكم. ثم خرجا فمرّا على المقداد، فقال: لمن كان القضاء بالسقاية؟ فقال: قضى لابن عمته، ولوى شدقه. ففطن به يهودي كان مع المقداد، فقال: قاتل الله فلولا يشهدون أنه رسول الله ثم يتهمونه كانوا أقضى منهم، وأيم الله لقد أذنبنا ذنبا مرة واحدة في حياة موسى (عليه السلام) فدعانا موسى إلى التوبة منه، وقال: فاقتلوا أنفسكم ففعلنا مع ذلك فقتلنا سبعين ألفا في طاعة ربنا حتى رضي عنا. فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما والله إن الله ليعلم مني الصدق لو أمرني محمد أن أقتل نفسي لفعلت، فأنزل الله تعالى في شأن حاطب ابن أبي بلتعة، وليّه شدقه فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ الآية. وقال مجاهد والشعبي: نزلت في قصة بشر المنافق واليهودي اللذين اختصما إلى عمر (رضي الله عنه) وقد مضت القصة. قوله فَلا يعني ليس الأمر كما يزعمون انهم مؤمنون ثم لا يرضون بحكمك ويصدون عنك ثم استأنف القسم فقال وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ ويجوز أن يكون لأصله كقولهم وهم ممن يُحَكِّمُوكَ أي يجعلوك حكما فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي اختلف واختلط من أمورهم والتبس عليهم حكمه، ومنه الشجر لاختلاف أعضائه وقل يعطي الهودج شجار لتداخل بعضها في بعض. قال الشاعر: نفسي فداؤك والرماح شواهر ... والقوم في ضنك للقاء قيام [[راجع تفسير القرطبي: 5/ 269.]] ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً أي ضيقا وشكا مِمَّا قَضَيْتَ ومنه قيل للشجر الملتف الذي لا يكاد يوصل إليه حرج وحرجة وجمعها حراج. وقال الضحاك: أي إثما يأتون بإنكارهم لما قضيت [[راجع تفسير القرطبي: 5/ 269.]] وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً أي يخضعوا وينقادوا إليك انقيادا وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا فرضنا وأوجبنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ما أمرنا بني إسرائيل. أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ كما أمرناهم بالخروج من مصر ما فَعَلُوهُ أرجع الهاء إلى فعل القتل والخروج لأن الفعل وإن اختلفت أجناسه فمعناه واحد إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وهذه الآية نزلت في قول ثابت بن قيس وكان هو من القليل الذي استثنى الله عز وجل ورفع القليل على ضمير الفاعل بأنهم فعلوه وقلّ على التكرار تقديره: ما فعلوه، تم الكلام. ثم قال: إلّا أنه فعله قليل منهم. كقول عمر بن معدي كرب: فكلّ أخ مفارقه أخوه ... لعمر أبيك إلّا الفرقدان [[المغني: 4/ 300.]] وقرأ أبي بن كعب وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق وابن عامر (قليلا) بالنصب، وكذا هو في مصاحف أهل الشام على [النصب] وقيل: فيه إضمار تقديره إلّا أن يكون قليلا منهم. قال الحسن ومقاتل: لما نزلت هذه الآية قال عمر وعمار وابن مسعود وناس صحبوا رسول الله ﷺ‎ وهم القليل: والله لو أمرنا لفعلنا، فالحمد لله الذي عافانا، فبلغ ذلك النبي ﷺ‎ فقال: «إن من أمتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي» [[كنز العمّال: 12/ 182، ح 34573.]] [367] . قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً تحقيقا وتصديقا لإيمانهم. وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً ثوابا. وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ نزلت هذه الآية في ثوبان مولى رسول الله ﷺ‎ وكان شديد الحب لرسول الله ﷺ‎، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم، وقد تغير لونه [ونحل جسمه يعرف في وجهه الحزن] [[زيادة عن أسباب النزول للواحدي: 110.]] وقلّ لحمه، فقال له رسول الله ﷺ‎: «يا ثوبان ما غيّر لونك؟» [[زاد المسير: 2/ 150 وتفسير القرطبي: 5/ 271.]] [368] ؟ فقال: يا رسول الله ما بي مرض، ولا وجع، غير أني إذا لم أرك اشتقت إليك، وتوجّست وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة وأخاف أن لا أراك هناك، لأني عرفت أنك ترفع مع النبيين وأني وإن ادخلت الجنة، كنت في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة فذلك حين لا أراك أبدا. فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال النبي ﷺ‎: «والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه وأبويه وأهله وولده والناس أجمعين» [[صحيح البخاري: 1/ 9، وسنن ابن ماجة: 1/ 26، والسنن الكبرى: 6/ 534، بتفاوت، ويوجد بتمامه في تفسير مجمع البيان: 3/ 126.]] [369] . وقال قتادة ومسروق بن الأجدع: أنّ أصحاب محمد ﷺ‎ قالوا: ما ينبغي لنا أن نفارقك فإنا لا نراك إلّا في الدنيا فأما في الآخرة فإنك ترفع فوقنا بفضلك فلا نراك، فأنزل الله تعالى وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ في الفرائض وَالرَّسُولَ في السنن فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وهم أفاضل أصحاب محمد ﷺ‎ وَالشُّهَداءِ وهم الذين استشهدوا في سبيل الله وَالصَّالِحِينَ من صلحاء أمة محمد ﷺ‎. قال عكرمة: النبيون: محمّد، والصديقون: أبو بكر الصديق، والشهداء عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، والصالحون سائر أصحابه. وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً يعني دوما في الجنة كما يقول: نعم الرفقا هم. والعرب تضع الولي في معنى الجمع كثيرا، كقوله: نحن منكم قبلا أي اطيادا، وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي الأدبار ويقولون يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ. وقوله رَفِيقاً نصب على خبر ذلِكَ الْفَضْلُ [احسان] مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً يعني بالآخرة وثوابها. وقيل: بمن أطاع رسول الله وأحبه، وفي هذه الآية دلالة على خلافة أبي بكر الصديق (رضي الله عنه) وذلك أن الله تعالى لما ذكر مراتب أوليائه في كتابه بدأ بالأعلى منهم، وهم النبيون فجعل الروضة الأعلى للنبيين فلم يجز أن يتقدمهم فيها أحد وثنى بذكر الصديقين فلا يجوز ان يتقدمهم أحد غير النبيين ولأن يكون من النبي صديق سرهم، وقد أجمع المسلمون على تسمية أبي بكر صديقا كما أجمعوا على تسمية محمد رسول الله ولم يجز أن يكونوا غالطين في تسميتهم محمد الرسول كذلك لا يجوز أن يكونون غالطين في تسمية أبي بكر صديقا فإذا صح انه صديق وأنه ثاني رسول الله ﷺ‎ فلم يجز أن يتقدّمه بعده أحد والله أعلم، وفي قوله الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ دليل على أنّهم لم ينالوا تلك الدرجة بطاعتهم بل نالوها بفضل الله خلافا، لما قالت المعتزلة ان العبد إنما ينال ذلك بفعله فلما احسن الله على عباده بما آتاهم من فضله فكان لا يجوز أن يثني على نفسه بما لم يفعله، فثبت ذلك على بطلان قولهم ثم علّمهم مباشرة الحروب، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ من عدوكم أي عدتكم وآلاتكم من السلاح وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ والحذر والحذر واحد، كالمثل والمثل، والعدل والعدل، والشبه والشبه، فَانْفِرُوا أي اخرجوا ثُباتٍ أي سرايا متفرقين كسرية بعد سرية وجماعة بعد جماعة، والثبات الجماعات في تفرقه واحدها ثبة أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً أي مجتمعين كلّكم مع سلّم واستدل أهل القدر بهذه الآية. بقوله خُذُوا حِذْرَكُمْ قالوا: لولا أن الحذر يمنع عنهم مكايد الأعداء ما كان لأمره بالحذر إياهم معنى. فيقال لهم: الائتمار لأمر الله والانتهاء عن نهيه واجب عليهم لأنهم به يسلمون من معصية الله عز وجل لأن المعصية تزل، فائتمروا وانتهوا عمّا نهوا عنه. وليس في هذه الآية دليل على أن حذرهم ينفع من القدر شيئا، وهذا كقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : «اعقلها وتوكّل» [[سنن الترمذي: ح 2522 كتاب صفة القيامة باب: اعقلها وتوكّل.]] [370] . والمراد به طمأنينة النفس لا أن ذلك يدفع القدر، كذلك في أخذ الحذر فهو الدليل على ذلك، أن الله تعالى أثنى على أصحاب رسول الله ﷺ‎ بقوله حاكيا عنهم لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا وأمر بذلك رسوله ﷺ‎ كان يصيبهم غير ما قضى عليهم ما كان هذا مني. وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ. قال بعضهم: نزلت هذه الآية في المؤمنين لأن الله خاطبهم بقوله وَإِنَّ مِنْكُمْ وقد فرق الله بين المؤمنين والمنافقين بقوله ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ. وقال: أكثر أهل التفسير: إنّها نزلت في المنافقين وإنما جمع منهم في الخطاب من جهة الجنس والسبب ومن جهة الإيمان من لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ أي ليثاقلن ويتخلفنّ عن الجهاد والغزو. وقيل: معناه ليصدّقن غيره، وهو عبد الله بن أبيّ المنافق وإنما دخلت (اللام) في (من) لمكان (من) كما تقول: إنّ فيها لأخاك فاللام في ليبطئن لام القسم وهي صلة لمن على اعتماد شبه باليمين كما يقال هذا الذي ليقومن وأرى رجلا ليفعلن. فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ أي قتل وهزيمة قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ عهد إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً أي حاضرا في تلك الغزاة فيصيبني مثل ما أصابهم، يقول الله كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ أي معرفة. وقال معقل بن حيان: معناه كأن ليس من أهل دينكم وان نظم الآية وقوله كَأَنْ لَمْ تَكُنْ متصل بقوله فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ أي فتح وغنيمة لَيَقُولَنَّ هذا المنافق قول نادم حاسد: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ في تلك الغزاة فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً أي آخذ نصيبا وافرا من الغنيمة. وقوله (فَأَفُوزَ) نصب على نحو التمني بالفاء، وفي [التمني] [[كذا الظاهر من المخطوط.]] معنى يسرني أن افعل ما فعل كأنه متشوق لذلك النصيب، كما يقول: وددت ان أقوم فمنعني أناس ثم نزلت في المنافقين الذين تخلفوا عن أحد.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب