الباحث القرآني

(وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه) هذا أمر لأهل الإنجيل وهم النصارى بأن يحكموا بما في كتابهم وهو الإنجيل فإنه قبل البعثة المحمدية حق، وأما بعدها فقد أمروا في غير موضع بأن يعملوا بما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - في القرآن الناسخ لجميع الكتب المنزلة. قرىء بنصب الفعل من (ليحكم) على أن اللام لام كي، ويجزمه على أن اللام للأمر، فعلى الأول تكون اللام متعلقة بقوله وآتيناه الإنجيل ليحكم أهله بما أنزل الله فيه، وعلى الثانية هو كلام مستأنف، قال مكي: والاختيار الجزم لأن الجماعة عليه، ولأن ما بعده من الوعيد والتهديد يدل على أنه إلزام من الله تعالى لأهل الإنجيل، وقال النحاس: والصواب عندي أنهما قراءتان حسنتان لأن الله تعالى لم ينزل كتاباً إلا ليُعمل بما فيه. (ومن لم يحكم بما أنزل الله) أي بما في الكتاب العزيز والسنة المطهرة لقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فأنتهوا) ولقوله - صلى الله عليه وسلم - " ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه " [[صحيح الجامع الصغير 2640.]]، رواه أبو داود والدارمي وابن ماجه عن المقدام بن معد يكرب (فأولئك هم الفاسقون) الخارجون عن الطاعة، وذكر الفسق هنا مناسب لأنه خروج عن أمر الله إذ تقدمه قوله: (وليحكم أهل الإنجيل) وهو أمر، قاله أبو حيان. وفي هذه الآية والآيتين المتقدمتين من الوعيد والتهديد ما لا يقادر قدره، وقد تقدم أن هذه الآيات وإن نزلت في أهل الكتاب فليست مختصة بهم بل هي عامة لكل من لم يحكم بما أنزل الله اعتباراً بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ويدخل فيه السبب دخولاً أولياً، وفيها دلالة على اشتراط الاجتهاد في القضية وإشارة إلى ترك الحكم بالتقليد. فإن قلت إذا كان التخاصم ببلدة لا يوجد فيها مجتهد هل يجوز للخصمين الترافع إلى من بها من القضاة المقلدين؟. قلت: إذا كان يمكن وصولهما إلى قاض مجتهد لم يجز للمقلد أن يقضي بينهما بل يرشدهما إلى القاضي المجتهد أو يرفع القضية إليه ليحكم فيها بما أنزل الله أو بما أراه الله، فإن كان الوصول إلى القاضي المجتهد متعذراً أو متعسراً فلا بأس بأن يتولى ذلك القاضي المقلد فصل خصوماتهما لكن يجب عليه أن لا يدعي علم ما ليس من شأنه، فلا يقول صح أو لم يصح شرعاً بل يقول قال إمامه كذا ويعرف الخصمين أنه لم يحكم بينهما إلا بما قاله الإمام الفلاني. في الحقيقة هو محكّم لا حاكم، وقد ثبت التحكيم في هذه الشريعة المطهرة كما جاء ذلك في القرآن الكريم في شأن الزوجين، وأنه يوكل الأمر إلى حكم من أهل الزوج وحكم من أهل المرأة وكما في قوله تعالى: (يحكم به ذوا عدل منكم) وكما وقع في زمن النبوة والصحابة في غير قضية ومن لم يجد ماء تيمم بالتراب، والعور خير من العمى. ولا يغتر العاقل بما يزخرفه المقلدون ويموهون به على العامة من تعظيم شأن من يقلدونه ونشر فضائله ومناقبه، والموازنة بينه وبين من يبلغ رتبة الاجتهاد في عصر هؤلاء المقلدين، فإن هذا خروج عن محل النزاع ومغالطة قبيحة، وما أسرع نفاقها [[رواجها.]] عند العامة لأن أفهامهم قاصرة عن إدراك الحقائق والحق عندهم يعرف بالرجال، وللأموات في صدورهم جلالة وفخامة، وطباع المقلدين قريبة من طبائعهم، فهم إلى قبول أقوالهم أقرب منهم إلى قبول أقوال العلماء المجتهدين، لأن المجتهدين قد باينوا العامة وارتفعوا إلى رتبة تضيق أذهان العامة عن تصورها. فإذا قال المقلد مثلاً: أنا أحكم بمذهب الشافعي وهو أعلم من هذا المجتهد المعاصر لي وأعرف بالحق منه، كان العامة إلى تصديق هذه المقالة والإذعان لها أسرع من السيل المنحدر وتنفعل أذهانهم لذلك أكمل انفعال. فإذا قال المجتهد مجيباً على ذلك المقلد: إن محل النزاع هو الموازنة بيني وبينك لا بيني وبين الشافعي، فإني أعرف العدل والحق وما أنزل الله وأجتهد رأيي إذا لم أجد في كتاب الله وسنة رسوله نصاً، وأنت لا تعرف شيئاً من ذلك ولا تقدر على أن تجتهد رأيك إذ لا رأي لك ولا اجتهاد لأن اجتهاد الرأي هو إرجاع الحكم إلى الكتاب والسنة بالمقايسة أو بعلاقة يسوغها الاجتهاد، وأنت لا تعرف كتاباً ولا سنة فضلاً أن تعرف كيفية الإرجاع إليهما بوجوه مقبولة، كان هذا الجواب الذي أجابه المجتهد مع كونه حقاً بحتاً، بعيداً عن أن يفهمه العامة أو تذعن لصاحبه. ولهذا ترى في هذه الأزمان الغريبة الشأن ما ينقله المقلد عن إمامه أوقع في النفوس مما ينقله المجتهد من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإن جاء من ذلك بالكثير الطيب. وقد رأينا وسمعنا ما لا يشك فيه أن من علامات القيامة على أن كثيراً من المقلدين قد ينقل في حكمه أو فتواه عن مقلد مثله قد صار تحت أطباق الثرى وإمامه منه براء فيجول ويصول وينسب ذلك إلى مذهب الإمام، وينسب من يأتي بما يخالفه من كتاب أو سنة إلا الابتداع ومخالفة المذهب ومباينة أهل العلم، وهو لو ارتفعت رتبته عن هذا الحضيض قليلاً لعلم أنه المخالف لإمامه لا الموافق له. ومن كان بهذه المنزلة فهو صاحب الجهل المركب الذي لا يستحق أنه يخاطب، بل على كل صاحب علم أن يرفع نفسه عن مجادلته ويصون شأنه عن مقاولته إلا أن يطلب منه أن يعلمه مما علمه الله، وبالله التوفيق.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب