الباحث القرآني

(فأقم وجهك للدين حنيفاً) شبه الإقبال على الدين بتقويم وجهه إليه، وإقباله عليه، أي مائلاً إليه مستقيماً عليه غير ملتفت إلى غيره من الأديان الباطلة فإن من اهتم بالشيء عند عليه طرفه وسدد إليه نظره، وقوم له وجهه مقبلاً عليه. (فطرة الله التي فطر الناس عليها) الفطرة في الأصل الخلقة، والمراد بها هنا الملة وهي الإسلام والتوحيد. قال الواحدي: هذا قول المفسرين في الفطرة وقيل: المراد بها قابلية الدين والتهيوء له، وترسم الفطرت بالتاء المجرورة، وليس في القرآن غيرها، والمراد بالناس هنا الذين فطرهم الله على الإسلام، لأن المشرك لم يفطر على الإسلام، وهذا الخطاب وإن كان خاصاً برسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأمته داخلة معه فيه. قال القرطبي: باتفاق من أهل التأويل، والأولى حمل الناس على العموم من غير فرق بين مسلمهم وكافرهم، وأنهم جميعاً مفطورون على ذلك لولا عوارض تعرض لهم، فيبقون بسببها على الكفر، كما في حديث أبي هريرة الثابت في الصحيح قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " ما من مولود إلا يولد على الفطرة " وفي رواية: على هذه الملة، ولكن أبواه يهودانه، وينصرانه، ويمجسانه: كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء. هل تحسون فيها من جدعاء؟ ثم يقول أبو هريرة: واقرأوا إن شئتم (فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله) وفي رواية: حتى تكونوا أنتم تجدعونها. أخرج أحمد والنسائي، والحاكم، وصححه، وغيرهم، عن أسود بن سريع: إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعث سرية إلى خيبر فقاتلوا المشركين فانتهى القتل إلى الذرية. فلما جاءوا قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما حملكم على قتل الذرية؟ قالوا: يا رسول الله إنما كانوا أولاد المشركين، قال: وهل خياركم إلا أولاد المشركين؟ والذي نفسي بيده، ما من نسمة تولد إلا على الفطرة، حتى يُعْرِبَ عنها لسانها ". وأخرج أحمد من حديث جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " كل مولود يولد على الفطرة حتى يعبر عنه لسانه، فإذا عبر عنه لسانه، إما شاكراً وإما كفوراً " وروى الإمام أحمد في المسند عن عياش بن حماد أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطب يوماً فقال في خطبته حاكياً عن الله سبحانه وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم. وحرمت عليهم ما أحللت لهم الحديث. وهذا معاضد لحديث أبي هريرة المتقدم، فكل فرد من أفراد الناس مفطور، أي مخلوق على ملة الإسلام، ولكن لا اعتبار بالإيمان والإسلام الفطريين، وإنما يعتبر الإيمان والإسلام الشرعيان. وهذا قول جماعة من الصحابة ومن بعدهم وقول جماعة من المفسرين، وهو الحق. والقول بأن المراد بالفطرة هنا الإسلام هو مذهب جمهور السلف، قال آخرون: هي البداءة التي ابتدأهم عليها فإنه ابتدأهم للحياة والموت والسعادة والشقاوة، والفاطر في كلام العرب: هو المبتدئ، وهذا مصير من القائلين به إلى معنى الفطرة لغة. وإهمال معناها شرعاً، والمعنى الشرعي مقدم على المعنى اللغوي باتفاق أهل الشرع، ولا ينافي ذلك ورود الفطرة في الكتاب أو السنة في بعض المواضع مراداً بها اللغوي. كقوله تعالى: (الحمد لله فاطر السماوات والأرض) أي خالقهما ومبتديهما، وكقوله: (وما لي لا أعبد الذي فطرني) إذ لا نزاع في أن المعنى اللغوي هو هذا، ولكن النزاع في المعنى الشرعي للفطرة، وهو ما ذكره الأولون كما بيناه. وانتصاب فطرة على أنها مصدر مؤكد للجملة التي قبلها. وقال الزجاج: منصوب بمعنى اتبع فطرة الله، قال: لأن معنى فأقم وجهك للدين: اتبع الدين واتبع فطرة الله: وقال ابن جرير: هي مصدر من معنى فأقم وجهك، لأن معنى ذلك فطرة الله الناس على الدين. وقيل: هي منصوبة على الإغراء، أي الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله، ورد هذا الوجه أبو حيان، وقال: إن كلمة الإغراء لا تضمر، إذ هي عوض عن الفعل، فلو حذفها لزم حذف العوض والمعوض عنه، وهو إجحاف، وأجيب بأن هذا رأي البصريين، وأما الكسائي وأتباعه فيجيزون ذلك. (لا تبديل لخلق الله) أي لما جبلكم وطبعكم عليه من قبول الحق، وهذا تعليل لما قبله من الأمر بلزوم الفطرة. أي هذه الفطرة التي فطر الله الناس عليها. لا تبديل لها من جهة الخالق سبحانه، أو تعليل لوجوب الامتثال له، أي لا صحة ولا استقامة لتبديله بالإخلال بموجبه، وعدم ترتيب مقتضاه عليه باتباع الهوى، وقبول وسوسة الشياطين. وقيل: لا يقدر أحد أن يغيره، فلا بد حينئذ من حمل التبديل على تبديل نفس الفطرة بإزالتها رأساً، ووضع فطرة أخرى مكانها غير مصححة لقبول الحق، والتمكن من إدراكه ضرورة أن التبديل بالمعنى الأول مقدور، بل واقع قطعاً، فالتعليل حينئذ من جهة أن سلامة الفطرة متحققة في كل أحد، فلا بد من لزومها بترتيب مقتضاها عليها وعدم الإخلال به بما ذكر من اتباع الهوى، وخطوات الشيطان، ذكره أبو السعود. وقيل: هو نفي؛ معناه: النهي. أي: لا تبدلوا خلق الله، قال مجاهد وإبراهيم النخعي: معناه لا تبديل لدين الله، قال قتادة، وابن جبير، والضحاك، وابن زيد: هذا في المعتقدات، وقال عكرمة: إن المعنى لا تغيير لخلق الله في البهائم، بأن تخصى فحولها. وقيل: لا تبدلوا التوحيد بالشرك، والسنة بالبدعة، وقيل: لا تبديل لما جبل عليه الإنسان من السعادة والشقاوة، فلا يصير السعيد شقياً، ولا الشقي سعيداً. (ذلك) الدين المأمور بإقامة الوجه له هو (الدين القيم) أو لزوم الفطرة هو الدين القيم، أي: المستقيم. وقال ابن عباس: الدين: القضاء (ولكن أكثر الناس) أي: كفار مكة (لا يعلمون) ذلك حتى يفعلوه ويعملوا به.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب