الباحث القرآني

(أكان الناس عجباً أن أوحينا) لإنكار العجب مع ما يفيده من التقريع والتوبيخ، أي أكان إيحاؤنا عجباً للناس، والعجب حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة، وقيل العجب ما لا يعرف سببه والمراد بالناس هنا أهل مكة، يعني قريشاً. (إلى رجل منهم) أي من جنسهم، وليس في هذا ما يقتضي العجب فإنه لا يلابس الجنس ويرشده ويخبره عن الله سبحانه إلا من كان من جنسه، ولو كان من غير جنسهم لكان من الملائكة أو من الجن ويتعذر المقصود حينئذ من الإرسال لأنهم لا يأنسون إليه ولا يشاهدونه، ولو فرضنا تشكله لهم وظهوره فإما أن يظهر في غير شكل النوع الإنساني وذلك أوحش لقلوبهم وأبعد من إنسهم أو في الشكل الإنساني فلا بد من إنكارهم لكونه في الأصل غير إنسان. هذا إن كان العجب منهم لكونه من جنسهم، وإن كان لكونه يتيماً أو فقيراً فذلك لا يمنع من أن يكون من كان كذلك جامعاً من خصال الخير والشرف ما لا يجمعه غيره وبالغاً في كمال الصفات إلى جد يقصر عنه من كان غنياً أو غير يتيم، وقد كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يصطفيه الله بالرسالة من خصال الكمال عند قريش ما هو أشهر من الشمس وأظهر من النهار حتى كانوا يسمون الأمين (أن أنذر الناس) أي خوفهم قيل: أن هي المفسرة لأن في الايحاء معنى القول، وقيل مصدرية والإنذار إخبار مع تخويف كما أن البشارة إخبار مع سرور. (وبشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) من إضافة الموصوف إلى الصفة كمسجد الجامع وصلاة الأولى وحب الحصيد، وفائدة هذه الإضافة التنبيه على زيادة الفضل ومدح القدم لأن كل شيء أضيف إلى الصدق فهو ممدوح ومثله مقعد صدق ومدخل صدق. واختلفت عبارات المفسرين وأهل اللغة في معنى قدم صدق، فقيل منزل صدق، وقال الزجاج: درجة عالية، وقال ابن الأعرابي: القدم المتقدم في الشرف وقال أبو عبيدة والكسائي: كل سابق من خير أو شر فهو عند العرب قدم، يقال لفلان قدم في الإسلام وله عندي قدم صدق وقدم خير وقدم شر. وقال ثعلب: القدم كل ما قدمت من خير. وقال ابن الأنباري: القدم كناية عن العمل الذي لا يقع فيه تأخير ولا إبطاء، وقال قتادة: سلف صدق، وقال الربيع والضحاك: ثواب صدق، وقال الحسن: هو محمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم، ونحوه عن زيد بن أسلم وهو قول قتادة. وقال الحكيم الترمذي: قدمه صلى الله عليه وسلم في المقام المحمود، وقال مجاهد: الأعمال الصالحة صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم، وقيل عمل صالح أسلفوه يقدمون عليه. قاله الحسن. وقال الليث وأبو الهيثم: القدم السابقة أي سبق لهم عند الله خير، وقال مقاتل: أعمالاً قدموها واختاره ابن جرير. قال ابن عباس: ما سبق لهم من السعادة في الذكر الأول يعني اللوح المحفوظ. وقال أيضاً: أجراً حسناً بما قدموا من أعمالهم. وعن ابن مسعود قال: القدم هو العمل الذي قدموه، قال الله سبحانه (سنكتب ما قدموا وآثارهم) والآثار ممشاهم، قال: مشى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بين اسطوانتين من مسجده ثم قال: هذا أثر مكتوب، وقيل غير ما تقدم مما لا حاجة إلى التطويل بإيراده والروايات من التابعين وغيرهم في هذا كثيرة وقد قدمنا أكثرها، والسبب في إطلاق لفظ القدم على هذه المعاني أن السعي والسبق لا يحصل إلا بالقدم، فسمي المسبب باسم السبب كما سميت النعمة يداً لأنها تعطي باليد. (قال الكافرون إن هذا لساحر مبين) قرئ لساحر على أنهم أرادوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم باسم الإشارة وقرئ لسحر على أنهم أرادوا القرآن، وقد تقدم معنى السحر في البقرة، والجملة مستأنفة كأنه قيل ماذا صنعوا بعد التعجب؛ وقال القفال: فيه إضمار والتقدير فلما أنذرهم قال الكافرون ذلك. ثم إن الله سبحانه جاء بكلام يبطل به العجب الذي حصل للكفار من الإيحاء إلى رجل منهم فقال (إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام) من أيام الدنيا أي في قدرها لأنه لم يكن ثمَّ شمس ولا قمر، ولو شاء لخلقهن في لمحة والعدول عنه لتعليم خلقه التأني والتمهل في الأمور، وتخصيص الستة بالذكر مع أن التثبت يتأتى بأقل منها وبأزيد عليها قد استأثر الله بعلمه. والمعنى أن من كان له هذا الاقتدار العظيم الذي تضيق العقول عن تصوره كيف يكون إرساله لرسوله إلى الناس من جنسهم محلاًّ للتعجب مع كون الكفار يعترفون بذلك فكيف لا يعترفون بصحة هذه الرسالة لهذا الرسول. (ثم استوى على العرش) استواء يليق به وهذه طريقة السلف المفوضين وقد تقدم تفسير هذه الآية في الأعراف بما فيه كفاية فلا نعيده هنا، قال الكرخي: إن الاستواء على العرش صفة له سبحانه بلا كيف. انتهى فهذه الصفة يجب الإيمان بها وإمرارها على ظاهرها من غير تأويل ولا تكييف ولا تعطيل ولا تمثيل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وطريقة الخلف المؤولين محجوجة بنصوص الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة وأئمتها، وظاهر الآية يدل على أنه تعالى إنما استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض لأن كلمة ثم للتراخي وذلك يدل على أنه تعالى كان قبل العرش غنياً عنه، فلما خلقه امتنع أن تنقلب حقيقته وذاته عن الاستغناء إلى الحاجة فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنياً عنه، ولكن لما قال هو سبحانه وتعالى باستوائه عليه وجب الإيمان به على ما يليق لجلاله. ثم ذكر ما يدل على مزيد قدرته وعظيم شأنه مع ما مر من خلق هاتيك الأجرام العظام فقال (يدبر الأمر) وترك العاطف لأن جملة يدبر كالتفسير والتفصيل لما قبلها، وأصل التدبير النظر في أدبار الأمور وعواقبها لتقع على الوجه المقبول والشكل المحمود، وقال مجاهد: يقضيه ويقدره وحده على الوجه الأتم الأكمل، وقيل يبعث الأمر، وقيل ينزل الأمر، وقيل يأمر به ويمضيه، والمعنى متقارب؛ واشتقاقه من الدبر، والأمر الشأن وهو أحوال ملكوت السموات والأرض والعرش وسائر الخلق من الجزئيات الحادثة شيئاً فشيئاً على أطوار شتى لا تكاد تحصى. (ما من شفيع) يشفع عنده يوم القيامة (إلا من بعد إذنه) له في الشفاعة لأنه عالم بمصالح عباده في تدبيرهم فلا يجوز لأحد أن يسأله ما ليس له به علم، قال الزجاج: إن الكفار الذين خوطبوا بهذه الآية كانوا يقولون أن الأصنام شفعاؤنا عند الله، فرد الله عليهم بأنه ليس لأحد أن يشفع إليه في شيء إلا بعد إذنه لأنه أعلم بموضع الحكمة والصواب، وله التصرف المطلق في العالم، وقد تقدم معنى الشفاعة في البقرة، وفي هذا بيان لاستبداده بالأمور في كل شيء سبحانه وتعالى. (ذلكم) أي فاعل هذه الأشياء العظيمة من الخلق والتدبير (الله ربكم) أي سيدكم لا رب لكم سواه، وفي هذه الجملة زيادة تأكيد لقوله
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب