الباحث القرآني

(تلك الرسل فضّلنا بعضهم على بعض) قيل هو إشارة إلى جميع الرسل فيكون الألف واللام للاستغراق، وقيل هو إشارة إلى الأنبياء المذكورين في هذه السورة، وقيل إلى الأنبياء الذي بلغ علمهم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. والمراد بتفضيل بعضهم على بعض أن الله سبحانه جعل لبعضهم من مزايا الكمال فوق ما جعله للآخر فكان الأكثر مزايا فاضلاً، والآخر مفضولاً، وكما دلت هذه الآية على أن بعض الأنبياء أفضل من بعض، كذلك دلت الآية الأخرى عليه وهي قوله تعالى (ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبوراً). وعن قتادة قال: اتخذ الله إبراهيم خليلاً وكلم الله موسى تكليماً وجعل عيسى كمثل آدم خلقه من تراب، ثم قال له كن فيكون وهو عبد الله وكلمته وروحه وآتى داود زبوراً وآتى سليمان ملكاً عظيماً لا ينبغي لأحد من بعده وغفر لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال الخازن: أجمعت الأمة على أن نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - أفضل الأنبياء لعموم رسالته وهو قوله (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً). وقد استشكل جماعة من أهل العلم الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً بلفظ: " لا تفضلوني على الأنبياء " وفي لفظ آخر: " لا تفضلوا بين الأنبياء " [[روى مسلم في صحيحه 2374.]]، وفي لفظ: " لا تخيروا بين الأنبياء " فقال قوم إن هذا القول منه - صلى الله عليه وسلم - كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وأن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل، وقيل إنه قال - صلى الله عليه وسلم - ذلك على سبيل التواضع كما قال: لا يقل أحدكم أنا خير من يونس بن متى [[رواه مسلم في صحيحه 2376 برواية أنه قال -يعني الله عز وجل- لا ينبغي لعبدي أن يقول أنا خير من يونس بن متى عليه السلام.]]، تواضعاً مع علمه أنه أفضل الأنبياء كما يدل عليه قوله: " أنا سيد ولد آدم ". وقيل إنما نهى عن ذلك قطعاً للجدال والخصام في الأنبياء فيكون مخصوصاً بمثل ذلك لا إذا كان صدور ذلك مأموناً. وقيل إن النهي هو من جهة النبوة فقط لأنها خصلة واحدة لا تفاضل فيها ولا نهي عن التفاضل بزيادة الخصوصيات والكرامات. وقيل إن المراد النهي عن التفضيل بمجرد الأهواء والعصبية، وفي جميع هذه الأقوال ضعف. وعندى أنه لا تعارض بين القرآن والسنة فإن القرآن دل على أن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، وذلك لا يستلزم أنه يجوز لنا أن نفضل بعضهم على بعض، فإن المزايا التي هي مناط التفضيل معلومة عند الله تعالى لا يخفى على الله منها، خافية، وليست بمعلومة عند البشر، فقد يجهل أتباع نبي من الأنبياء بعض مزاياه وخصوصياته فضلاً عن مزايا غيره، والتفضيل لا يجوز إلا بعد العلم بجميع الأسباب التي يكون بها هذا فاضلاً وهذا مفضولاً لاقبل العلم ببعضها أو بأكثرها أو بأقلها، فإن ذلك تفضيل بالجهل وإقدام على أمر لا يعمله الفاعل له وهو ممنوع منه. فلو فرضنا أنه لم يرد إلا القرآن بالإخبار لنا بأن الله فضل بعض أنبيائه على بعض، لم يكن فيه دليل على أنه يجوز للبشر أن يفضلوا بين الأنبياء، فكيف وقد وردت السنة الصحيحة بالنهي عن ذلك. وإذا عرفت هذا علمت أنه لا تعارض بين القرآن والسنة بوجه من الوجوه فالقرآن فيه الإخبار من الله بأنه فضل بعض أنبيائه على بعض، والسنة فيها النهي لعباده أن يفضلوا بين أنبيائه، فمن تعرض للجمع بينهما زاعماً أنهما متعارضان فقد غلط غلطاً بيناً. (منهم) تفصيل للتفضيل المذكور إجمالاً (من كلّم الله) أي بغير واسطة وهو موسى كلمه في الطور، ونبينا سلام الله عليهما كلمه ليلة الإسراء، وقد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال في آدم نبي مكلم، وقد ثبت ما يفيد ذلك في صحيح ابن حبان من حديث أبي ذر، والإلتفات حيث لم يقل كلمنا لتربية المهابة بهذا الاسم الشريف والرمز إلى ما بين التكليمين ورفع الدرجات من التفاوت. (ورفع بعضهم درجات) هذا البعض يحتمل أن يراد به من عظمت منزلته عند الله سبحانه من الأنبياء، ويحتمل أن يراد به نبينا - صلى الله عليه وسلم - لكثرة مزاياه المقتضية لتفضيله، ويحتمل أن يراد به إدريس لأن الله سبحانه أخبرنا بأنه رفعه مكاناً علياً، وقيل إنهم أولو العزم، وقيل إبراهيم. ولا يخفاك أن الله سبحانه أبهم هذا البعض المرفوع فلا يجوز لنا التعرض للبيان له إلا ببرهان من الله سبحانه أو من نبيه - صلى الله عليه وسلم -، ولم يرد ما يرشد إلى ذلك، فالتعرض لبيانه هو من تفسير القرآن الكريم بمحض الرأي، وقد عرفت ما فيه من الوعيد الشديد مع كون ذلك ذريعة إلى التفضيل بين الأنبياء وقد نهينا عنه. وقد جزم كثير من أئمة التفسير أنه نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وأطالوا في ذلك واستدلوا بما خصه الله به من المعجزات ومزايا الكمال وخصال الفضل. وهم بهذا الجزم بدليل لا يدل على المطلوب قد وقعوا في خطرين، وارتكبوا نهيين، وهما تفسير القرآن بالرأي، والدخول في ذرائع التفضيل بين الأنبياء وإن لم يكن ذلك تفضيلاً صريحاً فهو ذريعة إليه بلا شك ولا شبهة، لأن من جزم بأن هذا البعض المرفوع درجات هو النبي الفلاني، انتقل من ذلك إلى التفضيل المنهيّ عنه [[وقد استدل هؤلاء بحديث: بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأُحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجر وغيرها من المعجزات.]]. وقد أغنى الله نبينا المصطفى - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك بما لا يحتاج معه إلى غيره من الفضائل والفواضل، فإياك أن تتقرب إليه - صلى الله عليه وسلم - بالدخول في أبواب نهاك عن دخولها فتعصيه وتسيء وأنت تظن أنك مطيع محسن. (وآتينا عيسى بن مريم البينات) أي الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة من إحياء الأموات وإبراء المرضى من الأكمه والأبرص وغير ذلك (وأيدناه) أي قويناه (بروح القدس) هو جبريل وكان يسير معه حيث سار إلى أن رفعه الله إلى عنان السماء السابعة وقد تقدم الكلام على هذا. (ولو شاء الله ما اقتتل) أي ما اختلف فأطلق الاقتتال وأراد سببه وهو الاختلاف (الذين من بعدهم) أي من بعد الرسل وقيل من بعد موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام لأن الثاني مذكور صريحاً، والأول والثالث وقعت الإشارة إليهما بقوله (منهم من كلم الله) أي لو شاء الله عدم اقتتالهم ما اقتتلوا فمفعول المشيئة محذوف على القاعدة، وقيل أن لا يؤمروا بالقتال وقيل أن يصيرهم إلى الإيمان وكلها متقاربة. (من بعد ما جاءتهم البينات) أي الدلالات الواضحات من الله بما فيه مزدجر لمن هداه الله تعالى ووفقه (ولكن اختلفوا) استثناء من الجملة الشرطية أي ولكن الاقتتال ناشىء عن اختلافهم اختلافاً كثيراً حتى صاروا مللاً مختلفة، والمعنى لو شاء الله الاتفاق لاتفقوا، ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا وفيه إشارة إلى قياس استثنائي. (فمنهم من آمن ومنهم من كفر) أي ثبت على إيمانه أو تعمد الكفر بعد قيام الحجة كالنصارى بعد المسيح (ولو شاء الله) عدم اقتتالهم بعد هذا الاختلاف (ما اقتتلوا) تأكيد (ولكن الله يفعل ما يريد) من توفيق من شاء، وخذلان من شاء، لا رادّ لحكمه ولا مبدل لقضائه فهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا اعتراض عليه في ملكه وفعله. وسأل رجل علياً عن القدر فقال: طريق مظلم فلا تسلكه، فأعاد السؤال فقال: بحر عميق فلا تلجه، فأعاد السؤال فقال: سر الله قد خفي عليك فلا تفتشه.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب