الباحث القرآني

هو الذي أنزل عليك الكتاب) أي القرآن واللام للعهد وقدم الظرف وهو عليك لما يفيده من الاختصاص (منه آيات محكمات) أي بينات مفصلات أحكمت عبارتها من احتمال التأويل والاشتباه، كأنه تعالى أحكمها فمنع الخلق من التصرف فيها لظهورها ووضوح معناها. (هن أم الكتاب) أي أصله الذي يعول عليه في الأحكام ويعمل به في الحلال والحرام ويرد ما خالفه إليه، وهذه الجملة صفة لما قبلها، ولم يقل أمهات لأن الآيات كلها في تكاملها واجتماعها كالآية الواحدة أو لأنه واقع موقع الجمع أو لأنه بمعنى أصل الكتب والأصل يوحد. (وأخر متشابهات) لا تفهم معانيها يعني أن لفظه يشبه لفظ غيره، ومعناه يخالف معناه، كأوائل السور، وأُخر جمع أخرى وإنما لم تنصرف لأنه عدل بها عن الآخر لأن أصلها أن يكون كذلك، وقال أبو عبيد لم تنصرف لأن واحدها لا ينصرف في معرفة ولا نكرة وأنكر ذلك المبرد. وقد اختلف العلماء في تفسير المحكمات والمتشابهات على أقوال، فقيل أن المحكم ما عرف تأويله وفهم معناه وتفسيره، والمتشابه ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، ومن القائلين بهذا جابر بن عبد الله والشعبي وسفيان الثوري، قالوا وذلك نحو الحروف المقطعة في أوائل السور. وقيل المحكم ما لا يحتمل إلا وجهاً واحداً، والمتشابه ما يحتمل وجوهاً، فإذا ردت إلى وجه واحد وأبطل الباقي صار المتشابه محكماً. وقيل إن المحكم ناسخه وحرامه وحلاله وفرائضه وما يؤمن به ويعمل عليه، والمتشابه منسوخه وأمثاله وأقسامه وما يؤمن به ولا يعمل عليه روي هذا عن ابن عباس. وقيل المحكم الناسخ والمتشابه المنسوخ، روي هذا عن ابن مسعود وقتادة والربيع والضحاك. وقيل المحكم الذي ليس فيه تصريف ولا تحريف عما وضع له، والمتشابه ما فيه تصريف وتحريف وتأويل، قاله مجاهد وابن إسحق، قال ابن عطية وهذا أحسن الأقوال. وقيل المحكم ما كان قائماً بنفسه لا يحتاج إلى أن يرجع فيه إلى غيره، والمتشابه ما يرجع فيه إلى غيره، قال النحاس وهذا أحسن ما قيل في المحكمات والمتشابهات. قال القرطبي ما قاله النحاس يبين ما اختاره ابن عطية وهو الجاري على وضع اللسان وذلك أن المحكم اسم مفعول من أحكم والإحكام الإتقان، ولا شك في أن ما كان واضح المعنى لا إشكال فيه ولا تردد إنما يكون كذلك لوضوح مفردات كلماته، واتقان تركيبها، ومتى اختل أحد الأمرين جاء التشابه والإشكال. وقال ابن خوازمنداد: للمتشابه وجوه ما اختلف فيه العلماء أي الآيتين نسخت الأخرى كما في الحامل المتوفى عنها زوجها فإن من الصحابة من قال: إن آية وضع الحمل نسخت آية الأربعة الأشهر والعشر. ومنهم من قال بالعكس، وكاختلافهم في الوصية للوارث وكتعارض الآيتين أيهما أولى أن تقدم إذا لم يعرف النسخ ولم توجد شرائطه، وكتعارض الأخبار وتعارض الأقيسة، هذا معنى كلامه. والأولى أن يقال إن المحكم هو الواضح المعنى الظاهر الدلالة إما باعتبار نفسه أو باعتبار غيره، والمتشابه ما لا يتضح معناه أو لا يظهر دلالته لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره. وإذا عرفت أن الاختلاف الذي قدمناه ليس كما ينبغي، وذلك لأن أهل كل قول عرفوا المحكم ببعض صفاته، وعرفوا المتشابه بما يقابلها. وبيان ذلك أن أهل القول الأول جعلوا المحكم ما وجد إلى علمه سبيل. والمتشابه ما لا سبيل إلى علمه، ولا شك أن مفهوم المحكم والمتشابه أوسع دائرة مما ذكروه، فإن مجرد الخفاء أو عدم الظهور أو الاحتمال أو التردد يوجب التشابه. وأهل القول الثاني خصوا المحكم بما ليس فيه احتمال، والمتشابه بما فيه احتمال، ولا شك أن هذا بعض أوصاف المحكم والمتشابه لا كلها. وهكذا أهل القول الثالث فإنهم خصوا كل واحد من القسمين بتلك الأوصاف المعينة دون غيرها. وأهل القول الرابع خصوا كل واحد منهما ببعض الأوصاف التي ذكرها أهل القول الثالث، والأمر أوسع مما قالوه جميعاً. وأهل القول الخامس خصوا المحكم بوصف عدم التصريف والتحريف، وجعلوا المتشابه مقابله، وأهملوا ما هو أهم من ذلك مما لا سبيل إلى علمه من دون تصريف وتحريف كفواتح السور المقطعة. وأهل القول السادس خصوا المحكم بما يقوم بنفسه، والمتشابه بما لا يقوم بها، وأن هذا هو بعض أوصافهما. وصاحب القول السابع وهو ابن خوازمنداد عمد إلى صورة الوفاق فجعلها محكماً، وإلى صورة الخلاف والتعارض فجعلها متشابهاً فأهمل ما هو أخص أوصاف كل واحد منهما من كونه باعتبار نفسه مفهوم المعنى أو غير مفهوم. وعن ابن عباس قال المحكمات ثلاث آيات من آخر سورة الأنعام (قل تعالوا) والآيتان بعدها، وفي رواية عنه قال: من هنا (قل تعالوا) إلى ثلاث آيات، ومن هنا (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) إلى ثلاث آيات بعدها. وأقول: رحم الله ابن عباس ما أقل جدوى هذا الكلام المنقول عنه، فإن تعيين ثلاث آيات أو عشر أو مائة من جميع آيات القرآن ووصفها بأنها محكمة ليس تحته من الفائدة شيء فالمحكمات هي أكثر القرآن على جميع الأقوال حتى على قوله المنقول عنه قريباً من أن المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمن به، والمتشابه ما يقابله، فما معنى تعيين تلك الآيات من آخر سورة الأنعام. وقيل المحكمات ما أطلع الله عباده على معناه، والمتشابه ما استأثر الله بعلمه، فلا سبيل لأحد إلى معرفته نحو الخبر عن أشراط الساعة. وقيل المحكم سائر القرآن، والمتشابه هي الحروف المقطعة في أوائل السور، وقيل إن المحكم ما لم يتكرر ألفاظه، والمتشابه ما تكررت ألفاظه، وقيل غير ذلك وللسلف أقوال كثيرة هي راجعة إلى ما قدمنا في أول هذا البحث. (فأما الذين في قلوبهم زيغ) أي ميل عن الحق كوفد نجران وغيرهم، والزيغ الميل ومنه زاغت الشمس وزاغت الأبصار. ويقال زاغ يزيغ زيغاً إذا ترك القصد، ومنه قوله تعالى (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) وزاغ وزال ومال متقاربة لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان من حق إلى باطل، وقال الراغب: الزيغ الميل عن الاستقامة إلى أحد الجانبين. (فيتبعون ما تشابه منه) أي يحيلون المحكم على المتشابه والمتشابه على المحكم، وهذه الآية تعم كل طائفة من الطوائف الخارجة عن الحق، وسبب النزول نصارى نجران فيتعلقون بالمتشابه من الكتاب فيشككون به على المؤمنين ويجعلونه دليلاً على ما هم فيه من البدعة المائلة عن الحق كما تجده في كل طائفة من طوائف البدعة، فإنهم يتلاعبون بكتاب الله تلاعباً شديداً ويوردون منه لتنفيق جهلهم ما ليس من الدلالة في شيء. (ابتغاء الفتنة) أي طلباً منهم لفتنة الناس في دينهم والتلبس عليهم وإفساد ذوات بينهم لا تحرياً للحق (وابتغاء تأويله) أي تفسيره على الوجه الذي يريدونه ويوافق مذاهبهم الفاسدة. قال الزجاج المعنى أنهم طلبوا تأويل بعثهم وإحيائهم فأعلم الله عز وجل أن تأويل ذلك ووقته لا يعلمه إلا الله، الدليل على ذلك قوله (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله) أي يوم يرون ما يوعدون من البعث والنشور والعذاب (يقول الذين نسوه) أي تركوه (قد جاءت رسل ربنا بالحق) أي قد رأينا تأويل ما أنبأتنا به الرسل. وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة قالت تلا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم (هو الذي أنزل عليك الكتاب إلى قوله أولوا الألباب) قالت قال " إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم " وفي لفظ " فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك سماهم الله فاحذروهم " هذا لفظ البخاري [[مسلم 2665 البخاري 985.]]. ولفظ ابن جرير وغيره فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه والذين يجادلون فيه، فهم الذين عنى الله فلا تجالسوهم وأخرج الطبراني وأحمد والبيهقي وغيرهم عن أبي أمامة عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: هم الخوارج [[ابن كثير 1/ 346.]]. وقال ابن القيم في الإعلام إذا سئل أحد عن تفسير آية من كتاب الله أو سنة عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فليس له أن يخرجها عن ظاهرها بوجوه التأويلات الفاسدة لموافقة نحلته وهواه، ومن فعل ذلك استحق المنع من الإفتاء والحجر عليه وهذا الذي ذكرناه هو الذي صرح به أئمة الكلام قديماً وحديثاً. وقال أبو المعالي الجويني في الرسالة النظامية ذهب أئمة السلف إلى الإنكفاف عن التأويل وإجراء الظواهر على مواردها وتفويض معانيها إلى الرب تعالى، والذي نرتضيه رأياً وندين لله به إتباع سلف الأمة. وقد درج صحابة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها وهم صفوة الإسلام والمثقلون بأعباء الشريعة وكانوا لا يألون جهداً في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها وتعليم الناس ما يحتاجون إليه منها، ولو كان تأويل هذه الظواهر مسوغاً أو محبوباً لأوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع الشريعة، وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على الإضراب عن التأويل كان ذلك قاطعاً بأنه الوجه المتبع، فحق على ذي الدين أن يعتقد تنزه الباري عن صفات المحدثين ولا يخوض في تأويل المشكلات ويكل معناها إلى الرب تعالى. وقال الغزالي: الإيمان المستفاد من الكلام ضعيف والإيمان الراسخ إيمان العوام الحاصل في قلوبهم في الصبا بتواتر السماع وبعد البلوغ بقرائن يتعذر التعبير عنها، وقد اتفقت كلمة الأئمة الأربعة على ذم الكلام وأهله. وقال بعض أهل العلم كيف لا يخشى الكذب على الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من يحمل كلامه على التأويلات المستنكرة والمجازات المستكرهة التي هي بالألغاز والأحاجي أولى منها بالبيان والهداية، وهل يأمن على نفسه أن يكون ممن قال الله فيهم (ولكم الويل مما تصفون) انتهى. ولو علم المتأولون كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - بالتأويلات التي لم يردها ولم يدل عليها كلامه، أي باب شر فتحوا على الأمة بالتأويلات الفاسدة وأي بناء للإسلام هدموا بها وأي معاقل وحصون استباحوها، كان أحدهم لأن يخر من السماء إلى الأرض أحب إليه أن يتعاطى شيئاً من ذلك، فكل صاحب باطل قد جعل ما تأوله المتأولون عذراً له فيما تأوله هو وقال ما الذي حرم على التأويل وأباحه لكم؟ فتأولت الطائفة المنكرة للمعاد نصوص المعاد، وكان تأويلهم من جنس تأويل منكري الصفات بل أقوى منه لوجوه عديدة يعرفها من وازن بين التأويلين، وكذلك فعلت الرافضة في أحاديث فضائل الخلفاء الراشدين وغيرهم من الصحابة، وكذلك فعلت المعتزلة في تأويل أحاديث الرؤية والشفاعة، وكذلك القدرية في نصوص القدر، وكذلك الحرورية وغيرهم من الخوارج في النصوص التي تخالف مذاهبهم وكذلك القرامطة والباطنية والمتصوفة طردت الباب وحملت الوادي على القرى وتأولت الدين كله. فأصل خراب الدين والدنيا إنما هو من التأويل الذي لم يرده الله ورسوله بكلامه ولا دل عليه أنه مراده، وهل اختلف الأمم على أنبيائهم إلا بالتأويل، وهل وقعت في الأمة فتنة صغيرة أو كبيرة إلا بالتأويل، فمن بابه دخل إليها، وهل أريقت دماء المسلمين في الفتن إلا بالتأويل، وليس هذا مختصاً بدين الإسلام فقط بل سائر أديان الرسل لم تزل على الإستقامة والسداد حتى دخلها التأويل، فدخل عليها من الفساد ما لا يعلمه إلا رب العباد. وقد تواترت البشارات بصحة نبوة محمد - صلى الله عليه وسلم - في الكتب المتقدمة ولكن سلطوا عليها التأويلات فافسدوها كما أخبر سبحانه عنهم من التحريف والتبديل والكتمان، والتحريف: تحريف المعاني بالتأويلات التي لم يردها المتكلم، والتبديل تبديل لفظه بلفظ آخر والكتمان جحده، وهذه الأودات الثلاثة منها غيرت الأديان والملل. وإذا تأملت دين المسيح وجدت النصارى إنما تطرقوا إلى فساده بالتأويل بما لا يكاد يوجد مثله في شيء من الأديان. ودخلوا إلى ذلك من باب التأويل، وكذلك زنادقة الأمم جميعهم إنما تطرقوا إلى فساد ديانات الرسل بالتأويل، ومن بابه دخلوا وعلى أساسه بنوا وعلى نقطه حطوا. والمتأولون أصناف عديدة بحسب الباعث لهم على التأويل وبحسب قصور أفهامهم ورقودها وأعظمهم توغلاً في التأويل الباطل من قصد قصده وفهمه كما شاء قصده وقصر فهمه كان تأويله أشد إنحرافاً. وبالجملة فافتراق أهل الكتابين وافتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة إنما أوجبه التأويل، وإنما أريقت دماء السلمين يوم الجمل وصفين والحرة وفتنة ابن الزبير وهلم جرا بالتأويل، وإنما دخل أعداء الإسلام من المتفلسفة والقرامطة والإسماعيلية والنصرية من باب التأويل. فما امتحن الإسلام بمحنة إلا وسببها التأويل، فإن محنته إما من المتأولين وإما أن تسلط عليهم الكفار بسبب ما ارتكبوا من التأويل أو خالفوا في ظاهر التنزيل، وتعللوا بالأباطيل. وما الذي أراق دماء بني جذيمة وقد أسلموا غير التأويل حتى رفع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يديه فتبرأ إلى الله من فعل المتأول لقتلهم وأخذ أموالهم. وما الذي أوجب تأخر الصحابة رضي الله عنهم يوم الحديبية عن موافقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير التأويل حتى اشتد غضبه لتأخرهم عن طاعته حتى رجعوا عن ذلك التأويل؟. وما الذي سفك في دم أمير المؤمنين عثمان ظلماً وعدواناً، وأوقع الأمة فيما أوقعها فيه حتى الآن غير التأويل؟. وما الذي سفك دم عمار بن ياسر وأصحابه غير التأويل. وما الذي أراق دم ابن الزبير وحجر بن عدي وسعيد بن جبير وغيرهم من سادات الأمة غير التأويل؟. وما الذي أريقت عليه دماء العرب في فتنة أبي مسلم غير التأويل. وما الذي جرد الإمام أحمد بين العقابين وضرب السياط حتى عجت الخليقة إلى ربها غير التأويل؟. وما الذي قتل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي وخلد خلقاً من العلماء في السجون حتى ماتوا غير التأويل؟. وما الذي سلط سوق التتار على دار الإسلام حتى ردوا أهلها غير التأويل؟. وهل دخلت طائفة الإلحاد من أهل الحلول والاتحاد إلا من باب التأويل؟. وهل فتح باب التأويل إلا مضادة ومناقضة لحكم الله في تعليمه عباده البيان الذي امتن في كتابه على الإنسان بتعليمه إياه، فالتأويل بالألغاز والأحاجي والأغلوطات أولى منه بالبيان، وهو فرق بين دفع حقائق ما أخبرت به الرسل عن الله وأمرت به بالتأويلات الباطلة المخالفة له، وبين رده وعدم قبوله، ولكن هذا رد جحود ومعاندة وذاك رد خداع ومصانعة. قال أبو الوليد بن رشد المالكي في كتابه المسمى بالكشف عن مناهج الأدلة وقد ذكر التأويل وجنايته على الشريعة إلى أن قال: (وأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) وهؤلاء أهل الجدل والكلام وأشد ما عرض على الشريعة من هذا الصنف أنهم تأولوا كثيراً مما ظنوه ليس على ظاهره وقالوا إن هذا التأويل هو المقصود به، وإنما أمر الله به في صورة المتشابه إبتلاء لعباده واختباراً لهم، ونعوذ بالله من هذا الظن بالله، بل نقول إن كتاب العزيز إنما جاء معجزاً من جهة الوضوح والبيان فما أبعد من مقصد الشارع من ْقال فيما ليس بمتشابه أنه متشابه، ثم أول ذلك المتشابه بزعمه، وقال لجميع الناس إن فرضكم هو اعتقاد هذا التأويل مثل ما قالوه في آية الاستواء على العرش وغير ذلك مما قالوا إن ظاهره متشابه. قال فهذه هي حالة الفرق الحادثة في هذه الشريعة وذلك أن كل فرقة منهم تأولت غير التأويل الذي تأولته الفرقة الأخرى، وزعمت أنه هو الذي قصده الشرع حتى تمزق الشرع كل ممزق، وبعد جداً عن موضوعه الأول. ولما علم صاحب الشرع صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله أن مثل هذا يعرض ولا بد في شريعته قال - صلى الله عليه وسلم - " ستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة [[أبو داوود السنن 1، ابن ماجه كتاب الفتن باب 17.]] " يعني بالواحدة التي سلكت ظاهر الشرع ولم تؤوله. وأنت إذا تأملت ما عرض في هذه الشريعة في هذا الوقت من الفساد والعارض فيها من قبل التأويل تبينت أن هذا المثال صحيح، وأول من غير هذا الدواء الأعظم هم الخوارج ثم المعتزلة ثم الأشعرية ثم الصوفية ثم جاء أبو حامد فطم الوادي على القرى، هذا كلامه بلفظه. ولو ذهبنا نستوعب ما جناه التأويل على الدنيا والدين وما نال الأمم قديماً وحديثاً بسببه من الفساد لاستدعى ذلك عدة أسفار والله المستعان. (وما يعلم تأويله إلا الله) التأويل يكون بمعنى التفسير كقولهم تأويل هذه الكلمة على كذا أي تفسيرها ويكون بمعنى ما يؤول الأمر إليه، واشتقاقه من آل الأمر إلا كذا يؤول إليه أي صار وأولته تأويلاً أي صيرته، وهذه الجملة حالية أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله، والحال أنه ما يعلم تأويله إلا الله. وقد اختلف أهل العلم في قوله (والراسخون في العلم يقولون آمنا به) هل هو كلام مقطوع عما قبله أو معطوف على ما قبله فتكون الواو للجمع، فالذي عليه الأكثر أنه مقطوع عما قبله وأن الكلام تم عند قوله: (إلا الله) وهذا قول ابن عمر وابن عباس وعائشة وعروة بن الزبير وعمر بن عبد العزيز وأبي الشعثاء وأبي نهيك وغيرهم، وهو مذهب الكسائي والفراء والأخفش وأبي عبيد وحكاه ابن جرير الطبري عن مالك، واختاره، وحكاه الخطابي عن ابن مسعود وأبي بن كعب. قال: وإنما روي عن مجاهد أنه نسق الراسخين على ما قبله وزعم أنهم يعملونه، قال واحتج له بعض أهل اللغة فقال معناه والراسخون في العلم يعلمونه قائلين آمنا به، وزعم أن موضع يقولون نصب على الحال، وعامة أهل اللغة ينكرونه ويستبعدونه لأن العرب لا تضمر الفعل والمفعول معاً، ولا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل، فإذا لم يظهر فعل لم يكن حالاً، ولو جاز ذلك لجاز أن يقال عبد الله راكباً يعني أقبل عبد الله راكباً، وإنما يجوز ذلك مع ذكر الفعل كقوله عبد الله يتكلم يصلح بين الناس فكان يصلح حالاً، فقول عامة العلماء مع مساعدة مذاهب النحويين له أولى من قول مجاهد وحده. وأيضاً فإنه لا يجوز أن ينفي الله سبحانه شيئاً عن الخلق وينسبه لنفسه فيكون له في ذلك شريك ألا ترى قوله عز وجل (قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله) وقوله: (لا يجليها لوقتها إلا هو) وقوله: (كل شيء هالك إلا وجهه) فكان هذا كله مما استأثر الله سبحانه به لا يشركه فيه غيره وكذلك قوله تعالى (وما يعلم تأويله إلا الله) ولو كانت الواو في قوله (والراسخون) للنسق لم يكن لقوله (كل من عند ربنا) فائدة انتهى. قال القرطبي ما حكاه الخطابي من أنه لم يقل بقول مجاهد غيره فقد روي عن ابن عباس أن الراسخين معطوف على اسم الله عز وجل وأنهم داخلون في علم المتشابه، وأنهم مع علمهم به يقولون آمنا به، وقاله الربيع ومحمد بن جعفر بن الزبير والقاسم بن محمد وغيرهم ويقولون على هذا التأويل نصب على الحال من الراسخين. ولا يخفاك أن ما قاله الخطابي في وجه امتناع كون قوله (يقولون آمنا به) حالاً من أن العرب لا تذكر حالاً إلا مع ظهور الفعل إلى آخر كلامه لا يتم إلا على فرض أنه لا فعل هنا، وليس الأمر كذلك فالفعل مذكور وهو قوله (وما يعلم تأويله) ولكنه جاء الحال من المعطوف وهو قوله (الراسخون) دون المعطوف عليه وهو قوله (إلا الله) وذلك جائز في اللغة العربية وقد جاء مثله في الكتاب العزيز، ومنه قوله تعالى (للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم) إلى قوله (والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا) الآية وكقوله (وجاء ربك والملك صفاً صفاً) أي وجاءت الملائكة صفاً صفاً. ولكن ههنا مانع آخر من جعل ذلك حالاً وهو أن تقييد علمهم بتأويله بحال كونهم قائلين آمنا به ليس بصحيح فإن الراسخين في العلم على القول بصحة العطف على الاسم الشريف يعلمونه في كل حال من الأحوال إلا في هذه الحالة الخاصة، فاقتضى هذا أن جعل قوله (يقولون آمنا به) حالاً غير صحيح، فتعين المصير إلى الاستئناف والجزم بأن قوله (والراسخون في العلم) مبتدأ خبره يقولون. قال البغوي وهذا أقيس بالعربية وأشبه بظاهر الآية. ومن جملة ما استدل به القائلون بالعطف أن الله سبحانه مدحهم بالرسوخ في العلم فكيف يمدحهم وهم لا يعلمون ذلك، ويجاب عن هذا بأن تركهم لطلب علم ما لم يأذن الله به ولا جعل لخلقه إلى علمه سبيلاً هو من رسوخهم، لأنهم علموا أن ذلك مما استأثر الله بعلمه، وأن الذين يتبعونه هم الذين في قلوبهم زيغ، وناهيك بهذا من رسوخ. وأصل الرسوخ في لغة العرب الثبوت في الشيء، وكل ثابت راسخ وأصله في الأجرام أن يرسخ الجبل أو الشجر في الأرض، فهؤلاء ثبتوا في امتثال ما جاءهم من الله من ترك اتباع المتشابه وإرجاع علمه إلى الله سبحانه. ومن أهل العلم من توسط بين المقالين فقال التأويل يطلق ويراد به في القرآن شيئان (أحدهما) التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤل أمره إليه ومنه قوله (هذا تأويل رؤياي) ومنه قوله (هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله) أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد، فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمها إلا الله عز وجل، ويكون قوله (والراسخون في العلم) مبتدأ، ويقولون آمنا به خبره. وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله (نبئنا بتأويله) أي تفسيره فالوقف على (والراسخون في العلم) لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه، وعلى هذا فيكون (يقولون آمنا به) حالاً منهم. ورجح ابن فورك أن الراسخين يعلمون تأويله، وأطنب في ذلك، وهكذا جماعة من محققي المفسرين رجحوا ذلك. قال القرطبي: قال شيخنا أحمد بن عمرو هو الصحيح فإن تسميتهم راسخين يقضي بأنهم يعلمون أكثر من المحكم الذي يستوى في علمه جميع من يفهم كلام العرب، وفي أي شيء هو رسوخهم إذا لم يعلموا إلا ما يعلم الجميع، لكن المتشابه يتنوع فمنه ما لا يعلم البتة كأمر الروح والساعة مما استأثر الله بعلمه وهذا لا يتعاطى علمه أحد، فمن قال من العلماء الحذاق بأن الراسخين لا يعلمون علم التشابه، فإنما أراد هذا النوع، وأما ما يمكن حمله على وجوه في اللغة فيتأول ويعلم تأويله المستقيم ويزال ما فيه من تأويل غير مستقيم انتهى. وقال الرازي: لو كان الراسخون في العلم عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه فإنهم لما عرفوه بالدلائل صار الإيمان به كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به بخصوصه مزيد مدح. وأقول هذا الاضطراب الواقع في مقالات أهل العلم أعظم أسبابه اختلاف أقوالهم في تحقيق معنى المحكم والمتشابه، وقد قدمنا ما هو الصواب في تحقيقهما ونزيدك ههنا إيضاحاً وبياناً فنقول: إن من جملة ما يصدق عليه تفسير المتشابه الذي قدمناه فواتح السور فإنها، غير متضحة المعنى ولا ظاهرة الدلالة، لا بالنسبة إلى أنفسها لأنه لا يدري من يعلم بلغة العرب ويعرف عرف الشرع ما معنى (الم، المر، حم، طس طسم) ونحوها لأنه لا يجد بيانها في شيء من كلام العرب ولا من كلام الشرع فهي غير متضحة المعنى لا باعتبارها في نفسها ولا باعتبار أمر آخر يفسرها ويوضحها، ومثل ذلك الألفاظ المنقولة عن لغة العجم والألفاظ العربية التي لا يوجد في لغة العرب ولا في عرف الشرع ما يوضحها، وهكذا ما استأثر الله بعلمه كالروح وما في قوله (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام) إلى آخر الآية ونحو ذلك. وهكذا ما كانت دلالته غير ظاهرة لا باعتبار نفسه ولا باعتبار غيره كورود الشيء محتملاً لأمرين احتمالاً لا يترجح أحدهما على الآخر باعتبار ذلك الشيء في نفسه، وذلك كالألفاظ المشتركة مع عدم ورود ما يبين المراد من معنى ذلك المشترك من الأمور الخارجة، وكذلك ورود دليلين متعارضين تعارضاً كلياً بحيث لا يمكن ترجيح أحدهما على الآخر باعتبار نفسه ولا باعتبار أمر آخر يرجحه. وأما ما كان واضح المعنى باعتبار نفسه بأن يكون معروفاً في لغة العرب أو في عرف الشرع أو باعتبار غيره وذلك كالأمور المجملة التي ورد بيانهما في موضع آخر في الكتاب العزيز أو السنة المطهرة، والأمور التي تعارضت دلالتها ثم ورد ما يبين راجحها من مرجوحها في موضع آخر من الكتاب أو السنة أو سائر المرجحات المعروفة عند أهل الأصول المقبولة عند أهل الإنصاف، فلا شك ولا ريب أن هذه من الحكم لا من المتشابه، ومن زعم أنها من المتشابه فقد اشتبه عليه الصواب. فاشدد يديك على هذا فإنك تنجو به من مضايق ومزالق وقعت للناس في هذا المقام، حتى صارت كل طائفة تسمى ما دلّ على ما تذهب إليه محكماً، وما دلّ على ما يذهب إليه ما يخالفها متشابها، سيما أهل علم الكلام، ومن أنكر هذا فعليه بمؤلفاتهم. واعلم أنه قد ورد في الكتاب العزيز ما يدل على أنه جميعه محكم، لكن لا بهذا المعنى الوارد في الآية هذه بل بمعنى آخر، ومن ذلك قوله تعالى (كتاب أحكمت آياته) وقوله (تلك آيات الكتاب الحكيم) والمراد بالمحكم بهذا المعنى أنه صحيح الألفاظ قويم المعنى، فائق في البلاغة والفصاحة على كل كلام. وورد أيضاً ما يدل على أنه جميعه متشابه لكن لا بهذا المعنى الوارد في هذه الآية التي نحن بصدد تفسيرها، بل بمعنى آخر، ومنه قوله (كتاباً متشابهاً) والمراد بالمتشابه بهذا المعنى أنه يشبه بعضه بعضاً في الصحة والفصاحة والحسن والبلاغة وقد ذكر أهل العلم لورود المتشابه في القرآن فوائد منها أنه يكون في الوصول إلى الحق مع وجودها فيه مزيد صعوبة ومشقة، وذلك يوجب مزيد الثواب للمستخرجين للحق وهم الأئمة المجتهدون. وقد ذكر الزمخشري والرازي وغيرهما وجوهاً هذا أحسنها، وبقيتها لا تستحق الذكر ههنا. وأخرج ابن جرير والحاكم وصححه عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: كان الكتاب الأول ينزل من باب واحد على حرف واحد، ونزل القرآن على سبعة أحرف زاجر وآمر وحلال وحرام ومحكم ومتشابه وأمثال فأحلوا حلاله وحرموا حرامه وافعلوا ما أمرتم به وانتهوا عما نهيتم عنه واعتبروا بأمثاله واعملوا بمحكمه وآمنوا بمتشابهه وقولوا آمنا به كل من عند ربنا [[رواه الحاكم 2/ 289.]]. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " نزل القرآن على سبعة أحرف، والمراء في القرآن كفر، ما عرفتم فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلا عالمه " [[أحمد بن حنبل 2/ 330.]]، وإسناده صحيح. وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس: تفسير القرآن على أربعة وجوه، تفسير يعلمه العلماء وتفسير لا يعذر الناس بجهالته من حلال أو حرام، وتفسير تعرفه العرب بلغتها، وتفسير لا يعلم تأويله إلا الله، من ادعى علمه فهى كاذب. وأخرج الدارمي في مسنده ونصر المقدسي في الحجة عن سليمان بن يسار أن رجلاً يقال له ضبيع قدم المدينة فجعل يسأل عن متشابه القرآن فأرسل إليه عمر وقد أعد له عراجين النخل فقال من أنت فقال أنا ضبيع فقال وأنا عبد الله عمر، فأخذ عمر عرجوناً من تلك العراجين فضربه حتى دمي رأسه فقال يا أمير المؤمنين حسبك قد ذهب الذي كنت أجد في رأسي، وأخرجه الدارمي أيضاً من وجه آخر وفيه أنه ضربه ثلاث مرات يتركه في كل مرة حتى يبرأ ثم يضربه وأصل القصة أخرجه ابن عساكر في تاريخه عن أنس. وأخرج الدارمي وابن عساكر أن عمر كتب إلى أهل البصرة أن لا تجالسوا ضبيعاً. وقد أخرج هذه القصة جماعة. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني عن أنس وأبي أمامة وواثلة ابن الأسقع وأبي الدرداء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الراسخين في العلم فقال: " من برت يمينه وصدق لسانه واستقام قلبه، ومن عف بطنه وفرجه فذلك من الراسخين في العلم " [[ابن كثير 1/ 347.]]. وأخرجه أبو داود والحاكم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " الجدال في القرآن كفر " [[أحمد بن حنبل 2، 258، 478، 498.]]. وأخرج نصر المقدسي في الحجة عن ابن عمر قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومن وراء حجرته قوم يتجادلون في القرآن فخرج محمرة وجنتاه كأنما تقطران دماً فقال: " يا قوم لا تجادلوا بالقرآن فإنما ضل من كان قبلكم بجدالهم. إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ولكن نزل يصدق بعضه بعضاً فما كان من محكمه فاعملوا به، وما كان متشابهه فآمنوا به " [[ابن كثير 1/ 346 - 347.]]. (كل من عند ربنا) فيه ضمير مقدر عائد على قسمي المحكم والمتشابه أي كله أو المحذوف غير ضمير أي كل واحد منهما، وهذا من تمام المقول المذكور قبله (وما يذَّكر إلا أولوا الألباب) أي العقول الخالصة وهم الراسخون في العلم الواقفون عند متشابهه العاملون بمحكمه بما أرشدهم الله إليه في هذه الآية. (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آَلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب