الباحث القرآني

(الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) يعني أن الغالب أن المائل إلى الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح، والثانية لا يرغب فيها الصلحاء، فإن المشاكلة علة الألفة والتضامّ، والمخالفة سبب للنفرة والافتراق وقد اختلف أهل العلم في معنى هذه الآية على أقوال: الأول: إن المقصود منها تشنيع الزنا وتشنيع أهله، وأنه محرم على المؤمنين، ويكون معنى (الزاني لا ينكح إلا زانية) الوطء لا العقد، أي الزاني لا يزني إلا بزانية والزانية لا تزني إلا بزان، وزاد ذكر المشركة والمشرك، لكون الشرك أعم في المعاصي من الزنا. وردّ هذا الزجاج وقال: لا يعرف النكاح في كتاب الله إلا بمعنى التزويج، ويردّ هذا الرد بأن النكاح بمعنى الوطء ثابت في كتاب الله سبحانه. ومنه قول: (حتى تنكح زوجاً غيره) فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم بأن المراد به الوطء. ومن جملة القائلين بأن معنى الآية الزاني لا يزني إلا بزانية سعيد بن جبير وابن عباس وعكرمة، كما حكاه ابن جرير عنهم وعن ابن عباس قال: ليس هذا بالنكاح ولكن الجماع، لا يزني بها حين تزني إلا زانٍ أو مشرك. الثاني: إن الآية هذه نزلت في امرأة خاصة فتكون. خاصة بها، كما قال الخطابي عن ابن عمرو، قال: كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح وتشترط أن ينفق عليها، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها فأنزل الله هذه الآية، أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه وغيرهم. الثالث: أنها نزلت في رجل من المسلمين فتكون خاصة به، قاله مجاهد. وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كان رجل يقال له مرثد يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة؛ وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها عناق وكانت صديقة له وذكر قصة فيها فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله أنكح عناقاً؟ فلم يرد عليّ شيئاً. حتى نزلت (الزاني لا ينكح إلا زانية) الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا مرثد، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك وحرم ذلك على المؤمنين فلا تنكحه " ا [[أبو داوود كتاب النكاح باب 4.]]، أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي وغيرهم. الرابع: أنها نزلت في أهل الصفة فتكون خاصة بهم قاله أبو صالح. الخامس: إن المراد بالزاني والزانية المحدودان. حكاه الزجاج وغيره عن الحسن قال: وهذا حكم من الله، فلا يجوز لزان محدود أن يتزوج إلا محدودة، وروي نحوه عن إبراهيم النخعي، وبه قال بعض أصحاب الشافعي. قال ابن العربي: وهذا لا يصح نظراً، كما لا يثبت نقلاً. السادس: إن هذه الآية منسوخة بقوله سبحانه: (وأنكحوا الأيامى منكم) قال النحاس: وهذا القول عليه أكثر العلماء، والسابع أن هذا الحكم مؤسس على الغالب العام، والمعنى أن غالب الزناة لا يرغب إلا في الزواج بزانية مثله، وغالب الزواني لا يرغبن إلا في الزواج بزان مثلهن. قال الكرخي: إن الفاسق الخبيث الذي من شأنه الزنا لا يرغب في نكاح المرأة الصالحة، وإنما يرغب في نكاح فاسقة مثله أو في مشركة؛ والفاسقة لا ترغب في نكاح الرجل الصالح بل تنفر عنه، وإنما ترغب فيمن هو من جنسها من الفسقة والمشركين، فهذا على الأعم الأغلب، كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل التقي، وقد يفعل الخير من ليس بتقي، فكذا هاهنا والفرق بين قوله: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) وقوله: (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) أن الكلام يدل على أن الزاني لا يرغب إلا في نكاح الزانية بخلاف الزانية فقد ترغب في نكاح غير الزاني؛ فلا جرم بين ذلك بالكلام الثاني، والمقصود زجر المؤمنين عن نكاح الزواني بعد زجرهم عن الزنا، وهذا أرجح الأقوال، وسبب النزول يشهد له كما تقدم. وعن شعبة مولى ابن عباس قال: " كنت مع ابن عباس فأتاه رجل فقال: إني كنت أتبع امرأة فأصبت منها ما حرم الله عليّ، وقد رزقني الله منها توبة فأردت أن أتزوجها فقال الناس: (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة) فقال ابن عباس: ليس هذا موضع هذه الآية، إنّها كن نساء بغايا متعاليات، يجعلن على أبوابهن رايات يأتيهن الناس، يعرفن بذلك، فأنزل الله هذه الآية. تزوجها فما كان فيها من إثم فعليّ. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا ينكح الزاني المجلود إلا مثله " أخرجه أبو داود وابن المنذر والحاكم وابن أبي حاتم وغيرهم [[أبو داوود كتاب النكاح باب 4 - الإمام أحمد 2/ 324.]]. وعن علي أن رجلاً تزوج امرأة ثم إنه زنى فأقيم عليه الحد، فجاءوا به إلى عليّ ففرق بينه وبين امرأته، وقال: لا تتزوج إلا مجلودة مثلك. وعن مجاهد قال: " كن نساء في الجاهلية بغيات، فكانت منهن امرأة جميلة تدعى أم جميل، فكان الرجل من المسلمين يتزوج إحداهن لتنفق عليه من كسبها فنهى الله سبحانه أن يتزوجهن أحد من المسلمين ". وهو مرسل. وعن ابن عباس أنها نزلت في بغايا معلنات كن في الجاهلية وكن زواني مشركات فحرم الله نكاحهن على المؤمنين. وعنه قال كانت بغايا في الجاهلية، بغايا آل فلان وبغايا آل فلان فقال الله: (الزاني لا ينكح إلا زانية) فأحكم الله ذلك في أمر الجاهلية وروي نحو هذا عن جماعة من التابعين، وعن الضحاك قال: إنما عني بذلك الزنا ولم يعن به التزويج. وعن ابن عباس في هذه الآية قال: " الزاني من أهل القبلة لا يزني إلا بزانية مثله من أهل القبلة، أو مشركة من غير أهل القبلة، والزانية من أهل القبلة لا تزني إلا بزان مثلها من أهل القبلة، أو مشرك من غير أهل القبلة، وحرم الزنا على المؤمنين. وقد اختلف في جواز تزوج الرجل بامرأة قد زنى هو بها؛ فقال الشافعي وأبو حنيفة بجواز ذلك، وروي عن ابن عباس وعمر وابن مسعود وجابر أنه لا يجوز، قال ابن مسعود: " إذا زنى الرجل بالمرأة ثم نكحها بعد ذلك فهما زانيان أبداً " وبه قال مالك. (وحرم ذلك) أي الزنا أو نكاح الزواني لما فيه من التشبه بالفسقة والتعرض للتهمة والطعن في النسب والتسبب لسوء المقالة وغير ذلك من المفاسد، ومجالسة الخطائين كم فيها من التعرض لاقتراف الآثام فكيف بمزاوجة البغايا والقحاب وقيل هو مكروه فقط؛ وعبر بالتحريم عن كراهة التنزيه مبالغة في الزجر. (على المؤمنين) الأخيار الأبرار فعلى المؤمن أن لا يدخل نفسه تحت هذه العادة ويتصون عنها، وقدمت الزانية على الزاني أولاً ثم قدم عليها ثانياً، لأن تلك الآية سيقت لعقوبتهما على ما جنيا، والمرأة هي المادة التي منها نشأت تلك الجناية، لأنها لو لم تطمع الرجل ولم تومض له ولم تمكنه لم يطمع ولم يتمكن، فلما كانت أصلاً في ذلك بدئ بذكرها. وأما الثانية فمسوقة لذكر النكاح والرجل أصل فيه لأنه الخاطب ومنه بدئ الطلب.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب