الباحث القرآني

(فلما وضعتها) التأنيث باعتبار ما علم من المقام أن الذي في بطنها أنثى أو لكونه أنثى في علم الله أو بتأويل ما في بطنها بالنفس أو النسمة أو نحو ذلك (قالت) يعني حنة (رب إني وضعتها أنثى) إنما قالت هذه المقالة لأنه لم يكن يقبل في النذر إلا الذكر دون الأنثى فكأنها تحسرت وتحزنت لما فاتها من ذلك الذي كانت ترجوه وتقدره. (والله أعلم بما وضعت) بضم التاء فيكون من جملة كلامها ويكون متصلاً بما قبله وفيه معنى التسليم لله والخضوع والتنزيه له أن يخفي عليه شيء، وقرأ الجمهور وضعت بسكون التاء فيكون من كلام الله سبحانه على جهة التعظيم لما وضعته والتفخيم لشأنه والتجهيل لها حيث وقع منها التحسر والتحزن، مع أن هذه الأنثى التي وضعتها سيجعلها الله وابنها آية للعالمين وعبرة للمعتبرين ويختصها بما لم يختص به أحداً. وقرأ ابن عباس وضعت بكسر التاء على أنه خطاب من الله سبحانه لها أي أنك لا تعلمين قدر هذا الموهوب وما علم الله فيه من الأمور التي تتقاصر عنها الأفهام، وتصاغر عندها العقول، وإن له شأناً عظيماً. (وليس الذكر كالأنثى) أي ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وضعت، فإن غاية ما أرادت من كونه ذكراً أن يكون نذراً خادماً للكنيسة، وأمر هذه الأنثى عظيم وشأنها فخيم، فهي خير منه وإن لم تصلح للسدانه فإن فيها مزايا أخر لا توجد في الذكر، وعلى هذا: الكلام على ظاهره ولا قلب فيه، وهذه الجملة اعتراضية مبينة لما في الجملة الأولى من تعظيم الموضوع ورفع شأنه وعلو منزلته، واللام في الذكر والأنثى للعهد. هذا على قراءة الجمهور، وأما على قراءة أبي بكر وابن عامر فيكون قوله (وليس الذكر كالأنثى) من جملة كلامها ومن تمام تحسرها وتحزنها أي ليس الذكر الذي أردت أن يكون خادماً ويصلح للنذر كالأنثى التي لا تصلح لذلك، بل هو خير منها لأنه يصلح لمقصودي دونها، وكأنها اعتذرت إلى ربها من وجودها لها على خلاف ما قصدت، وعلى هذا في الكلام قلب، وكانت مريم من أجمل النساء وأفضلهن في وقتها. (وإني سميتها مريم) تعني العابدة مقصودها من هذا الإخبار بالتسمية التقرب إلى الله سبحانه، وأن يكون فعلها مطابقاً لمعنى اسمها فإن معنى مريم خادم الرب بلغتهم، فهي وإن لم تكن صالحة لخدمة الكنيسة، فذلك لا يمنع أن تكون من العابدات [[وقال ابن إسحاق: كان السبب في نذرها أنه أمسك عنها الولد حتى أسنت، فرأت طائراً يطعم فرخاً -[224]- له، فدعت الله أن يهب لها ولداً، وقالت: اللهم لك علي إن رزقتني ولداً أن أتصدق به على بيت المقدس، فحملت بمريم، وهلك عمران، وهي حامل.]]. (وإني أعيذها) أي أمنعها وأجيرها (بك وذريتها من الشيطان الرجيم). عن أبي هريرة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول " ما من بني آدم من مولود إلا نخسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من نخسه إياه إلا مريم وابنها متفق عليه [[مسلم 2366، البخاري 1550. صحيح الجامع/5661.]] وللبخاري عنه " كل ابن آدم يطعن الشيطان في جنبيه بأصبعيه حين يولد غير عيسى بن مريم ذهب ليطعن فطعن في الحجاب " وللحديث ألفاظ عنه وعن غيره. والرجيم المردود، وذكر في القاموس الطرد من معاني الرجم، وأصله المرمي بالحجارة، طلبت الإعاذة لها ولولدها من الشيطان وإغوائه. وفي المقام إشكال قوي لم أر من نبه عليه من المفسرين، وحاصله أن قولها وإني أعيذها بك معطوف على ما قبله الواقع في حيز لما وضعتها، فيقتضي أن طلب هذه الإعاذة إنما وقع بعد الوضع، فلا يترتب عليه حفظ مريم من طعن الشيطان وقت نزولها وخروجها من بطن أمها فلا يتلاقى الحديث مع الآية، بل مقتضى ظاهر الآية أن إعاذتها من الشيطان إنما كان بعد وضعها وهذا لا ينافي تسلط الشيطان عليها بطعنها ونخسها وقت ولادتها الذي هو عادته فإن عادته طعن المولود وقت خروجه من بطن أمه، تأمل، قاله سليمان الجمل. فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب