الباحث القرآني

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ الآية، أمر الله تعالى بالوضوء عند القيام إلى الصلاة. واختلف العلماء في حكم الآية، فقال قوم: هذا من العام الذي أريد به الخاص. والمجمل الذي وكل بيانه إلى رسول الله ﷺ‎ ومعنى الآية: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ وأنتم على غير طهر، يدلّ عليه ما روي عن عكرمة إنه سأل عن هذه الآية قال: أو كلّ ساعة أتوضأ؟ فقال: إن ابن عباس قال: لا وضوء إلّا من حدث. وقال الفضل بن المبشر: رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات الخمس بوضوء واحد. فإن بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل مائه الخفين. فقيل: أي شيء تصنعه برأيك؟ فقال: بل رأيت رسول الله ﷺ‎ يصنعه وأنا أصنع كما رأيت رسول الله ﷺ‎ يصنع. وروى محارب بن دثار عن ابن عمر أن رسول الله صلى الظهر والعصر والمغرب والعشاء بوضوء واحد. وقال المسوّر بن مخرمة لابن عباس: هل لك في عبيد بن عمير إذا سمع النداء خرج من المسجد. فقال ابن عباس: هكذا يصنع الشيطان، فدعاه فقال: ما يحملك على ما تصنع إذا سمعت النداء خرجت وتوضأت، قال إن الله عز وجل يقول: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ ... الآية. قال: ليس هذا إذا توضأت فإنك على طهر حتّى تحدث، ثم قال: هكذا يصنع الشيطان إذا سمع النداء ولّى وله ضراط. وروى الأعمش عن عمارة قال: كان للأسود قعب قد ري رجل وكان يتوضأ به ثم يصلي بوضوئه ذلك الصلوات كلها. وقال زيد بن أسلم والسّدي: معنى الآية إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ من النوم، وقال بعضهم: أراد بذلك كل قيام العبد إلى صلاته أن يجدّد لها طهرا على طريق الندب والاستحباب، قال عكرمة: كان علي يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ. عن أبي عفيف [[في المصدر: غطيف.]] الهذلي إنه رأى ابن عمر يتوضأ للظهر ثم العصر ثم المغرب، فقلت: يا أبا عبد الرحمن أسنّة هذا الوضوء؟ قال: إنه كان كافيا وضوئي للصلاة كلها ما لم أحدث ولكني سمعت رسول الله ﷺ‎ يقول: «من توضأ على طهر كتب الله له عشر حسنات» [[سنن أبي داود: 1/ 23.]] ففي ذلك رغبت يا ابن أخي. وقال بعضهم: بل كان هذا أمرا من الله عز وجل لنبيه وللمؤمنين حتما وامتحانا أن يتوضأ لكل صلاة، ثم نسخ للتخفيف. وقال محمد بن يحيى بن جبل الأنصاري قلت: لعبيد الله بن عمر: أخبرني عن وضوء عبد الله لكل صلاة طاهرا كان أو غير طاهر عمّن هو؟ قال: حدّثتنيه أسماء بنت زيد الخطاب أن عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الغسيلي حدثها أن النبي ﷺ‎ أمر بالوضوء عند كل صلاة، فشق ذلك عليه فأمر بالسواك ورفع عنه الوضوء إلّا من حدث، وكان عبد الله يرى أن به قوّة عليه فكان يتوضأ. وروى سليمان بن بريد عن أبيه أن رسول الله ﷺ‎ كان يتوضأ لكل صلاة، فلما كان يوم فتح مكّة صلى الصلوات الخمس كلها بوضوء واحد، فقال عمر (رضي الله عنه) : إنك تفعل شيئا لم تكن تفعله! قال: «عمدا فعلته يا عمر» [[السنن الكبرى: 1/ 118، وسنن النسائي: 1/ 85.]] [24] . وقال بعضهم: هذا إعلام من الله تعالى لرسوله ﷺ‎ أن لا وضوء عليه إلّا إذا قام إلى صلاته دون غيرها من الأعمال. وذلك إنه إذا كان أحدث امتنع من الأعمال كلها حتّى يتوضأ فأذن الله عز وجل بهذه الآية أن يفعل كل ما بدا له من الأفعال بعد الحدث غير الصلاة. وروى عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم عن عبد الله بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال: كان رسول الله ﷺ‎ إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يرد علينا حتى يأتي منزله فيتوضأ لوضوء الصلاة حتّى نزلت آية الرخصة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ. وحدّ الوجه من منابت شعر الرأس إلى طرف الذقن طولا، وما بين الأذنين عرضا، فأما ما استرسل من اللحية عن الذقن فللشافعي هنا قولان: أحدهما: أنه لا يجب على المتوضئ غسله، وهو مذهب أبي حنيفة واختيار المزني، واحتجّوا بأن الشعر النازل من الرأس لا يحكم بحكم الرأس. وكذلك من الوجه. والثاني: أنه يجب غسله، ودليل هذا القول من ظاهر هذه الآية، لأن الوجه ما يواجه به، فكلّ ما تقع به المواجهة من هذا العضو يلزمه غسله بحكم الظاهر. ومن الحديث قول النبي ﷺ‎ حيث نهى عن تغطية اللحية في الصلاة إنها من الوجه، ومن اللغة قول العرب بدل وجه فلان وخرج وجهه إذا نبتت لحيته. وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ غسل اليدين من المرفقين واجب بالإجماع واختلفوا في المرفقين. فقال الشعبي ومالك والفراء ومحمد بن الحسن ومحمد بن جرير: لا يجب غسل المرفقين في الوضوء، وإِلى - هاهنا- بمعنى الحدّ والغاية، ثم استدلوا بقوله تعالى ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [[سورة البقرة: 187.]] والليل غير داخل في الصوم، وقال سائر الفقهاء: يجب غسلهما و (إِلى) بمعنى مع واحتجوا بقوله تعالى وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ [[سورة النساء: 2.]] وقوله فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [[سورة التوبة: 125.]] وقوله مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ [[سورة آل عمران: 52.]] . وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ اختلف الفقهاء في القدر الواجب من مسح الرأس. فقال مالك والمزني: مسح جميع الرأس في الوضوء واجب. وجعلوا الباء بمعنى التعميم، كقوله عز وجل فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [[سورة المائدة: 6.]] وقوله وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ» . وقال أبو حنيفة: مسح ربع الرأس واجب. أبو يوسف: نصف الرأس، الشافعي: يجوز الاقتصار على أقل من ربع الرأس، فإذا مسح مقدار ما يسمى مسحا أجزأه، واحتج بقوله وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ، وله في هذه الآية دليلان، أحدهما: مسح بعض رأسه وإن قلّ فقد حصل من طرفي [اللسان] ماسحا رأسه. فصار مؤديا فرض الأمر. والثاني: إنه قال في العضوين اللذين أمر بتعميمها بالطهارة فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ فأطلق الأمر في غسلهما وقال في الرأس وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ فأدخل الباء للتبعيض لأنّ الفعل إذا تعدى إلى المفعول من غير حرف الباء كان دخول الباء للتبعيض، كقول القائل: مسحت يدي بالمنديل وإن كان مسح ببعضه. قال عنترة: شربت بماء الدحرضين فأصبحت ... زوراء تنفر عن حياض الديلم [[لسان العرب: 2/ 95.]] ويدل عليه من السنة ما روى عمرو بن وهب النقعي عن المغيرة بن شعبة أن النبي ﷺ‎ توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخفّيه، فاقتصر في المسح على الناصية دون سائر الرأس. وَأَرْجُلَكُمْ اختلف القرّاء فيه، فقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام ومجاهد، وإبراهيم التميمي وأبو وائل، والأعمش، والضحّاك وعبد الله بن عامر، وعامر ونافع، والكسائي وحفص وسلام ويعقوب: (وَأَرْجُلَكُمْ) بالنصب وهي قراءة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) . وروى عاصم بن كليب عن أبي عبد الرحمن السّلمي، قال: قرأ عليّ الحسن والحسين فقرءا: وَأَرْجُلِكُمْ بالخفض، فسمع عليّ ذلك وكان يقضي بين الناس، فقال: وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب، وقال: هذا من المقدم والمؤخر من الكلام. وقراءة عبد الله وأصحابه. قال الأعمش: كان أصحاب عبد الله يقرؤن: وَأَرْجُلَكُمْ نصبا فيغسلون. وقراءة ابن عباس، روى عكرمة عنه أنه قرأها: وَأَرْجُلَكُمْ بالنصب وقال: عاد الأمر إلى الغسل وهو اختيار أبي عبيد، وقرأ الباقون بالكسر، وهي قراءة أنس والحسن وعلقمة والشعبي، واختيار أبي حاتم، فمن نصب فمعناه واغسلوا أرجلكم، ومن خفض فله وجوه ثلاث: أحدها أن المسح يعني الغسل والباء بمعنى التعميم، يقول تمسّحت للصلاة أي توضأت، وذلك أن المتوضئ لا يرضى أن يصيب وجهه وذراعيه وقدميه حتّى يمسحها فيغسلها فلذلك سمي الغسل بها، وهذا قول أبي زيد الأنصاري وأبي حاتم السجستاني. وقال أبو عبيدة والأخفش وغيرهما: إن الأرجل معطوفة على الرءوس على الإتباع بالجواز لفظا لا معنى. كقول العرب (جحر ضب خرب) قال تعالى رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها [[سورة النساء: 75.]] . قال الشاعر: ورأيت زوجك في الوغى ... متقلدا سيفا ورمحا [[تفسير الطبري: 1/ 92.]] . والرمح لا يتقلد إنّما يحمل. وقال لبيد: وأطفلت بالجلهتين ... ظباؤها ونعامها [[تاج العروس: 9/ 384.]] والنعام لا تطفل وإنما تفرخ. وقال بعضهم: أراد به المسح على الأرجل لقرب الجوار. كقوله: غمر الردا أي واسع الصدر. ويقال: قبّل رأس الأمير ويده ورجله، وإن كان في العمامة رأسها وفي الكم يده وفي الخف رجله. وفي الحديث أن النبي ﷺ‎ كان إذا ركع وضع يده على ركبتيه. وليس المراد إنه لم يكن بينهما حائل. قال الله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ [[سورة المدّثّر: 4.]] قال كثير من المفسرين: أراد به قلبك فطهر. قال همام بن الحرث: بال جرير بن عبد الله فتوضأ ومسح على خفيه فقيل له في ذلك، فقال: رأيت رسول الله ﷺ‎ يفعله. قال الأعمش: كان إبراهيم يعجبه هذا الحديث، وهو أن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة. وأجرى قوم من العلماء الآية على ظاهرها، وأجازوا المسح على القدمين، وهو قول ابن عباس قال: الوضوء مسحتان وغسلتان. وقول أنس: روى ابن عليّة عن حميد عن موسى بن أنس إنه قال لأنس ونحن عنده: إن الحجاج خطبنا بالأهواز فذكر الطهر فقال: اغسلوا وجوهكم وأيديكم وامسحوا برؤسكم، فإنه ليس شيء من ابن آدم أقرب إلى خبثه من قدميه فاغسلوا بطونهما وظهورهما وكعبهما وعراقيبهما. فقال: صدق الله وكذب الحجاج، قال الله تعالى وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ وكان أنس إذا مسح قدميه بلّهما. وروى حماد عن عاصم الأحول عن أنس قال: نزل القرآن بالمسح، والسّنة بالغسل. وقول الحسن والشعبي، قال الشعبي: نزل جبرئيل بالمسح، ثم قال: ألا ترى المتيمم يمسح ما كان غسلا ويلغي ما كان مسحا. وقول عكرمة قال يونس: حدّثني من صحب عكرمة إلى واسط قال: فما رأيته غسل رجليه إنما كان يمسح عليهما حتى خرج منها. وقول قتادة قال: افترض الله غسلين ومسحين، ومذهب داود بن علي الأصفهاني ومحمد ابن جرير الطبري وأبي يعلى وذهب بعضهم إلى إن المتوضئ يتخير بين غسلهما ومسحهما، والدليل على وجوب غسل الرجلين في الوضوء قول الله عز وجل: إِلَى الْكَعْبَيْنِ فتحديده بالكعبين دليل على الغسل كاليدين لما حدّهما إلى المرفقين كان فرضهما الغسل دون المسح. ويدل عليه من السّنة ما روي عن عثمان وعلي وأبي هريرة وعبد الله بن زيد إنهم حكوا وضوء رسول الله ﷺ‎ فغسلوا أرجلهم. وروى خلاد بن السائب عن أبيه عن رسول الله ﷺ‎ أنه قال: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتّى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ويديه ويمسح برأسه ويغسل أرجله» [[أحكام القرآن: 2/ 423.]] [25] . وروى عبد الرحمن بن أبي ليلى عن عطاء عن جابر أنه قال: أمرنا رسول الله ﷺ‎ أن نغسل أرجلنا إذا توضأنا. وقال ابن أبي ليلى: أجمع أصحاب رسول الله ﷺ‎ على وجوب غسل الرجلين. أبو يحيى عن عبد الله بن عمرو قال: مرّ النبي ﷺ‎ على قوم عراقيبهم تلوح فقال: «أسبغوا الوضوء ويل للعراقيب من النار» [[مسند أبي داود الطيالسي: 302 وجامع البيان: 6/ 182.]] [26] . وقال حميد الطويل: رأى رسول الله ﷺ‎ أعمى يتوضأ فقال: «اغسل باطن قدميك» [[المصنّف: 1/ 32.]] فجعل يغسل حتّى سمّي أبا غسيل» [27] . روى أبو قلابة أن عمر (رضي الله عنه) رأى رجلا يتوضأ فترك باطن قدميه فأمره أن يعيد الوضوء والصلاة. وقالت عائشة رضي الله عنها: لإن تقطعا أحبّ إليّ من أن أمسح على القدمين بغير خفين إلى الكعبين. وهما النابتان من جانبي الرجل ومجمع مفصل الساق والقدم. وسمّتهما العرب المنجمين، وعليهما الغسل كالمرفقين، هذا مذهب الفقهاء وخالفهم محمد بن الحسن في الكعب فقال: هو الناتئ من ظهر القدم الذي يجري عليه الشراك. قال: وسمي ذلك لارتفاعه ومنه الكعبة. ودليلنا قوله تعالى وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ فجمع الأرجل وثنّى الكعبين فلو كان لكل رجل كعب واحد لجمعهما في الذكر كالمرافق لما كان في كل يد مرفق واحد، بجمع المرافق فلما جمع الأرجل وثنّى الكعبين ثبت أن لكل رجل كعبين ويدل عليه قوله ﷺ‎ للمحرم: «فليلبس النعلين فإن لم يجد النعلين فليلبس [خفّين] وليقطعهما أسفل من الكعبين» [[مسند أحمد: 2/ 3.]] [28] . فدلّ على أن الكعبين ما قلنا، إذ لو كان الكعب هو الناتئ من ظهر القدم لكان إذا قطع الخف من أسفله لم يكن استعماله ولا المشي فيه، والنبي ﷺ‎ لا يأمر بإضاعة المال وإتلافه. ويدل عليه ما روي أيضا عنه ﷺ‎ إنه مرّ في سوق مكّة يقول: «قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا» [[مسند أحمد: 5/ 371.]] [29] . وأبو لهب يرميه من ورائه بالحجارة حتّى أدمى كعبيه [[المصنّف لابن أبي شيبة: 8/ 442 بتفاوت.]] . فلو كان ما ذهب إليه محمد بن الحسن، ما قيل: حتى أدمي، إذ رميت من ورائه. ويدل عليه ما روي أن رسول الله ﷺ‎ قال: «أقيموا صفوفكم أو ليخالفنّ الله بين قلوبكم» [[كنز العمال: 7/ 630 وفيه: وجوهكم يوم القيامة، بدل: قلوبكم.]] ، حتّى كان الرجل منّا يلزق كعبه بكعب صاحبه ومنكبه بمنكبه، فيدل عليه قوله ﷺ‎: «ويل للأعقاب والعراقيب من النار» [[مسند أبي داود الطيالسي: 302 بتفاوت.]] [30] أصل الأعقاب والعراقيب إنما يحصل لمن غسل المنجمين. وروى أبو إدريس عن أبي ذر عن عليّ كرم الله وجهه قال: بينا رسول الله ﷺ‎ في ملإ من المهاجرين إذ أقبل إليه عشرة من أحبار اليهود فقالوا: يا محمد إنا أتيناك لنسألك عن أشياء لا يعلمها إلّا من كان نبيّا مرسلا وملكا مقرّبا. فقال ﷺ‎: «سلوني تفقها ولا تسألوني تعنّتا» فقالوا: يا محمد أخبرنا لم أمر الله بغسل هذه الأربعة المواضع وهي أنظف المساجد؟ فقال النبي ﷺ‎: «إنّ آدم لمّا نظر إلى الشجرة قصد إليها بوجهه ثم مشى إليها وهي أوّل قدم مشت إلى المعصية ثمّ تناول بيده وشمّها فأكل منها فسقطت عنه الحلي والحلل فوضع يده الخاطئة على رأسه فأمر الله عز وجل بغسل الوجه لما أنه نظر إلى الشجرة وقصدها وأمر بغسل الساعدين وغسل يده وأمر بمسح رأسه، إبتلته الشجرة ووضع يده على رأسه وأمر بغسل القدمين لما مشى إلى الخطيئة فلمّا فعل آدم ذلك كفّر الله عنه الخطيئة فافترضهنّ الله على أمتي ليكفّر ذنوبهم من الوضوء إلى الوضوء» [31] . قالوا: صدقت، فأسلموا. فاختلف الفقهاء في حكم الروايات المذكورة في الآية. فجعلوها بمعنى الترتيب والتعقيب وأوجبوا الترتيب في الوضوء وهو أن يأتي بأفعال الوضوء تباعا واحدا بعد واحد. فيغسل وجهه ثم يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه، وهو اختيار الشافعي، فاحتج بقوله إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [[سورة البقرة: 158.]] . قال جابر بن عبد الله: خرجنا مع رسول الله ﷺ‎ في الحج- وذكر الحديث إلى أن قال-: فخرج رسول الله ﷺ‎ إلى الصفا وقال: «ابدأوا بما بدأ الله به» فدلّ هذا على شيئين: أحدهما: أن الواو يوجب الترتيب، والثاني أن البداية باللفظ توجب البداية بالفعل إلّا أن يقوم الدليل [[مسند أحمد: 3/ 394.]] . واحتج أيضا بقوله ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [[سورة الحج: 77.]] فالركوع قبل السجود، واحتج أيضا بقوله ﷺ‎: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتّى يضع الوضوء مواضعه فيغسل وجهه ثم يغسل يديه ثم يمسح رأسه ثم يغسل رجليه» [[أحكام القرآن: 2/ 423.]] [32] . و (ثم) في كلام العرب للتعقيب. عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه إنه قال لعبد الله بن زيد الأنصاري قال: أتستطيع أن تري كيف كان رسول الله ﷺ‎ يتوضأ؟ فقال عبد الله: نعم، فدعا بوضوء وأفرغ على يديه فغسل وجهه ثلاثا ويديه ثلاثا ومسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثمّ ذهب بهما إلى المكان الذي بدأ منه، ثم غسل رجليه. وقال مالك: إن ترك الترتيب في الوضوء عامدا، أعاد وضوءه فإن تركه ناسيا لم يعد، وهو اختيار المزني. وقال سفيان الثوري وأبو حنيفة وصاحباه: الترتيب في الوضوء سنّة فإن تركه ساهيا أو عامدا فلا إعادة عليه، وجعلوا الواو بمعنى الجمع، واحتجوا بقوله تعالى إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ [[سورة التوبة: 60.]] ولا خلاف أن تقديم بعض أهل السهمين على بعض في الإعطاء بتمايز. وبقوله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [[سورة الأحزاب: 56.]] . ويحرم تقديم أحدهما على الآخر. وأما فضل الوضوء فروى يحيى بن أبي كثير عن زيد عن ابن سلام عن أبي مالك قال: قال رسول الله ﷺ‎: «الطهور شطر الإيمان» [[مسند أحمد: 5/ 344.]] [33] . وروى حماد بن سلمة عن علي بن زيد عن عثمان النهدي قال: كنت مع سلمان فأخذ غصنا من شجرة يابسة فحتّه ثم قال: سمعت رسول الله ﷺ‎ يقول: «من توضأ فأحسن الوضوء [ثمّ صلى الصلوات الخمس] تحاتّت عنه خطاياه كما تحات هذه الورق» [[مجمع الزوائد: 1/ 297.]] [34] . وروى زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود قال: قيل: يا رسول الله ﷺ‎ كيف تعرف من لم تر من أمتك يوم القيامة؟ قال: «هم غر محجلون من آثار الوضوء» [[مسند أحمد: 5/ 199.]] [35] . وروى أبو أمامة عن عمرو بن عبسة قال: قلت: يا رسول الله ما الوضوء حدّثني عنه؟ قال: «ما منكم من رجل يقرب وضوءه فيتمضمض ويستنشق وينثر إلّا جرت خطايا فيه وخياشيمه مع الماء ثم إذا غسل وجهه كما أمر الله إلّا جرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء، ثم إذا غسل يديه من المرفقين إلّا جرت خطايا يديه من أنامله مع الماء، ثم يمسح رأسه إلّا جرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين إلّا جرت خطايا رجليه من أنامله مع الماء، فإذا هو قام فصلّى وحمد الله وأثنى عليه ومجّده وفرّغ قلبه لله إلّا انصرف من خطيئته كهيئته يوم ولدته أمه» [[صحيح مسلم: 2/ 210.]] [36] . وعن أنس بن مالك قال: خدمت رسول الله ﷺ‎ وأنا ابن ثمان سنين وكان أول ما علّمني أن قال: «يا أنس يا بني أحسن وضوءك لصلاتك يحبك الله ويزاد في عمرك» [[مجمع الزوائد: 1/ 271، ومسند أبي يعلى: 6/ 307 بتفاوت.]] [37] . وروى سعيد بن المسيب عن عبد الرحمن بن حمزة الأنصاري قال: خرج علينا رسول الله ﷺ‎ ونحن في مسجد المدينة فقال: «لقد رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي قد بسط عليه عذاب القبر فجاء وضوؤه فاستنقذه من ذلك» [38] . وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا فاغتسلوا. روى أبو ذر عن علي (عليه السلام) فقال: أقبل عشرة من أحبار اليهود، فقالوا: يا محمد لماذا أمر الله بالغسل من الجنابة ولم يأمر من البول والغائط وهما أقذر من النطفة؟ فقال النبي ﷺ‎: «إنّ آدم لما أكل من الشجرة تحوّل في عروقه وشعره، وإذا جامع الإنسان نزل من أصل كل شعرة فافترضه الله عز وجل عليّ وعلى أمتي تكفيرا وتطهيرا وشكرا لما أنعم عليهم من اللذة التي يصيبونها منه» . قالوا: صدقت يا محمد، فأخبرنا بثواب ذلك من اغتسل من الحلال، فقال ﷺ‎: «إنّ المؤمن إذا أراد أن يغتسل من الحلال بنى الله له قصرا في الجنّة وهو سرّ بين المؤمن وبين ربه، والمنافق لا يغتسل من الجنابة فما من عبد ولا أمة من أمتي قاما للغسل من الجنابة تيقنا أني ربهما، أشهدكم أني غفرت لهما كتبت لهما بكل شعرة على رأسه وجسده ألف [سنة] ومحى عنه مثل ذلك ورفع له مثل ذلك» . قالوا: صدقت، نشهد أن لا إله إلّا الله وأنّك رسول الله. وعن أبي محمد الثقفي قال: سمعت أنس بن مالك يقول: قال لي النبي ﷺ‎: «يا بني الغسل من الجنابة فبالغ فيه فإنّ تحت كلّ شعرة جنابة» . قلت: يا رسول الله كيف أبالغ؟ قال: «نقّوا أصول الشعر وأنق بشرتك تخرج من مغتسلك وقد غفر لك كل ذنب» [[كنز العمال: 9/ 549. ح 27361.]] [39] . وقال عبد الرحمن بن حمزة: خرج علينا رسول الله ﷺ‎ ذات يوم ونحن في مسجد المدينة. فقال: «إني رأيت البارحة عجبا، رأيت رجلا من أمتي والنبيون قعود حلقا حلقا كلما دنا إلى حلقه طردوه فجاءه اغتساله من الجنابة [فأخذ بيده] فأقعده إلى جنبي» [[تفسير ابن كثير: 2/ 555.]] [40] . وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ إلى قوله بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ أي من الصعيد وما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ بما فرض عليكم من الوضوء والغسل والتيمم مِنْ حَرَجٍ من ضيق وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ من الأحداث والجنابات والذنوب والخطيئات وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فيما أباح الله لكم من التيمم عند عدم الماء وسائر نعمه التي لا تحصى لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ الله عليها. وروى محمد بن كعب القرضي عن عبد الله بن داره مولى عثمان بن عفّان (رضي الله عنه) عن عمران مولى عثمان قال: مرّت على عثمان فخارة من ماء فدعا به فتوضأ فأسبغ وضوءه ثم قال: لو لم أسمعه من رسول الله ﷺ‎ إلّا مرّة أو مرّتين أو ثلاثا ما حدّثتكم به [[مسند ابن المبارك: 21.]] . سمعت رسول الله ﷺ‎ يقول: «ما توضّأ عبد فأسبغ وضوءه ثم قام إلى الصلاة إلّا غفر [الله] له ما بينه وبين الصلاة الأخرى» [[مسند ابن المبارك: 21.]] [41] . قال محمد بن كعب: فكنت إذا سمعت الحديث من رجل من أصحاب رسول الله ﷺ‎ التمسته في القرآن فالتمست هذا في القرآن فوجدته إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ [[سورة الفتح: 2.]] فعلمت أن الله لم يتم عليه النعمة حتّى غفر له ذنوبه. ثم قرأت الآية التي في المائدة إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ حتّى بلغ قوله يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ فعرفت أنّ الله لم يتم عليهم النعمة حتى غفر لهم. قتادة عن شهر بن حوشب عن الصّدي بن عجلان وهو أبو إمامة عن النبي ﷺ‎ إنه قال: «الطهور يكفر ما قبله [ثمّ] تصير الصلاة نافلة» [[المعجم الكبير: 8/ 125 وفيه: الوضوء، بدل: الطهور.]] [42] . وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ يعني النعم كلها وَمِيثاقَهُ عهده الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ عاهدتم به أيها المؤمنون إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وذلك حين بايعوا رسول الله ﷺ‎ على السمع والطاعة فيما أحبوا وكرهوا. هذا قول أكثر المفسرين. وقال مجاهد: من الميثاق الذي أخذ الله على عباده حين أخرجهم من صلب آدم (عليه السلام) وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ عليم ما في القلوب من خير وشر يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ أمرهم بالصدق والعدل في أقوالهم وأفعالهم وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ ولا يحملنكم بغض قوم عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا أي على ترك العدل فيهم لعداوتهم، ثم قال: اعْدِلُوا بين أوليائكم وأعدائكم هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى يعني إلى التقوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ عالم بِما تَعْمَلُونَ مجازيكم به وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ تقديرها: وقال لهم مغفرة، لأنّ الوعد قول، فلذلك جمع الكلام وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب