الباحث القرآني

مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) (ما ننسخ من آية) كلام مستأنف قاله أبو السعود، وقال البهنسي لم يعطف لشدة ارتباطه بما قبله، والنسخ في كلام العرب على وجهين. أحدهما النقل كنقل كتاب من آخر، وعلى هذا يكون القرآن كله منسوخاً أعني من اللوح المحفوظ، ولا مدخل لهذا المعنى في هذه الآية ومنه إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون أي نأمر بنسخه. الثاني الإبطال والإزالة وهو المقصود هنا، وهذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين عند أهل اللغة أحدهما إبطال الشيء وزواله وإقامة آخر مقامه ومنه نسخت الشمس الظل إذا أذهبته وحلت محله، وهو معنى قوله (ما ننسخ من آية) وفي صحيح مسلم " لم تكن نبوة قط إلا تناسخت " أي تحولت من حال إلى حال (والثاني) إزالة الشيء دون أن يقوم مقامه آخر كقولهم نسخت الريح الأثر، ومن هذا المعنى فينسخ الله ما يلقي الشيطان أي يزيله، وروي عن أبي عبيد أن هذا قد كان يقع في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت تنزل عليه السورة فترفع فلا تتلى ولا تكتب ومنه ما روي عن أبي وعائشة أن سورة الأحزاب كانت تعدل سورة البقرة في الطول. قال ابن فارس النسخ الكتاب والنسخ أن يزيل أمراً أكان من قبل يعمل به ثم ينسخه بحادث غيره كالآية تنزل بأمر ثم تنسخ بأخرى وكل شيء خلف شيئاً فقد انتسخه، يقال نسخ الشيب الشباب، وتناسخ الورثة أن تموت ورثة بعد ورثة، وأصل الميراث قائم وكذا تناسخ الأزمنة والقرون. وقال ابن جرير معنى ما ننسخ ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيره، وذلك أن يحول الحلال حراماً والحرام حلالاً والمباح محظوراً والمحظور مباحاً، ولا يكون ذلك إلا في الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة، فأما الإخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ، وأصل النسخ من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة إلى أخرى فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره إنما هو تحويله إلى غيره، وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتي حالتيها منسوخة انتهى. وقد جعل علماء الأصول مباحث النسخ من جملة مقاصد ذلك الفن فلا نطول بذكره بل نحيل من أراد الاستيفاء عليه على كتابنا [حصول المأمول من علم الأصول] فليرجع إليه، وقد اتفق أهل الإسلام على ثبوته سلفاً وخلفاً [[وللشيخ زكريا علي يوسف كتاب سماه (الإيمان وآثاره) ذكر فيه فصلاً طويلاً رد فيه على المجددين الذين أنكروا النسخ في القرآن بغير دليل أو برهان.]] وهو جائز عقلاً وواقع سمعاً، ولم يخالف في ذلك أحد إلا من لا يعتد بخلافه ولا بؤبه بقوله، وقد اشتهر عن اليهود أقمأهم الله إنكاره وهم محجوجون بما في التوراة فإن الله قال لنوح عليه السلام عند خروجه من السفينة إني قد جعلت كل دابة مأكلاً لك ولذريتك وأطلعت ذلك لكم كنبات العشب ما خلا الدم فلا تأكلوه، ثم قد حرم على موسى وعلى بني اسرائيل كثيراً من الحيوان. وثبت في التوراة أن آدم كان يزوج الأخ من الأخت وقد حرم الله ذلك على موسى عليه السلام وعلى غيره، وثبت فيها أن إبراهيم عليه السلام أمر بذبح ابنه ثم قال الله له لا تذبحه وأن موسى عليه السلام أمر بني إسرائيل أن يقتلوا من عبد منهم العجل ثم أمرهم برفع السيف عنهم، وحرم عليهم العمل يوم السبت ولم يحرمه على من كان قبلهم ونحو هذا كثير في التوراة الموجودة بأيديهم، والقرآن الكريم نسخ جميع الشرائع والكتب القديمة كالتوراة والإنجيل وغيرهما، ونسخ الآية بيان انتهاء التعبد بقراءتها أو بالحكم المستفاد منها أو بهما جميعاً، وإنساؤها إذهابها من القلوب. (أو ننسأها) بفتح النون والسين والهمز ومعنى هذه القراءة نؤخرها عن النسخ من قولهم نسأت هذا الأمر إذا أخرته، قال ابن فارس ويقولون نسأ الله في أجلك وأنسأ الله أجلك، وقد انتسأ القوم إذا تأخروا وتباعدوا ونسأتهم أنا أي أخرتهم، وقيل معناه نؤخر نسخ لفظها أي نتركه في أم الكتاب فلا يكون، وقيل نذهبها عنكم لا تقرأ ولا تذكر، وقرىء ننسها بضم النون من النسيان الذي بمعنى الترك أي نتركها فلا نبدلها ولا ننسخها. ومنه قوله تعالى (نسوا الله فنسيهم) أي تركوا عبادته فتركهم في العذاب، وحكى الأزهري أن معناه نأمر بتركها يقال أنسيته الشيء أي أمرته بتركه ونسيته تركته، وقال الزجاج أن القراءة بضم النون لا يتوجه فيها معنى الترك لا يقال أنسى بمعنى ترك، قال وما روي عن ابن عباس أو ننسها أي نتركها لا نبدلها فلا يصح. والذي عليه أكثر أهل اللغة والنظر أن معنى أو ننسها نبح لكم تركها من نسى إذا ترك ثم تعديه، وقد ثبت في البخاري وغيره عن أنس " أن الله أنزل في الذين قتلوا في بئر معونة أن بلغوا قومنا أن قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا " ثم نسخ، وهكذا ثبت في مسلم وغيره عن أبي موسى قال " كنا نقرأ سورة نشبهها في الطول والشدة براءة فانسيتها غير أني حفظت منها لو كان لابن آدم واديان من مال لابتغى وادياً ثالثاً، ولا يملأ جوفه إلا التراب " وكنا نقرأ سورة نشبهها بإحدى المسبحات أولها سبح لله ما في السموات فأنسيناها غير أني حفظت منها (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون) فتكتب شهادة في أعناقكم فتسئلوا عنها يوم القيامة، وقد روي مثل هذا من طريق جماعة من الصحابة ومنه آية الرجم كما رواه عبد الرزاق وأحمد وابن حبان عن عمر. (نأت بخير منها أو مثلها) أي نأت بما هو أنفع للناس منها في العاجل والآجل أو في أحدهما أو بما هو مماثل لها من غير زيادة، ومرجع ذلك إلى إعمال النظر في المنسوخ والناسخ فقد يكون الناسخ أخف فيكون أنفع لهم في العاجل، وقد يكون أثقل وثوابه أكثر فيكون أنفع في الآجل، وقد يستويان فتحصل المماثلة، وقال الشافعي الكتاب لا ينسخ بالسنة المتواترة وتابعه على ذلك طائفة، واستدل بهذه الآية وليس بصحيح، والحق جواز نسخ الكتاب بالسنة، والكلام في هذا معروف في أصول الفقه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب