الباحث القرآني

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ قال الضحاك وأبو عبيدة: قذر، وقال ابن الأنباري: خبيث يقال: رجل نجس وامرأة نجس ورجلين وامرأتان نجس ورجال ونساء نجس بفتح النون والجيم أو نجس بضم الجيم ورجس في هذه الأحوال لا يثنّى ولا يجمع لأنّه مصدر، وأما النجس بكسر النون وجزم الجيم فلا يقال إلا إذا قيل معه رجس، فإذا أفرد قيل: نجس بفتح النون وكسر الجيم أو نجس بضم الجيم. وقرأ ابن السميقع: إنما المشركون أنجاس، كقولك أخباث على الجمع، واختلفوا في معنى النجس والسبب الذي من أجله سمّاهم بذلك، فروي عن ابن عباس: ما المشركون إلا رجس خنزير أو كلب، وهذا قول غير مرضي لمعنيين أحدهما أنه روي عنه من وجه غير حميد فلا يصح عنه، والآخر أن هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين لأن أعيانهم لو كانت نجسة كالكلب والخنزير لما طهرهم الإسلام، ولا يستوي في النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام وغيره من المساجد، واحتج من قال أعيانهم نجسة بما روي أن عمر بن عبد العزيز كتب أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين، وأتبع نهيه بقول الله تعالى إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ. وكما روي عن الحسن أنه قال: لا تصافحوا المشركين. فمن صافحهم فليتوضّأ، وقال قتادة: سمّاهم نجسا لأنهم يجنبون ولا يغتسلون، ويحدثون ولا يتوضؤون، فمنعوا من دخول المسجد لأن الجنب لا ينبغي أن يدخل المسجد. وقال الحسين بن الفضل: هذه نجاسة الحكم لا نجاسة العين فسموا نجسا على الذّم، يدلّ عليها ما روي أن النبي ﷺ‎ لقى حذيفة فأخذ ﷺ‎ بيده، فقال حذيفة: يا رسول الله إنّي جنب، فقال: «إن المؤمن لا ينجس» [6] . فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ قال أهل المعاني: أراد بهذا منعهم من دخول الحرم لأنهم إذا دخلوا الحرم فقد قربوا المسجد الحرام، قال عطاء الحرم كلّه قبلة ومسجد [[تفسير الطبري: 10/ 136، وتفسير القرطبي: 8/ 105.]] وتلا هذه الآية. جابر عن عبد الله عن رسول الله ﷺ‎: لا يدخل الحرم إلا أهل الجزية أو عبد لرجل من المسلمين، ونساؤهم حل لكم، وقرأ: بَعْدَ عامِهِمْ هذا يعني العام الذي حج فيه أبو بكر رضي الله عنه عنه بالناس، ونادى علي كرم الله وجهه ببراءة وهو سنة تسع في الهجرة وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً الآية. قال المفسرون: وكان المشركون يجلبون إلى البيت الطعام ويتّجرون ويتبايعون، فلمّا منعوا من دخول الحرم شقّ ذلك على المسلمين، والقى الشيطان في قلوبهم الخوف وقال لهم: من أين تأكلون وتعيشون وقد بقي المشركون وانقطعت عنهم العير. فقال المؤمنون: يا رسول الله قد كنّا نصيب من تجارتهم وبياعاتهم فالآن تنقطع عنّا الأسواق ويملك التجارة، ويذهب ما كنّا نصيب منها من المرافق، فأنزل الله عز وجل وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً. وقال عمرو بن فائد: معناه وإذا خفتم لأن القوم كانوا قد خافوا، وذلك هو قول القائل: إن كنت أبي فأكرمني يعني [إن خفت] عيلة فقرا وفاقة. يقال عال يعيل عيلة وعيولا. قال الشاعر: فلا يدري الفقير متى غناه ... ولا يدري الغني متى يعيل [[لسان العرب: 11/ 488، ونسبه إلى أحيحة.]] وفي مصحف عبد الله: وإن خفتم عايلة أي [حصلة] يعول عليكم أي يشق فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وذلك أنه أنزل عليهم مطرا مدرارا فكثر خيرهم حين ذهب المشركون. وقال مقاتل: أسلم أهل جدة وصنعاء وجرش من اليمن وطهوا الطعام إلى مكة على ظهور الإبل والدواب، وكفاهم الله عز وجل ما كانوا يتخوّفون. قال الكلبي: أخصبت [............] [[كلام غير مقروء في المخطوط.]] ، وكفاهم الله ما أهمّهم، وقال الضحاك وقتادة: قسم الله منها ما هو خير لهم وهو الجزية فأغناهم الله وذلك قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ قال مجاهد: نزلت هذه الآية حين أمر رسول الله ﷺ‎ بحرب الروم فغزا بعد نزولها غزوة تبوك. وقال الكلبي: نزلت في قريظة والنضير من اليهود وأراد رسول الله ﷺ‎ [أخذ الجزية فأنزل الله] [[المخطوط غير مقروء والظاهر ما أثبتناه.]] عز وجل: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ أراد الدين الحق فأضاف الاسم إلى الصفة. قال قتادة: الحق هو الله عز وجل، ودينه الإسلام، وقال أبو عبيدة [[في معاني القرآن للنحاس: 3/ 197، نسبه لأبي جعفر.]] معناه: طاعة أهل الإسلام، وكل من أطاع ملكا أو ذا سلطان فقد دان له دينا. قال زهير: لئن حللت بجوفي بني أسد ... في دين عمرو وحالت بيننا فدك [[تفسير الطبري: 10/ 141، ولسان العرب: 10/ 473.]] أي في طاعة عمرو. مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني اليهود والنصارى يؤخذ منهم الجزية وألّا يقاتلوا، ويؤخذ الجزية أيضا من الصابئين والسامرة لأن سبيلهم في أهل الكتاب سبيل أهل البدع فيها، ويؤخذ الجزية أيضا من المجوس، وقد قيل: إنهم كانوا من أهل الكتاب فرفع كتابهم. أخبرنا أبو محمد عبد الله بن حامد الوزان، أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين، حدّثنا محمد بن يحيى و [..........] [[كلام غير مقروء في المخطوط.]] قالا: حدّثنا عثمان بن صالح، حدّثنا ابن وهب، أخبرنا يوسف عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أن رسول الله ﷺ‎ أخذ الجزية من مجوس هجر [[أحكام القرآن للجصاص: 2/ 412.]] ، وأن عمر أخذها من مجوس السواد وأن عثمان بن عفان أخذها من بربر [[المصنّف لعبد الرزاق: 6/ 69، ح 10027.]] . ابن حامد أخبرنا أحمد بن محمد بن الحسين، حدّثنا محمد بن يحيى وأحمد بن يوسف قالا: حدّثنا أبو عاصم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا أدري كيف أصنع بالمجوس؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: سمعت رسول الله ﷺ‎ يقول: «سنّوا بهم سنة أهل الكتاب» [7] [[المسند للشافعي: 209.]] . قال أبو عاصم: مشيت ميلا وهرولت ميلا حتى سمعت من جعفر بن محمد، حدّثنا، يعني هذا الحديث ، وإنما منعنا من نكاح نسائهم وأكل ذبائحهم [وإتيان] الفروج والأطعمة على الخطر، ولا يجوز الإقدام عليها بالشك. قال الحسن: قاتل رسول الله ﷺ‎ أهل هذه الجزيرة على الإسلام لا يقبل منهم غيره، وكان أفضل الجهاد، وكان بعده جهاد آخر على هذه الطعمة في شأن أهل الكتاب [[الدر المنثور: 3/ 229.]] . قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ألّا يتبعوا ما سواهما بدعة وضلالة، ولا يؤخذ الجزية من الأوثان حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ وهو ما يعطي المعاهد على عهده من الجزية، وهي فعلة من جزى يجزي إذا قضى عليه، والجزية مثل القعدة والجلسة ومعنى الكلام: حتى يعطوا الخراج عن رقابهم الذي يبذلونه للمسلمين دفعا عنها. وأما قدرها: فقال أنس: قسّم النبي على كل محتلم دينارا ، وقسم عمر بن الخطاب رضي الله عنه على الفقراء من أهل الذمة كل واحد منهم درهما، وعلى الأوساط أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين درهما، ولم يجاوز به خمسين درهما، وليس شيء موقت ولكن على ما صولحوا عليه. عَنْ يَدٍ أي بالنقل من يده إلى يد من يدفعه إليه، كما يقال كلّمته فما لفم [[تفسير الطبري: 10/ 141.]] . وقال أبو عبيدة: يقال: أكلّ من [............] [[كلام غير واضح في المخطوط.]] من غير طيب نفس منه أعطاه عن يد، وقال القتيبي: يقال: أعطاه عن يد وعن ظهر يد إذا أعطاه مبتدئا غير مكلف. وقال ابن عباس: هو أنها يعطونها بأيديهم، يمشون بها كارهين ولا يجيئون بها ركبانا ولا يرسلون وَهُمْ صاغِرُونَ أذلّاء مقهورون، قال ابن عباس يتلتلون بها تلتلة وقال عكرمة: معنى الصغار هو أن تأخذها وأنت جالس وهو قائم. قال الكلبي: إنه إذا [جاء يعطي] صفع في قفاه، وقيل: إعطاؤه إياها هو الصغار، وقيل: إنّه لا يقبل فيها رسالة ولا وكالة، وقيل: إنه يجري عليهم أحكام الإسلام وهو الصغار. أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا محمد بن جعفر، حدّثنا علي بن حرب، حدّثنا السباط، حدّثنا عبد العزيز بن [............] [[كلمة غير مقروءة في المخطوط.]] عن حبيب بن أبي ثابت قال: جاء إلى ابن عباس رجل فقال: الأرض من أرض الخراج يعجز عنها أهلها أفأعمرها وأزرعها وأودي خراجها؟ قال: لا، وجاء آخر فقال له ذلك قال: لا وتلا قوله: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الآية إلى قوله: وَهُمْ صاغِرُونَ، أيعمد أحدكم إلى الصغار في عنق أحدهم فينزعه فيجعله في عنقه [[تفسير القرطبي: 8/ 116، وكذلك روى الأحاديث الآتية.]] ؟ وقال كليب بن وائل: قلت لا بن عمر: اشتريت أرضا، قال: الشراء حسن. قال: فإنّي أعطي من كل جريب أرض درهما وقفيز طعام؟ قال: ولا تجعل في عنقك صغارا. وروى ميمون بن مهران عن ابن عمر قال ما يسرّني أن لي الأرض كلها بجزية خمسة دراهم أقر فيها الصغار على نفسي. وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ الآية، روى سعيد بن جبير، وعكرمة عن ابن عباس. قال: أتى رسول الله ﷺ‎ سلام بن مسلم والنعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف قالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرا ابن الله. فأنزل الله في قولهم: وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ ، وقرأ ابن محيصن وعاصم والكسائي: عُزَيْرٌ بالتنوين، وهو قول أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ الباقون بغير تنوين، فمن نوّن قال: لأنه اسم خفيف فوجهه أن ينصرف وإن كان أعجميا مثل نوح ولوط وهود، وقال أبو حاتم والمبرّد: الاختيار التنوين لأنه ليس بمنسوب، والكلام ناقص وفي موضع الخبر وليس بنصب، وإنما جاز التنوين في النعت إذا كان الاسم يستغني عن الابن أو ينسب إلى اسم معروف أو لقب غلب عليه، مثل محمد بن عبد الله ويزيد ابن عبد الله، لأن النعت والمنعوت كالشيء الواحد فينوّن في الخبر ويحذف في الصفة، وربما أثبتوا التنوين في الصفة، ويقول الشاعر، أنشده الفرّاء: والّا تكن مال هناك فإنّه ... سيأتي ثنائي زيدا بن مهلهل وأنشد الكسائي [............] [[كلام مطموس في الخطوط.]] مذهبه. وقال أبو عبيدة: هذا ليس بمنسوب إلى أبيه إنما هو كقولك: زيد ابن الأمير، وزيد بن عبد الله، فعزير يكون بعده خبر. ومن ترك التنوين قال: لأنه اسم اعجمي ويشبه اسما مصغرا. وقال الفرّاء: لما كانت النون من عزير ساكنة [وهي نون التنوين] والباء من الابن ساكنة والتقى ساكنان حذف الأول منهما استثقالا لتحريكه، كما قال: لتجدني بالأمير برا، وبالقناة مدعا مكرا، إذا غطيف السلمّي فرّا [[تفسير الطبري: 10/ 144، ولسان العرب: 3/ 438.]] . فحذف النون الساكن الذي استقبلها، وقال الزجّاج: يجوز أن يكون الخبر محذوفا تقديره: عزير ابن الله معبودنا. قال عبيدة بن عمير: إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازورا وهو الذي قال: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ يستقرض [[تفسير الطبري: 4/ 259.]] . عطية العوفي عن ابن عباس قال: قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ فإنما قالوا ذلك من أجل أن عزيرا كان في أهل الكتاب، وكانت التوراة عندهم ما شاء الله أن يعلموا، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق، وكان التابوت فيهم، فلمّا رأى الله عز وجل أنهم أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء وأذهبوا التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم، فأرسل الله عزّ وجل عليهم مرضا فاستطالت بطونهم حتى جعل الرجل يمسّ كبده، حتى نسوا التوراة ونسخت من صدورهم، وفيهم عزير فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعد ما نسخت التوراة من صدورهم، وكان عزير قبل من علمائهم فدعا عزير [الله] وابتهل إليه أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم، فبينما هو يصلي مبتهلا إلى الله عز وجل نزل نور من السماء فدخل جوفه، فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة، فأذّن في قومه فقال: يا قوم قد آتاني الله التوراة وردّها إليّ فعلق يعلّمهم فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا وهو يعلّمهم، ثم إن التابوت ترك بعد ذلك، وبعد ذهابه منهم، فلمّا رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزير يعلّمهم فوجدوه مثله، فقالوا: والله ما اتي عزير هذا إلا إنّه ابن الله [[بتمامه في تفسير الطبري: 10/ 143.]] . وقال السدّي وابن عباس في رواية عمار بن عمار: إنما قالت اليهود عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ لأنهم ظهرت عليهم العمالقة فقتلوهم وأخذوا التوراة وهرب علماؤهم الذين بقوا ودفنوا كتب التوراة في الجبال وغيرها، فلحق عزير بالجبال والوحوش، وجعل يتعبّد في الجبال، ولا يخالط ولا يخالط الناس ولا ينزل إلا يوم عيد، وجعل يبكي ويقول: يا رب تركت بني إسرائيل بغير عالم فجعل يبكي حتى سقطت أشفار عينيه، فنزل مرة إلى العيد فلمّا رجع إذا هو بامرأة قد خلت [[في تفسير الطبري: مثلت.]] له عند قبر من تلك القبور تبكي وتقول: يا مطعماه يا كاسياه. فقال لها عزير: يا هذه اتقي الله واصبري واحتسبي، أما علمت أنّ الموت سبيل الناس، وقال: ويحك من كان يطعمك ويكسوك قبل هذا الرجل- يعني زوجها الذي كانت تندبه- قالت: الله، قال: فإن الله حي لم يمت، قالت: يا عزير فمن كان يعلّم العلماء قبل بني إسرائيل؟ قال: الله، قالت: فلم تبكي عليهم، وقد علمت أن الموت حق وأن الله حي لا يموت، فلمّا عرف عزير أنه قد خصم ولّى مدبرا. فقالت له: يا عزير إنّي لست بامرأة ولكني الدنيا، أما إنّه ينبع ماء في مصلاك عين، وتنبت شجرة فكل من ثمرة تلك الشجرة واشرب من ماء تلك العين واغتسل وصلّ ركعتين فإنه يأتيك شيخ فما أعطاك فخذ منه، فلمّا أصبح نبعت من مصلّاه عين، ونبتت شجرة ففعل ما أمرته به، فجاء شيخ فقال له: افتح، قال: ففتح فاه وألقى فيه شيئا كهيئة الجمرة العظيمة مجتمعا كهيئة القوارير ثلاث مرات، ثم قال له: ادخل هذه العين فامش فيها حتى تبلغ قومك، قال: فدخلها فجعل لا يرفع قدمه إلا زيد في علمه حتى انتهى إلى قومه، فرجع إليهم وهو من أعلم الناس بالتوراة. فقال: يا بني إسرائيل قد جئتكم بالتوراة. قالوا: يا عزير ما كنت كاذبا، فربط على كل إصبع له قلما وكتب بأصابعه كلها حتى كتب التوراة على ظهر قلبه، فأحيا لهم التوراة، وأحيا لهم السنّة، فلمّا رجع العلماء استخرجوا كتبهم التي دفنوها من توراة عزير فوجودها مثلها، فقالوا: ما أعطاه الله ذلك إلا لأنه ابنه [[المصدر السابق بتفاوت.]] . وقال الكلبي: إن بختنصر لما ظهر على بني إسرائيل وهدم بيت المقدس وقتل من قرأ التوراة كان عزير إذ ذاك غلاما صغيرا فاستضعفوه، فلم يقبله ولم يدر أنه قرأ التوراة، فلمّا توفي مائة سنة ورجعت بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس منهم من يقرأ التوراة، فبعث الله عز وجل عزيرا ليجدد لهم التوراة ويكون آية لهم، فأتاهم عزير وقال: أنا عزير فكذّبوه وقالوا: إن كنت كما تزعم عزير فاتل علينا التوراة، فكتبها وقال: هذه التوراة. ثم إن رجلا قال: إن أبي حدّثني عن جدي أن التوراة جعلت [لنبي] ثم دفنت في كوّم فانطلقوا معه حتى احتفرها وأخرجوا التوراة وعارضوا بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر منه حرفا ولا آية فعجبوا وقالوا: ابن الله، ما جعل التوراة في قلب رجل واحد بعد ما ذهبت من قلوبنا إلا أنه ابنه، فعند ذلك قالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ. وأما النصارى [فقيل] : إنّهم كانوا على [دين واحد] سنة بعد ما رفع عيسى، يصلّون القبلة ويصومون رمضان، حتى وقع فيما بينهم وبين اليهود حرب، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له: يونس قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السّلام، ثم قال لليهود: إن كان الحق مع عيسى فكفرنا وجحدنا والنار مصيرنا، فنحن مغبونون إن دخلوا الجنة ودخلنا النار، إني احتال فأضلّهم حتى يدخلوا النار، وكان لها فرس يقال له: العقاب يقاتل عليها فغرقت فرسه وأظهر الندامة ووضع على رأسه التراب. فقال له النصارى: من أنت؟ قال يونس: عدوكم [سمعت] [[زيادة يقتضيها السياق.]] من السماء: ليس لك توبة إلا أن تتنصّر وقد تبت، فأدخلوه الكنيسة ودخل بيتا سنة لا يخرج منه ليلا ولا نهارا حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال [لهم] [[كلمة غير واضحة في المخطوط والظاهر ما أثبتناه.]] إن الله قبل توبتك، فصدّقوه وأحبوه ثم مضى إلى بيت المقدس، واستخلف عليهم نسطور وعلّمه أن عيسى ومريم والإله كانوا ثلاثة، ثم توجه إلى الروم وعلّمهم اللاهوت والناسوت وقال: لم يكن عيسى بإنس فتأنّس ولا بجسم فتجسّم ولكنّه ابن الله، وعلّم ذلك رجلا يقال له: يعقوب. ثم دعا رجلا يقال له: ملكا وقال له: إن الله لم يزل ولا يزال عيسى رضي الله عنه، فلمّا استمكن منهم دعا هؤلاء الثلاثة واحدا واحدا، وقال لكل واحد منهم: أنت خليفتي، ولقد رأيت عيسى في المنام فرضي عني، وقال لكل واحد منهم: إني غدا أذبح نفسي فادع الناس للمذبحة، ثم دخل المذبحة فذبح نفسه، وقال: إنما أفعل ذلك لمرضاة عيسى، فلمّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم الناس إلى [نحلته] فتبع كل واحد طائفة من الناس واقتتلوا واختلفوا إلى يومنا هذا، فجميع النصارى من الفرق الثلاث. ذلِكَ يعني قول النصارى: إن المسيح ابن الله قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يقولون بألسنتهم من غير علم. قال أهل المعاني: إن الله عز وجل لا يذكر قولا مقرونا بذكر الأفواه والألسن إلا وكان ذلك القول زورا كقوله تعالى: يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، ويَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ، وقوله: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً ... يُضاهِؤُنَ قال ابن عباس: يشبهون وعنه أيضا: يحكون، وقال مجاهد: يواطئون. وقال ذي نون: وفيه لفظان يُضاهِؤُنَ بالهمزة وهي قراءة عاصم، ويضاهون بغير همزة وهي قراءة العامة، يقال: ضاهيته وضاهأته بمعنى واحد قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قال قتادة والسدي: ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقال النصارى: المسيح ابن الله كما قال اليهود: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وقال مجاهد: يضاهئون قول المشركين حين قالوا اللات والعزى ومناة بنات الله، وقال الحسن: شبّه كفرهم بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة، وقال لمشركي العرب حين حكى عنهم، وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ، ثم قال: كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ وقال القتيبي: يريد إن من كان في عهد النبي ﷺ‎ من اليهود والنصارى يقولون ما قال أوّلوهم. قاتَلَهُمُ اللَّهُ قال ابن عباس: لعنهم الله، وكل شيء في القرآن قتل هو لعن، ومثله قال أبان بن تغلب: قاتلها الله تلحاني وقد علمت ... أني لنفسي إفسادي وإصلاحي [[تفسير القرطبي: 8/ 119.]] وقال ابن جريج: قاتَلَهُمُ اللَّهُ وهو بمعنى التعجب أَنَّى يُؤْفَكُونَ أي يكذبون، ويصرفون عن الحق بعد قيام الدلالة عليه اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ قال الضحاك: علماءهم، وقرأ: رهبان، وأحبار العلماء: واحدهم حبر وحبر بكسر الحاء وفتحها والكسر أجود، وكان يونس الجرمي يزعم أنه لم يسمع فيه إلا بكسر الحاء، ويحتج فيه بقول الناس: هذا محبر يريدون مداد عالم، والرهبان من النصارى أصحاب الصوامع وأهل الأصفاد في دينهم، يقال: راهب ورهبان مثل فارس وفرسان، وأصله من الرّهبة وهي الخوف كأنهم يخافون الله أَرْباباً سادة مِنْ دُونِ اللَّهِ يطيعونهم في معاصي الله. مصعب بن سعد عن عدي بن حاتم قال: أتيت رسول الله ﷺ‎ وفي عنقي صليب من ذهب. فقال: يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك، قال: فطرحته ثم انتصب وهو يقرأ سورة براءة فقرأ هذه الآية: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ حتى فرغ منها فقلت له: إنّا لسنا نعبدهم، فقال: أليس يحرّمون حلال الله فتحرّمونه، ويحلّون ما حرّم الله فتحلّونه، قال: فقلت: بلى [[المعجم الكبير للطبراني: 17/ 92.]] . قال أبو الأحوص: عن عطاء بن أبي البختري في قول الله عز وجل: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً قال: أما [لو أمروهم] أن يعبدوهم من دون الله ما أطاعوهم ولكنّهم أمروهم فجعلوا حلال الله حرامه، وحرامه حلاله فأطاعوهم، فكانت تلك الربوبية [[الأحكام لابن حزم: 6/ 883.]] . وقال الربيع: قلت لأبي العالية كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: إنهم وجدوا في كتاب الله عز وجل ما أمروا به ونهوا عنه، فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء فما أمرونا بشيء ائتمرنا وما نهينا عنه فانتهينا، الرجال ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم. وقال أهل المعاني: معناه اتخذوا أحبارهم ورهبانهم كالأذناب حيث أطاعوهم في كل شيء، كقوله: قال انفخوا حتى إذا جعله نارا أي كالنار، وقال عبد الله المبارك: وهل بدّل الدين إلا الملوك وأحبار سوء ورهبانها [[الجهاد لابن المبارك: 28.]] . وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ نزّه نفسه عَمَّا يُشْرِكُونَ القراءة بالياء وقرأ ابن أبي إسحاق بالتاء يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ أي يبطلوا دين الله بألسنتهم، بتكذيبهم إياه وإعراضهم عنه. وقال الكلبي: يعني يردون القرآن بألسنتهم تكذيبا له، وقال ابن عباس: يريد اليهود والنصارى أن يلزموا توحيد الرحمن بالمخلوقين الذين لا تليق بهم الربوبية، وقال الضحاك: يريدون أن يهلك محمد وأصحابه ولا يعبد الله بالإسلام. وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أي يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ وإنما أدخلت إلا لأن في أبت طرفا من الجحد، ألا ترى أنّ قولك يثبت أن أفعل ولما فيه من الحذف تقديره: وَيَأْبَى اللَّهُ كل شيء إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ، كما قال: وهل لي أمّ غيرها أن تركتها ... أبى الله إلّا أن أكون لها ابنا هو الذي يعني يأبى إلّا إتمام دينه هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ يعني محمدا ﷺ‎ بِالْهُدى قال ابن عباس: بالقرآن، وقيل: تبيان فرائضه على خلقه، وَدِينِ الْحَقِّ وهو الإسلام. وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ أي يعلي دينه ويظهر كلمته ويتم الحق الذي بعث به رسوله وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ ... لِيُظْهِرَهُ ليعليه وينصره ويظفره عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ على سائر الملل كلها وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ. واختلف العلماء بمعنى هذه الآية، فقال ابن عباس: الهاء عائدة على الرسول ﷺ‎ يعني ليعلمه شرائع الدين كلها فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء، وقال الآخرون: الهاء راجعة إلى دين الحق. قال أبو هريرة والضحاك: ذلك عند خروج عيسى عليه السّلام إذا خرج اتبعه كل دين وتصير الملل كلها واحدة، فلا يبقى أهل دين إلا دخل في الإسلام أو أدى الجزية إلى المسلمين. قال السدّي: وذلك عند خروج المهدي لا يبقى أحد إلا دخل في الإسلام أو أدّى الخراج [[زاد المسير لابن الجوزي: 3/ 290، وتفسير القرطبي: 8/ 121.]] . وقال الكلبي: لا يبقى دين إلا ظهر عليه الإسلام وسيكون ذلك، ولم يكن بعد، ولا تقوم الساعة حتى يكون ذلك. قال المقداد بن الأسود: سمعت رسول الله ﷺ‎ يقول: «لا يبقى على وجه الأرض بيت مدر ولا وبر إلّا أدخله الله كلمة الإسلام إما يعز عزيز وإما يذل ذليل، إما يعزهم الله فيجعلهم من أهله فيعزّوا، وإما يذلّهم فيدينون له» [8] [[مجمع الزوائد: 6/ 14.]] . عن الأسود أو سويد بن العلاء عن أبي سلمة عن عائشة قالت: قال رسول الله ﷺ‎: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى» [9] . قالت: قلت: يا رسول الله ما كنت أظن أن يكون ذلك بعد ما أنزل الله على رسوله. هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ. قال: يكون ذلك ما شاء الله عز وجل، ثم يبعث ريحا فيقبض كل من كان في قلبه مثقال ذرة من خير، ثم يبقي من لا خير فيه ويرجع الناس إلى دين آبائهم. وقال الحسين بن الفضل: معناه: ليظهره على الأديان كلها بالحجج الواضحة والبراهين اللامعة فيكون حجة هذا الدين أقوى، وقال بعضهم: قد فعل الله ذلك ونجزت هذه العدة لقوله سبحانه الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ [[سورة المائدة: 3.]] . وقال بعضهم: هو أن يظهر الإسلام في كل موضع كان يجري على أهلها صغار في أي موضع كانوا، لا يؤخذ منهم جزية كما يؤخذ من أهل الذمة. وقيل: معناه: ليظهره على الأديان كلها التي في جزيرة العرب فيظهره على دينهم ويغلبهم في ذلك المكان. وقيل: هو جريان حكمته عليهم والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب