الباحث القرآني

(وإذ قلتم) أي اذكروا يا بني إسرائيل إذ قال أسلافكم، وهذا تذكير لجناية أخرى صدرت منهم وإسناد الفعل إلى فروعهم وتوجيه التوبيخ إليهم لما بينهم وبين أصولهم من الأتحاد. (يا موسى لن نصبر على طعام واحد فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها) هذا تضجر منهم بما صاروا فيه من النعمة والرزق الطيب، والعيش المستلذ، ونزوع ما ألفوه قبل ذلك من خشونة العيش، ويحتمل أن لا يكون هذا منهم تشوقاً إلى ما كانوا فيه وبطراً لما صاروا إليه من المعيشة الرافهة بل هو باب من تعنتهم وشعبة من شعب تعجرفهم كما هو دأبهم وهجيرهم في غالب ما قص علينا من أخبارهم. وقال الحسن البصري أنهم كانوا أهل كراث وأبصال وأعداس فنزعوا إلى مكرهم مكر السوء، واشتاقت طباعهم إلى ما جرت عليه عادتهم فقالوا لن نصبر على طعام واحد أي نوع منه والمراد بالطعام الواحد هو المن والسلوى، وهما وإن كانا طعامين لكن لما كانوا يأكلون أحدهما بالآخر جعلوهما طعاماً واحداً وقيل لتكررهما في كل يوم وعدم وجود غيرهما معهما ولا تبدلة بهما، والبقل كل نبات ليس له ساق والشجر ماله ساق. وقال في الكشاف البقل ما أنبتته الأرض من الخضر والمراد به أطائب البقول التي يأكلها الناس كالنعناع والكرفس والكراث وأشباهها انتهى وجمعه بقول، والقثاء معروف الواحد قثاءة وفيها لغتان كسر القاف وضمها والمشهور الكسر والفوم قيل هو الثوم وقد قرأه ابن مسعود بالثاء وروي نحو ذلك عن ابن عباس، وقيل الفوم الحنطة، وإليه ذهب أكثر المفسرين كما قال القرطبي، وقد رجح هذا ابن النحاس، قال الجوهري: وممن قال بهذا الزجاج والأخفش وقال بالأول الكسائي والنضر بن شميل، وقيل الفوم السنبلة وقيل الحمص وقيل الفوم كان حباً يخبز، والعدس والبصل معروفان، قيل إنما طلبوا هذه الأنواع لأنها تعين على تقوية الشهوة أو لأنهم ملوا من البقاء في التيه، فسألوا هذه الأطعمة التي لا توجد إلا في البلاد، وكان غرضهم الوصول إلى البلاد لا تلك الأطعمة والأول أولى. (قال) يعني موسى عليه السلام لهم وقيل القائل هو الله والأول أولى (أتستبدلون الذي هو أدنى) أي أخس وأردأ، وهو الذي طلبوه والاستبدال وضع الشيء موضع الآخر، قال الزجاج أدق مأخوذ من الدنو أي القرب وقيل من الدناءة وقيل أصله أدون من الدون أي الرديء، والهمزة للإنكار مع التوبيخ، والمراد أتضعون هذه الاشياء التي هي دون موضع المن والسلوى اللذين هما خير منها من جهة الاستلذاذ والوصول من عند الله بغير واسطة أحد من خلقه، والحل الذي لا تطرقه الشبهة وعدم الكلفة بالسعي له والتعب في تحصيله (بالذي هو خير) أي أشرف وأفضل وهو ما هم فيه. (اهبطوا مصراً) أي انزلوا مصراً وانتقلوا من هذا المكان إلى مكان آخر، فالهبوط لا يختص بالنزول من المكان العالي إلى الأسفل بل قد يستعمل في الخروج من أرض إلى أرض مطلقاً قاله الشهاب، وظاهر هذا أن الله أذن لهم بدخول مصر، وقيل أن الأمر للتعجيز والإهانة لأنهم كانوا في التيه لا يمكنهم هبوط مصر لانسداد الطرق عليهم إذ لو عرفوا طريق مصر لما أقاموا أربعين سنة متحيرين لا يهتدون إلى طريق من الطرق، فهو مثل قوله تعالى (كونوا حجارة أو حديداً) قال الخليل وسيبويه أراد مصراً من الأمصار ولم يرد المدينة المعروفة وهو خلاف الظاهر، بل يجوز صرفه مع حصول العلمية والتأنيث لأنه ثلاثي ساكن الأوسط وبه قال الأخفش والكسائي، والمصر في الأصل الحد الفاصل بين الشيئين وقيل المصر البلدة العظيمة. (فإن لكم ما سألتم) يعني من نبات الأرض (وضربت عليهم) أي على فروعهم وأخلافهم (الذلة) أي الهوان وقيل الجزية وزي اليهودية وفيه بعد والأول أولى والمعنى جعلت الذلة محيطة بهم مشتملة عليهم وألزموا الذل والهوان بسبب قتلهم عيسى في زعمهم، والذلة بالكسر الصغار والحقارة والذلة بالضم ضد العجز. (والمسكنة) أي الفقر والفاقة وسمى الفقير مسكيناً لأن الفقر أسكنه وأقعده عن الحركة، ومعنى ضرب الذلة والمسكنة إلزامهم بذلك والقضاء به عليهم قضاء مستمراً لا يفارقهم ولا ينفصل عنهم مع دلالته على أن ذلك مشتمل عليهم اشتمال القباب على من فيها، أو لازم لهم لزوم الدرهم المضرب لسكته. وهذا الخبر الذي أخبر الله تعالى به وهو معلوم في جميع الأزمنة فإن اليهود أقمأهم الله أذل الفرق وأشدهم مسكنة وأكثرهم تصاغراً، لم ينتظم لهم جمع ولا خفقت على رؤسهم راية، ولا ثبتت لهم ولاية بل ما زالوا عبيد العصى في كل زمن، وطروقة كل فحل في كل عصر، ومن تمسك منهم بنصيب من المال وإن بلغ في الكثرة أي مبلغ فهو متظاهر بالفقر مرتد بأثواب المسكنة ليدفع عن نفسه أطماع الطامعين في ماله، إما بحق كتوفير ما عليه من الجزية أو بباطل كما يفعله كثير من الظلمة من التجارىء على الله بظلم من لا يستطيع الدفع عن نفسه، فلا ترى أحداً من أهل الملل أذل ولا أحرص على المال من اليهود كأنهم فقراء وإن كانوا أغنياء مياسير. (وباءوا) رجعوا يقال باء بكذا أي رجع والمراد أنهم رجعوا (بغضب من الله) أو صاروا أحقاء بغضبه، وقال أبو عبيدة والزجاج احتملوه وقيل أقروا به وقيل استحقوه وقيل لازموه، وهو الأوجه يقال بوأته منزلاً فتبوأ أي ألزمته فلزمه (ذلك) أي ما تقدم من ضرب الذلة وما بعده. (بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير الحق) أي بسبب كفرهم بالله وقتلهم الأنبياء بغير حق يحق عليهم اتباعه والعمل به ولم يخرج هذا مخرج التقييد حتى يقال أنه لا يكون قتل الأنبياء بحق في حال من الأحوال لمكان العصمة، بل المراد نعي هذا الأمر عليهم وتعظيمه وأنه ظلم بحت في نفس الأمر، وممكن أن يقال أنه ليس بحق في اعتقادهم الباطل لأن الأنبياء لم يعارضوهم في مال ولا جاه بل أرشدوهم إلى مصالح الدين والدنيا كما كان من شعيا وزكريا ويحيى فإنهم قتلوهم وهم يعلمون ويعتقدون أنهم ظالمون وإنما حملهم على ذلك حب الدنيا واتباع الهوى، عن ابن مسعود قال كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم في آخر النهار. (ذلك) تكرير الإشارة لقصد التأكيد وتعظيم الأمر عليهم وتهويله، ومجموع ما بعد الإشارة الأولى والإشارة الثانية هو السبب لضرب الذلة وما بعده، وقيل يجوز أن يكون الإشارة الثانية إلى الكفر والقتل فيكون ما بعدها سبباً للسبب قاله الزمخشري وهو بعيد جداً (بما عصوا) أمري (وكانوا يعتدون) الاعتداء تجاوز الحد في كل شيء أي يتجاوزون أمري ويرتكبون محارمي. إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب