الباحث القرآني

(إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله) إجلالاً له وتعظيماً، وأصل الغض النقص من كل شيء، ومنه نقص الصوت (أولئك الذين امتحن الله قلوبهم) قال الفراء: أخلص قلوبهم (للتقوى) كما يمتحن الذهب بالنار، فيخرج جيده من رديئه، ويسقط خبيثه، وبه قال مقاتل ومجاهد وقتادة، وقال الأخفش: اختصها للتقوى، وقال الواحدي: تقدير الكلام امتحن الله قلوبهم فأخلصها للتقوى، فحذف الإخلاص لدلالة الامتحان عليه، وهذا الوجه أنسب لأن الكلام وارد في مدح أولئك السادة، الكرام، أو في التعريض بمن ليسوا على وصفهم، ومن ثم قال في فاصلة الآية السابقة: (وأنتم لا تشعرون) وفي فاصلة اللاحقة: (أكثرهم لا يعقلون)، وقيل: طهرها من كل قبيح، وقيل وسعها وشرحها من محنت الأديم إذا وسعته وقال أبو عمر: وكل شيء جهدته فقد محنته، واللام متعلقة بمحذوف أي: صالحة للتقوى، كقولك: أنت صالح لكذا، أو للتعليل كقولك: جئت لأداء الواجب أي: ليكون مجيئي سبباً لأدائه. (لهم مغفرة وأجر عظيم) خبر آخر لأولئك أو مستأنفة لبيان ما أعد الله لهم في الآخرة، وهو الظاهر. (إن الذين ينادونك من وراء الحجرات) هم جفاة بني تميم، كما سيأتي بيانه، ووراء الحجرات خارجها وخلفها، أو قدامها، والحجرات جمع حجرة كالغرفات جمع غرفة، والظلمات جمع ظلمة، وقيل جمع حجر والحجر جمع حجرة فهو جمع الجمع، والحجرة الرقعة من الأرض المحجورة بحائط يحوط عليها، وهي فعلة بمعنى مفعولة، قرأ الجمهور الحجرات بضم الجيم، وقرىء بفتحها تخفيفاً وقرىء بإسكانها، وهي لغات ومناداتهم من وراء الحجرات إما بأنهم أتوها حجرة حجرة فنادوه من ورائها، أو بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له، فنادى كل واحد على حجرة و (من) في (من وراء) لابتداء الغاية، ولا وجه للمنع من جعلها لهذا المعنى. (أكثرهم لا يعقلون) لغلبة الجهل عليهم، وكثرة الجفاء في طباعهم، والمراد بالأكثر الكل، لأن العرب قد تفعل هكذا. عن الأقرع بن حابس أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: " يا محمد أخرج إلينا فلم يجبه فقال: يا محمد إن حمدي زين، وإن ذمي شين، فقال: ذلك الله، فأنزل الله (إن الذين) الخ " [[رواه أحمد.]] أخرجه أحمد وابن جرير والبغوي والطبراني وابن مردويه، قال السيوطي بسند صحيح، قال ابن منيع: لا أعلم روى الأقرع مسنداً غير هذا. وعن البراء بن عازب في الآية، قال: جاء رجل فقال يا محمد إن حمدي زين وإن ذمي شين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ذاك الله أخرجه الترمذي وحسنه. وعن زيد بن أرقم قال: " اجتمع ناس من العرب فقالوا: انطلقوا إلى هذا الرجل، فإن يك نبياً فنحن أسعد الناس به، وإن يك ملكاً نعش بجناحه، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا فجاؤوا إلى حجرته فجعلوا ينادونه: يا محمد فأنزل الله هذه الآية فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأدني وجعل يقول لقد صدق الله قولك يا زيد " أخرجه ابن راهويه؛ ومسدد وأبو يعلى والطبراني وابن مردويه قال السيوطي: بإسناد حسن، وفي الباب أحاديث. قال النسفي: وورود الآية على النمط الذي وردت عليه فيه ما لا يخفى من إجلال محل رسول الله صلى الله عليه وسلم، منها التسجيل على الصائحين به السفه والجهل ومنها إيقاع لفظ الحجرات كناية عن موضع خلوته، ومقيله مع بعض نسائه ومنها التعريف باللام دون الإضافة. ولو تأمل متأمل من أول هذه السورة إلى آخر هذه الآية لوجدها كذلك، فتأمل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور التي تنتمي إلى الله ورسوله متقدمة على الأمور كلها من غير تقييد، ثم أردف ذلك النهي عما هو من جنس التقديم من رفع الصوت والجهر. كأن الأول بساط للثاني، ثم أثنى على الغاضين أصواتهم ليدل على عظم موقعه عند الله، ثم عقبه بما هو أطم، وهجنته أتم، من الصياح برسول الله صلى الله عليه وسلم في حال خلوته من وراء الجدر كما يصاح بأهون الناس قدراً لينبه على فظاعة ما جسروا عليه لأن من رفع الله قدره عن أن يجهر له بالقول كان صنيع هؤلاء من المنكر الذي بلغ من التفاحش مبلغاً انتهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب