الباحث القرآني

(وإذا قيل لهم) أي: لهؤلاء المجادلين، والجمع باعتبار معنى (من) (اتبعوا ما أنزل الله) على رسوله من الكتاب، تمسكوا بمجرد التقليد البحت، و (قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا) فنعبد ما كانوا يعبدونه من الأصنام، ونمشي في الطريق التي كانوا يمشون فيها في دينهم؛ ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء. قال ابن القيم: قد احتج العلماء بهذه الآية وأمثالها في إبطال التقليد، ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر، وإنما وقع التشبيه بين المقلدين بغير حجة للمقلد، كما لو قلد رجلاً فكفر، وقلد آخر فأذنب، وقلد آخر في مسألة فأخطأ، وجهها كان كل واحد ملوماً على التقليد بغير حجة، لأن كل تقليد يشبه بعضه بعضاً، وإن اختلفت الآثام فيه، والتقليد أنواع: أحدها: الإِعراض عما أنزل الله، وعدم الالتفات إليه، اكتفاء بتقليد الآباء. الثاني: تقليد من لا يعلم المقلد أنه أهل لأن يؤخذ بقوله. الثالث: التقليد بعد قيام الحجة، وظهور الدليل على خلاف قول المقلد، والفرق بين هذا وبين النوع الأول أن الأول قلد قبل تمكنه من العلم والحجة، وهذا قلد بعد ظهور الحجة له فهو أولى بالذم ومعصية الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ذم الله سبحانه هذه الأنواع الثلاثة من التقليد في غير موضع من كتابه، والتقليد ليس بعلم باتفاق أهل العلم، ولا يكون العبد مهتدياً حتى يتبع ما أنزل الله على رسوله، فهذا المقلد إن كان يعرف ما أنزل الله على رسوله فهو مهتد وليس بمقلد، وإن كان لم يعرف ما أنزل الله فهو جاهل ضال بإقراره على نفسه، فمن أين يعرف أنه على هدى في تقليده؟ وهذا جواب كل سؤال يوردونه في هذا الباب. وكان طريقة الأئمة اتباع الحجة، والنهي عن تقليدهم فمن ترك الحجة وارتكب ما نهوا عنه، ونهى الله ورسوله عنه قبلهم فليس على طريقهم، بل هو من المخالفين لهم، وإنما يكون على طريقتهم من اتبع الحجة، وانقاد للدليل، ولم يتخذ رجلاً بعينه سوى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجعله مختاراً على الكتاب والسنة، يعرضهما على قوله، وبهذا يظهر بطلان فهم من جعل التقليد اتباعاً، وقد فرق الله ورسوله وأهل العلم بينهما، كما فرقت الحقائق بينهما، فإن الاتباع سلوك المتبع، والإتيان بمثل ما أتى به، والمصنفون في السنة جمعوا بين فساد التقليد وإبطاله، وبيان زلة العالم، ليبينوا بذلك فساد التقليد، وأن العالم قد يزل ولا بد إذ ليس بمعصوم، فلا يجوز قبول كل ما يقوله، وينزل قوله منزلة المعصوم، فهذا الذي ذمه كل عالم على وجه الأرض، وحرموه وذموا أهله وهو أصلاً بلاء المقلدين وفتنتهم، فإنهم يقلدون العالم فيما يزل فيه وفيما لم يزل، وليس لهم تمييز بين ذلك، فيأخذون الدين بالخطأ ولا بد، فيحلون ما حرم الله ويحرمون ما أحل الله، ويشرعون ما لم يشرع ولا بد لهم من ذلك، إذ كانت العصمة منتفية عمن قلدوه فالخطأ واقع منه ولا بد. انتهى، بتصرف في العبارة ثم قال على طريق الاستفهام للاستبعاد والتبكيت: (أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ)؟ أي: آباءهم الذين اقتدوا بهم في دينهم أي: يتبعونهم في الشرك، ولو كان الشيطان يدعوهم فيما هم عليه من الشرك ويجوز أن يراد أنه يدعو هؤلاء الأتباع. (إلى عذاب السعير) لأنه زين لهم اتباع آبائهم: والتدين بدينهم، والأول أولى. لأن مدار إنكار الأتباع واستبعاده كون المتبوعين تابعين للشيطان لا كون أنفسهم كذلك، ويجوز أن يراد أنه يدعو جميع التابعين والمتبوعين إلى العذاب، فدعاؤه المتبوعين بتزيينه لهم الشرك، ودعاؤه للتابعين بتزيينه لهم دين آبائهم، وجواب (لو) محذوف، أي: يدعوهم فيتبعونه، وما أقبح التقليد وأكثر ضرره على صاحبه، وأوخم عاقبته وأشأم عائدته على من وقع فيه، فإن الداعي له إلى ما أنزل الله على رسوله كمن يريد أن يذود الفراش عن لهب النار لئلا تحرق، فتأبى ذلك وتتهافت في نار الحريق، وعذاب السعير.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب