الباحث القرآني

(يا أيها الذين آمنوا لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم) نهاهم عن قتل الصيد في حال الإحرام، وفي معناه غير محلي الصيد وأنتم حرم والتصريح بقوله: (لا تقتلوا) مع كونه معلوماً مما قبله لتأكيد الحرمة وترتيب ما يعقبه عليه، واللام في الصيد للعهد حسبما سلف. وهذا النهي شامل لكل أحد من ذكور المسلمين وإناثهم، لأنه يقال رجل حرام وامرأة حرام والجمع حرم، وأحرم الرجل دخل في الحرم وحرام هو المحرم وإن كان في الحل، وفي حكمه من في الحرم وإن كان حلالاً كردح جمع رداح، قيل هما مرادان بالآية، وسيأتي في النهي عن قتل الصيد فلا يجوز قتل الصيد للمحرم ولا في الحرم، والمراد بالصيد كل حيوان متوحش مأكول اللحم قاله الشافعي. وقال أبو حنيفة: سواء كان مأكولاً أو لم يكن، فيجب عنده الضمان على من قتل سبعاً أو نمراً أو نحو ذلك، واستثنى الشارع خمس فواسق فأجاز قتلهن [[في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور ".]]. (ومن قتله منكم متعمداً) هو القاصد للشيء مع العلم بالإحرام، والمخطئ هو الذي يقصد شيئاً فيصيب صيداً، والناسي هو الذي يتعمد الصيد ولا يذكر إحرامه، وقد استدل ابن عباس وأحمد في رواية عنه وداود باقتصاره سبحانه على العامد بأنه لا كفارة على غيره بل لا تجب إلا عليه وحده، وبه قال سعيد بن جبير وطاوس وأبو ثور. وقيل: إنها تلزم الكفارة المخطئ والناسي كما تلزم المتعمد، وجعلوا قيد التعمد خارجاً مخرج الغالب، وهو مروي عن عمر والحسن والنخعي والزهري، وبه قال مالك والشافعي وأبو حنيفة. وأصحابهم، وروي عن ابن عباس، وقيل: إنه يجب التكفير على العامد الناسي لإحرامه وبه قال مجاهد، قال: فإن كان ذاكراً لإحرامه فقد حل ولا حج له لارتكابه محظور إحرامه فبطل عليه كما لو تكلم في الصلاة أو أحدث فيها. (فجزاء) أي فعليه جزاء (مثل ما قتل من المنعم) بيان للجزاء المماثل قيل المراد المماثلة في القيمة وقيل في الخلقة، وقد ذهب إلى الأول أبو حنيفة، وذهب إلى الثاني مالك والشافعي وأحمد والجمهور من الصحابة ومن بعدهم وهو الحق. لأن البيان للماثل بالمنعم يفيد ذلك وكذلك يفيده هدياً بالغ الكعبة. وروي عن أبي حنيفة أنه يجوز إخراج القيمة ولو وجد المثل، وأن المحرم مخير. وللسلف في تقدير الجزاء المماثل وتقدير القيمة أقوال مبسوطة في مواطنها، وفي قراءة بإضافة جزاء، قال الواحدي: ولا ينبغي إضافة الجزاء إلى المثل لأن عليه جزاء المقتول لا جزاء مثله، فإنه لا جزاء عليه لما لم يقتله، وقد أجاب الناس عنها بأجوبة سديدة، ذكرها السمين. (يحكم به) أي بالجزاء وبمثل ما قتل (ذوا عدل منكم) أي رجلان معروفان بالعدالة بين المسلمين لهما فطنة يميزان بها أشبه الأشياء به، وقد حكم ابن عباس وعمر وعلي في النعامة ببدنةٍ، وابن عباس وأبو عبيدة في بقر الوحش وحماره ببقرة، وابن عمر وابن عوف في الظبي بشاة وحكم بها ابن عباس وعمر وغيرهما في الحمام لأنها تشبهه في العب أي شرب الماء بلا مص. أقول ههنا أمران أحدهما اعتبار المماثلة والثاني حكم العدلين، والظاهر أن العدلين إذا حكما بغير المماثل لم يلزم حكمهما لأنه قال يحكم به أي بالمماثل، وحق العدالة أن لا يقع من صاحبها الحكم بغير المماثل إلا لغلط أو طروء شبهة بأن المعتبر في المماثلة هو هذا الوصف دون هذا الوصف والواقع بخلافه. ثم الظاهر أن العدلين إذا حكما بحكم في السلف لا يكون ذلك الحكم لازماً للخلف بل تحكيم العدلين ثابت عند كل حادثة تحدث في قتل الصيد. إذا تقرر لك هذا فاعلم أن جعل الظبي مشبهاً للشاة دون التيس مخالف للمشاهد المحسوس، فإن الظبي يشبه التيس في غالب ذاته وصفاته، ولا مشابهة بينه وبين الشاة في غالب ذاته وصفاته، وكذلك الحمامة فإنها لا تشبه الشاة في شيء من الأوصاف، وإذا صح من بعض السلف أنه حكم في شيء منها بشاة فذلك غير لازم لنا لما عرفت من أن حكم العدلين لا بد أن يكون بالمثل كما صرح به القرآن الكريم، وما أقرب ما حكم به ابن عباس وابن عمر في القطاة، فكان الأولى أن يكون الحكم في الحمامة وما يشابهها من الطيور كهذا الحكم في القطاة ويزاد قليلاً من الطعام لما هو أكبر، وينقص قليلاً لما هو أصغر، وكما قاله عمر تمرة خير من جرادة، وأقول أنا وصاع خير من حمامة. (هدياً) منصوب على الحال أو البدل من مثل (بالغ الكعبة) صفة لهدي لأن الإضافة غير حقيقية، والمعنى أنهما إذا حكما بالجزاء فإنه يفعل به ما يفعل بالهدي من الإرسال إلى مكة والنحر هنالك والإشعار والتقليد، ولم يرد الكعبة بعينها فإن الهدي لا يبلغها وإنما أراد جميع الحرم فيذبح فيه ويتصدق به على مساكينه، ولا يجوز أن يذبح حيث كان ولا خلاف في هذا. (أو كفارة) معطوف على محل من النعم وهو الرفع لأنه خبر مبتدأ محذوف (طعام مساكين) من غالب قوت البلد ما يساوي قيمة الجزاء لكل مسكين مد (أو عدل ذلك) معطوف على طعام (صياماً) تمييز العدل، والمعنى أو قدر ذلك صياماً، والجاني مخير بين هذه الأنواع المذكورة وإليه ذهب جمهور العلماء منهم الشافعي ومالك وأبو حنيفة، وقال أحمد وزفر: إن كلمة أو للترتيب وهما روايتان عن ابن عباس. وروي عنه أنه لا يجزئ المحرم الإطعام والصوم إلا إذا لم يجد الهدي، والعدل بفتح العين وكسرها لغتان وهما المثل قاله الكسائي، وقال الفراء: عدل الشيء بكسر العين مثله من جنسه، وبفتح العين مثله من غير جنسه وبمثل قول الكسائي قال البصريون. وأوجبنا ذلك عليه (ليذوق وبال أمره) فهذا علة لإيجاب الجزاء، والذوق مستعار لإدراك المشقة، ومثله (ذق إنك أنت العزيز الكريم) والوبال سوء العاقبة والمرعى الوبيل الذي يتأذى به بعد أكله، وطعام وبيل إذا كان ثقيلاً، وإنما سمى الله ذلك وبالاً لأن إخراج الجزاء ثقيل على النفس لما فيه من تنقيص المال، وثقل الصوم من حيث إن فيه إنهاك البدن. (عفا الله عما سلف) يعني في جاهليتكم من قتلكم للصيد فلم يؤاخذكم به، وقيل عما سلف قبل التحريم ونزول الكفارة (ومن عاد) إلى ما نهيتم عنه من قتل الصيد مرة ثانية بعد هذا البيان (فينتقم الله منه) في الآخرة فيعذبه بذنبه وقيل ينتقم منه بالكفارة، قال شريح وسعيد بن جبير: يحكم عليه في أول مرة، فإذا عاد لم يحكم عليه بل يقال له اذهب ينتقم الله منك أي ذنبك أعظم من أن يكفر، والإنتقام المبالغة في العقوبة. ولكن هذا الوعيد لا يمنع إيجاب الجزاء في المرة الثانية والثالثة، فإذا تكرر من المحرم قتل الصيد تكرر عليه الجزاء، وهذا قول الجمهور، وقد روي عن ابن عباس والنخعي وداود الظاهري أنه إذا قتل الصيد مرة ثالثة فلا جزاء عليه لأنه وعده بالإنتقام منه (والله عزيز) غالب على أمره (ذو انتقام) ممن عصاه وجاوز حدود الإسلام.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب