الباحث القرآني

(وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا) الضمير في (لهم) راجع إلى الناس في قوله (يا أيها الناس) لأن الكفار منهم، وهم المقصودون هنا فعدل عن المخاطبة إلى الغيبة على طريق الالتفات، مبالغة في بيان ضلالهم، كأنه يقول للعقلاء انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون، وقيل مشركو العرب خاصة، وقد سبق ذكرهم في قوله (من يتخذ من دون الله أنداداً) ولفظ أبي السعود نزلت في المشركين أمروا باتباع القرآن وسائر ما أنزل الله من الحجج الظاهرة والبينات الباهرة فجنحوا للتقليد انتهى، وقيل نزلت في اليهود، وعلى هذا فالآية مستأنفة، وألفينا معناه وجدنا وفي هذه الآية من الذم للمقلدين والنداء بجهلهم الفاحش، واعتقادهم الفاسد ما لا يقادر قدره حيث عارضوا الدلالة بالتقليد. ومثل هذه الآية قوله تعالى: (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا) الآية يعني من التحريم والتحليل، وفي ذلك دليل على قبح التقليد والمنع منه، والبحث في ذلك يطول. قال الرازي في هذه الآية تقرير هذا الجواب من وجوه. (أحدها) أنه يقال للمقلد هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقاً أم لا، فإن اعترفت بذلك لم تعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقاً فكيف عرفت أنه محق، وإن عرفت بتقليد آخر لزم التسلسل، وإن عرفته بالعقل فذلك كاف فلا حاجة إلى التقليد، وإن قلت ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقاً، فإذاً قد جوزت تقليده وإن كان مبطلاً، فإذاً أنت على تقليدك لا تعلم أنك محق أو مبطل. (وثانيها) هب أن ذلك المتقدم كان عالماً بهذا الشيء إلا أنا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالماً بذلك الشيء قط وما اختار فيه البتة مذهباً، فأنت ماذا كنت تعمل، فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه كان لا بد من العدول إلى النظر فكذا ههنا. (وثالثها) أنك إذا قلدت من قبلك فذلك المتقدم كيف عرفته، أعرفته بتقليد أم لا بتقليد، فإن عرفته بتقليد لزم إما الدور وإما التسلسل، وإن عرفته لا بتقليد بل بدليل، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدم وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد، لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل، مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد كنت مخالفاً له، فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلاً. وإنما ذكر تعالى هذه الآية عقيب الزجر عن اتباع خطوات الشيطان تنبيهاً على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان وبين متابعة التقليد، وفيه أقوى دليل على وجوب النظر والاستدلال، وترك التعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليل، أو على ما يقوله الغير من غير دليل، انتهى كلامه. وكم من آية بينة وأثر جلي تدل على ذم التقليد والمقلدين، ولكن مفاسد الجهل والتعصب كثيرة لا يأتي عليها الحصر، وقد أفرده الشوكاني بمؤلف مستقل سماه القول المفيد في حكم التقليد، واستوفى الكلام فيه في أدب الطلب ومنتهى الأرب، وألف الحافظ الواحد المتكلم ابن القيم في ذلك كتاباً ضخماً سماه أعلام الموقعين عن رب العالمين. قال ابن عباس: دعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليهود إلى الإسلام ورغبهم فيه وحذرهم عذاب الله ونقمته فقال له رافع بن خارجة ومالك بن عوف: بل نتبع يا محمد - صلى الله عليه وسلم - ما وجدنا عليه آباءنا فهم كانوا أعلم وخيراً منا، فأنزل الله في ذلك هذه الآية: (أولو كان آباؤهم) الهمزة للإنكار، والواو إما للحال أو للعطف، وجواب لو محذوف قاله أبو البقاء وتقديره لاتبعوهم، والذي جرى عليه أبو السعود أن لو في مثل هذا التركيب لا تحتاج إلى جواب لأن القصد منها تعميم الأحوال (لا يعقلون) أي لا يعلمون (شيئاً) من أمر الدين، وهذا لفظ عام ومعناه خاص لأنهم كانوا يعقلون كثيراً من أمور الدنيا فهذا يدل على جواز ذكر العام مع أن المراد به خاص (ولا يهتدون) إلى الصواب وكيفية اكتسابه، قال البيضاوي: وهو دليل على المنع من التقليد لمن قدر على النظر والاجتهاد. وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) ثم ضرب لهم مثلاً فقال
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب