الباحث القرآني

(وإذ قال عيسى بن مريم) معطوف على وإذ قال موسى، معمول لعامله، أو معمول لعامل مقدر معطوف على عامل الظرف الأول (يا بني إسرائيل) ولم يقل: يا قوم كما قال موسى لأنه لا نسب ولا أب له فيهم فيكونوا قومه، وأمه مريم من أشرفهم نسباً (إني رسول الله إليكم) أي أرسلت إليكم بالوصف الذي وصفت به التوراة حال كوني (مصدقاً لما بين يدي من التوراة) لأني لم آتكم بشيء يخالف التوراة، بل هي مشتملة على التبشير بي فكيف تنفرون عني وتخالفونني؟ وذكر أشهر الكتب الذي حكم به النبيون، وأشهر الرسل الذي هو خاتم المرسلين. (ومبشراً برسول يأتي من بعدي) وإذا كنت كذلك في التصديق والتبشير فلا مقتضى لتكذيبي، وقرىء بعدي بفتح الياء وبإسكانها (اسمه أحمد) هو نبينا صلى الله عليه وسلم، وهو علم منقول من الصفة وهي تحتمل أن تكون مبالغة من الفاعل، فيكون معناها أنه أكثر حمد من غيره، أو من المفعول، فيكون معناها أنه يحمد بما فيه من خصال الخير أكثر مما يحمد غيره وبالاعتبار الأول قدم عيسى هذا الاسم على محمد، لأن كونه حامداً لله سابق على حمد الخلق له لأنهم لم يحمدوه إلا بعد وجوده في الخارج، وحمده لربه كان قبل حمد الناس له وقال الكرخي: إنه إنما خصه بالذكر لأنه في الإنجيل مسمى بهذا الاسم ولأنه في السماء أحمد فذكر باسمه السماوي لأنه أحمد الناس لربه، لأن حمده لربه بما يفتحه الله عليه يوم القيامة من المحامد قبل شفاعته لأمته سابق على حمدهم له تعالى. أخرج البخاري ومسلم وغيرهما: " عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لي أسماء أنا محمد وأنا أحمد وأنا الحاشر الذي يحشر الله الناس على قدمي، وأنا الماحي الذي يمحو الله بي الكفر، وأنا العاقب والعاقب الذي ليس بعده نبي "، وفي بعض حواشي البيضاوي أن له أربعة آلاف اسم، وأن نحو سبعين منها من أسمائه تعالى انتهى، والحق أن أسماء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، توقيفية لا يزاد عليها، ولا يدعى ولا يسمى بغيرها، وفي الخازن تحت هذه الآية: " عن أبي موسى قال: أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، أصحابه أن يأتوا النجاشي، وذكر الحديث، وفيه قال: سمعت النجاشي يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، وأنه الذي بشر به عيسى، ولولا ما أنا فيه من الملك وما تحملت من أمر الناس، لأتيته حتى أحمل نعليه "، أخرجه أبو داود. " وعن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: مكتوب في التوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه، قاك أبو داود المدني: قد بقي في البيت موضع قبر " أخرجه الترمذي، وعن كعب الأحبار أن الحواريين قالوا لعيسى: يا رسول الله هل بعدنا من أمة؟ قال: نعم يأتي بعدكم أمة حكماء علماء أبرار أتقياء، كأنهم في الفقه أنبياء، يرضون من الله باليسير من الرزق، ويرضى الله منهم باليسير من العمل انتهى. ومثله في الخطيب، وقال مكان قوله: يأتي بعدكم أمة لفظ: أمة أحمد. وقال: " روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: اسمي في التوراة أحيد لأني أحيد أمتي عن النار، واسمي في الزبور الماحي محا الله بي عبدة الأوثان، واسمي في الإنجيل أحمد، وفي القرآن محمد، لأني محمود في أهل السماء والأرض " انتهى، ولينظر في سند هذا الحديث، قال القرطبي: واسم محمد مطابق لمعناه، والله سبحانه وتعالى سماه قبل أن يسمي به نفسه، فهذا علم من أعلام نبوته انتهى، وذكره عيسى عليه السلام وقال: اسمه أحمد وذكره موسى عليه السلام حين قال له ربه تلك أمة أحمد فقال: اللهم اجعلني من أمة محمد فبأحمد ذكره قبل أن يذكره بمحمد، لأن حمده لربه كان قبل حمد الناس له، فلما وجد وبعث كان محمداً بالفعل انتهى من الخطيب. (تنبيه) قد راجعنا من التفاسير الموجودة عندنا الآن جلها كتفسير أبي السعود والمدارك للنسفي والبيضاوي وحاشيته من الخفاجي والجلالين وحاشية سليمان الجمل عليه والخطيب والخازن وأمثال ذلك في هذا المقام تحت هذه الآية فلم نجد أحداً من هؤلاء الأعلام ذكر هذه البشارة نقلاً عن الإنجيل، ولعل السبب في ذلك عدم رجوعهم إلى الكتب العتيقة والجديدة وتراجمها بالألسنة المختلفة، أو عدم وجودها في تلك الأزمنة أو لعدم الاعتماد عليها لما تطرق من التحريف إليها، ولكنا أحببنا أن نذكر في هذا المقام من النصوص الإنجيلية وغيرها بعضاً من الأدلة الدالة على بشارة عيسى عليه السلام بإتيان رسول من بعده اسمه أحمد، فإن من منن الله سبحانه على عباده المؤمنين ومن تمام حجته على أهل الكتاب أن الإخبارات والأمثلة والبشارات الواردة في حق نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الناصة على ثبوت نبوته العامة، ورسالته الشاملة للخليقة، كلها توجد كثيراً في تلك الكتب إلى هذا الآن، مع ما وقع فيها من التحريفات اللفظية والمعنوية، كما نطق به الأحاديث والقرآن. ومن عرف طريق إخبار النبي المتقدم عن النبي المتأخر، ونظر بعين الإنصاف إلى هذه البشارات، وقابلها بالإخبارات التي نقلتها النصارى في عيسى ابن مريم عليهما السلام، جزم بأن هذه الإخبارات عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في غاية من القوة، ونهاية من الصحة والشهرة والقبول، وهذه جملة صالحة منها تذكر هنا ونتكلم عليها بما يكشف عن حالها، والدلالة منها على هذا المقصود فأقول وبالله أجول وأصول: فمن تلك البشارات ما في الباب السابع عشر من سفر التكوين: وعلى إسماعيل أستجيب لك هو ذا أباركه وأكبره، وأكثره جداً، فسيلد اثني عشر رئيساً، وأجعله لشعب كبير انتهى، فقوله: أجعله لشعب كبير مشير إلى محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه لم يكن في ولد إسماعيل من كان لشعب كبير غيره وقد قال تعالى ناقلاً دعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام في كلامه المجيد: (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). قال الرازي: وفي الإصحاح الرابع عشر من إنجيل يوحنا هكذا: وأنا أطلب لكم إلى أبي حتى يمنحكم ويعطيكم الفارقليط حتى يكون معكم إلى الأبد والفارقليط هو روح الحق اليقين: هذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربي. وذكر في الإصحاح الخامس عشر هذا اللفظ: وأما الفارقليط روح القدس يرسله أبي باسمي ويعلمكم ويمنحكم جميع الأشياء، وهو يذكركم ما قلت لكم، ثم ذكر بعد ذلك بقليل، وإني قد أخبرتكم بهذا قبل أن يكون حتى إذا كان ذلك تؤمنون، وذكر في الإصحاح السادس عشر هكذا، ولكن أقول لكم الآن حقاً يقيناً انطلاقي عنكم خير لكم، فإن لم أنطلق عنكم إلى أبي لم يأتكم الفارقليط وإن انطلقت أرسلته إليكم، فإذا جاء هو يفيد أهل العالم، ويدنيهم ويمنحهم، ويوقفهم على الخطبة والبر والدين، وذكر بعد ذلك بقليل هكذا فإن لي كلاما كثيراً أريد أن أقوله لكم ولكن لا تقدرون على قبوله والاحتفاظ له، ولكن إذا جاء روح الحق إليكم يلهمكم ويؤيدكم بجميع الحق، لأنه ليس يتكلم بدعة من تلقاء نفسه، هذا ما في الإِنجيل انتهى كلام الرازي. وفي الزبور المائة والتاسع والأربعين: سبحوا الرب تسبيحاً جديداً سبحوه في مجمع الأبرار، فليفرح إسرائيل بخالقه، وبنو صهيون يبتهجون بملكهم، فليسبحوا اسمه بالمصياف بالطبل والمزمار، يرتلوا له لأن الرب يسر بشعبه ويشرف المتواضعين، بالخلاص تفتخر الأبرار بالمجد، ويبتهجون على مضاجعهم ترفيع الله في حلوقهم، وسيوف ذات فمين في أياديهم، ليضعوا انتقاماً في الأمم وتوبيخات في الشعوب، ليقيدوا ملوكهم بالقيود وأشرافهم بالأغلال من حديد، ليضعوا بهم حكماً مكتوباً، هذا المجد يكون لجميع الأبرار اهـ. وهذا الزبور عبر عن المبشر به بالملك، وعن مطيعيه بالأبرار، وصدق جميع هذه الصفات على محمد صلى الله عليه وسلم، وأصحابه رضي الله عنهم، ولا ينكر ذلك إلا من عمى الله عين بصيرته: وخذله عن سبيل هدايته، ومنها ما في إنجيل يوحنا وترجمته بالعربية: إن كنتم تحبوني فحافظوا على كلامي وأنا ألتمس الآب فيرسل إليكم فارقليطاء آخر ليمكث معكم إلى أبد الآبدين انتهى، وهذا من أعظم الدلائل الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، وقد أعرض عنه النصارى إعراضاً كلياً. والفارقليطاء، عجمية يونانية معناه الشافع والواسطة والمسلي والممجد وهذه المعاني تدل على الممدوح، بعضها بالمطابقة وبعضها بالتضمن وبعضها بالالتزام فإن التمجيد مرادف للحمد، والثلاثة الأخر مما توجب الحمد. فهذا هو معنى قوله سبحانه (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ)، والدليل على ذلك وصفه بالمكث إلى الأبد والدوام، فإنه لم يأت بعد عيسى عليه السلام أحد يتصف بهذه الصفة غيره، وفي التنكير دلالة على أن هذا الفارقليطاء، الذي هو الآن معكم أي المسيح زمني ولا يبقى إلى الأبد والذي يأتي بعده أبدي. وإن فسره النصارى بالروح القدس فهذا خطأ لأن الروح القدس لم يبق معهم بعد يوم الدار ولا يوجد معهم في زماننا هذا غير روح إبليس شيء فيكون عدولهم عن اتباع أمره هو محافظتهم عليه، وإلا فإن كان الفارقليطاء عبارة عن الروح القدس الذي نزل على الحواريين يوم الدار لاستطاع أساقفة النصارى وقسوسهم أن يفعلوا الخوارق التي فعل المسيح، لكنهم لا يستطيعون على شيء من ذلك، فالفارقليطاء ليس بعبارة عن الروح القدس الذي نزل عليهم يوم الدار، أما المقدم فلأن الحواريين كانوا يعملون الخوارق التي كان يفعلها المسيح، وأما التالي فلأنه لم ينقل عنهم لا في الغابر ولا في الحال. وأما قولنا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم، هو المتصف بالمكث إلى الأبد فلأنه لم يأت بعد محمد صلى الله عليه وسلم، من يدعي النبوة، ويظهر المعجزة، فانحصرت فيه حتى يأتي غيره، ومعنى الدوام هو بقاء ملته على دعائهما الأصلية، وعدم تحريف كتابه العزيز، بل وسنته المطهرة، وعدم اختلال شريعته الحقة الصادقة، ولا ينقض ذلك باختلاف المذاهب، لأن هذا الاختلاف مما يتعلق بالفروع، وفي رومية وأشعياء: ها أنا واضع في صهيون حجرة عثرة، وصخرة شك، وكل من يؤمن بها لا يخجل انتهى. وتقييد عدم الخجالة بالإِيمان بها فيه دلالة على صحة نبوته صلى الله عليه وسلم، وأخذه النصارى وأولوه على عادتهم، واستدلوا به على ربوبية المسيح، وليس بشيء وصهيون جبل في أورشليم، وقيل: بل عقب: أسست عليها أورشليم، والحجرة والصخرة والعثرة والشك من المترادفات. وسياق الكلام في رومية أن بولوس كان يعظ بعيسى، ويوبخ اليهود على عدم إيمانهم به وهو كلام طويل آخره قوله: وأما إسرائيل فإنه قد طلب شريعة العدل، ولم يظفر بها، ولم لم يظفر بها؟ لأنهم لم يطلبوها بالإِيمان، بل بأعمال الشريعة، وذلك لأنهم عثروا بحجرة كما حررها آنذا واضع حجرة تمعثر، وصخرة شك، وكل من يؤمن بها لا يخجل. يريد بذلك أن بني إسرائيل كانوا يطلبون الهدى فلم يصيبوه، لأنهم كانوا يطلبونه بمحض الأعمال لا بالإِيمان، وهذا يدل على أن غاية شريعة عيسى لم تكن إلا بالقوة النظرية، وسبب عدم صلبهم إياه بالإِيمان لأنهم عثروا بعيسى لأنهم لم يعرفوه، واستدل على عدم إيمانهم به بقول أشعياء، وهذا لا يدل على ربوبيته، بل ولا على نبوته. وسياقه في أشعياء هو قوله: ألا لا تتكلموا على من تتكلم عليه هذه الأمة، ولا تخشوا ما يخشونه، ولا تخافوا، وقدسّوا رب الجنود وحده، واخشوه وخافوا منه، لأنه هو المقدس، وهو حجرة العثرة، وصخرة الشك، وهو لأهل بيت إسرائيل فخ، ولكنه أورشليم مصيدة، وسيعثرون ويسقطون وينكسرون ويقيدون ويؤسرون، فاطووا الشهادة واختموا الصحف التي عند تلاميذي، وأنا سأنتظر الرب الذي يغطي وجهه عن أهل بيت إسرائيل وأترقبه، وها أنا والأولاد الذين وهب لي ربي علامة عجيبة في إسرائيل لرب الجنود الذي يسكن في صهيون انتهى. وهذا لا دلالة فيه على عيسى عليه السلام، لأن أول صفاته رب الجنود ولم يكن المسيح كذلك، والصفة الثانية كونه حجرة عثرة ولا تقل إنهم قد عثروا بالمسيح أي شكوا فيه لأن مطلق الشك لا يكفي في صدقه عليه لقوله: يعثرون ويسقطون الخ والصفة الثالثة كونه يغطي وجهه عن إسرائيل وابن مريم كان مختصاً بدعوتهم، كما صرح به في متى، فلا يصدق عليه، والصفة الرابعة كونه ناسخاً لما قبله من الشرائع كلها لقوله: اطووا الشهادة واختموا الصحف وعيسى بن مريم يقول كما في متّى: وهؤلاء الاثنا عشر أرسلهم عيسى وأمرهم وهو يقول: لا تنطلقوا إلى طريق العوام ولا تدخلوا في أحد أمصار السامريين بل اذهبوا إلى غنم بيت إسرائيل الضالة، ويقول كما في متى أيضاًً، لكنك إن أردت أن تلج الحياة فحافظ على الأحكام الخ، وهذه كلها صريحة في خصوصية نبوته، وعدم نسخ ناموس موسى، فلا يصدق عليه، فلا دلالة له عليه. وإذا فهمت هذا فقد علمت أن غاية هذا الفصل التبشير ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وتقدير كلام أشعياء لا تكلموا علي، أي تسبوا وترفضوا من تتكلم عليه، أي من تسبه وترفضه هذه الأمة أي اليهود، ولا تخشوا من يخشوه، أي لا تتولوا من يتولوه ولا تعادوا من يعادوه، بل قدسوا استثناء منقطع من لا تتكلموا واخشوا رب الجنود وحده، واخشوه وخافوا منه، أي لا تحذروا سلاطين اليونانيين والفلسطينيين والرومانيين والمدينيين ولا تقدسوهم، بل اجعلوا جميع اتكالكم على رب الجنود، أي الملك العادل، والنبي الأمي الكامل لأنه أي رب الجنود، والرب بمعنى المربي والمولى، يقال: هو رب النعمة أي مفيضها، ورب البيت أي مولاه، وإذا أضيف إلى الضمير المتصل لا يكون إلا بمعنى المعبود على الأصح هو المقدس فقط لا غيره، لأن تعريف الخير يفيد الحصر. وهو حجرة العثرة، عطف على هو المقدس وخبر لأن وصخرة الشك خبر ثالث لأن أي رب الجنود هذا هو المنحصرة فيه هذه الصفات ولجميع الناس. أما التقديس فلأنه لم يرتكب قبل نبوته ما يوجب الثلب، وأما العثرة والشك فلأنه من أولاد هاجر، ولم يبعث منهم قبله نبي، وأما أيوب فمن أعراب مدين وأما خالد بن سنان عند من يقول بنبوته فمن أعراب سامرة، وهو لأهل بيت إسرائيل فخ هذه صفة أخرى له صلى الله عليه وسلم، وهي أنه فخ يصيدهم ويأسرهم، فكما فعل بهم الفلسطينيون هكذا يفعل بهم هو أيضاًً، ولسكنة أورشليم مصيدة المصيدة هي الشبكة التي تصيد كل ما يوكر عليها مرة واحدة بخلاف الفخ فإنه لا يصيد مما يوكر عليه إلا ما ينقر العتلة ولا يكون إلا واحداً فكان مراد أشعياء عليه السلام أنه يتسلط على اليهود ويقهرهم واحداً بعد واحد، لأنهم مشتتون. وأما البلد فإنه يتسلط عليها مرة واحدة، وسيعثرون أي يشكون فيه ويسقطون إذا شكوا وينكسرون إذا سقطوا، ويقيدون إذا انكسروا إلا أنهم لا يستطيعون الفرار ويؤسرون إذا قيدوا فاطووا الشهادة التي عندكم أيها الأنبياء، واختموا الصحف أي أسفار التوراة، ونبوات الأنبياء التي عند تلاميذي أي بني إسرائيل لأنها ستنسخ وتترك إذا ظهر رب الجنود صلى الله عليه وسلم، ولا يحتاج إليها بعد، وأنا سأنتظر الرب الذي يغطي وجهه عن إسرائيل، وأترقبه، يعني به محمداً صلى الله عليه وسلم، يقول: إني لا أنتظر من يأتي قبله يعني عيسى الذي أشار إليه في غير هذا المكان لأنه نبي لبني إسرائيل، لكني أنتظر الذي يغطي وجهه عنهم وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يقال: إن نبوته صلى الله عليه وسلم، عامة، والعامة تلزم منها دعوة الكل، فكيف يغطي وجهه عنهم؟ لأن المراد بتغطية الوجه عدم ظهوره منهم واستقامته في ملكهم، ثم قال: وها أنا والأولاد يعني الأتقياء من بني إسرائيل، وإضافة الرب إلى الضمير المتصل إشارة إلى المعبود جل اسمه الذين وهبهم لي ربي، أي أعطاني إياهم ووفقهم لاتباع دعوتي علامة عجيبة في إسرائيل، أي نكون نحن علامة لهم حتى يعرفوا ما ضلوا عنه، ويندموا على ما فعلوه، ولرب الجنود الذي يسكن في صهيون إشارة إلى المهدي لأنه وصف محمداً صلى الله عليه وسلم، برب الجنود الذي يغطي وجهه عن إسرائيل فإذا كان كذلك لا يمكن أن يسكن في صهيون، وإلى هذا ذهب أكثر العلماء وصرحوا بأن المهدي يستقر في أورشليم ويعمرها بأموال الهند وفي هذا البرهان إقناع كامل لليهود والنصارى والمسلمين جميعاً. أو المراد بالسكون في صهيون سكون دينه واستقرار أهل ملته فيه، وهذا أوضح مما قبله، وفي سفر التكوين: وأما أنت يا يهوذا فإنك أنت الذي تمدحه إخوته وستكون يدك في عنق أعدائك وستجثو لك أولاد أبيك ألا فإن القضيب لن ينصرف عن يهوذا، ولا واضعي الناموس من تحت قدميه حتى يأتي شيلو، وتصير إليه عوام الناس، وأبطأ إلى الجفن جحشه، وإلى منتخب الكروم أتانه غاسلاً بالخمر قميصه، وبدم الكرم لباسه، وسوف تكون عيناه أحمر من الخمر وأسنانه أبيض من اللبن. اهـ. وهذا نص على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وأوله النصارى وقالوا: إن شيلو هو المسيح ابن مريم، وقال اليهود: بل هو في شأن المسيح المزمع بالإِتيان، وسياق دعوى النصارى هو أن هذا الفصل في سفر التكوين يتضمن دعاء يعقوب لبنيه، وأنه تنبأ لكل واحد منهم بما يناسب شأنه، وتنبأ ليهوذا بأن السلطنة ستستقر في أولاده حتى يخرج شيلو، ووصفه بهذه الصفات التي أشار إليها في غير هذا المكان، والحق أنه يجيز صحة النهوض، وليس فيه ريبة إلا أن غايته ظهور محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه قيد زوال الملك والنبوة من بني إسرائيل بظهور عيسى، ومن بعد ظهوره إلى هذا الآن لم يستقل منهم ملك، ولم يظهر فيهم نبي، وانتقلت السلطنة والنبوة إلى إسماعيل. وقال اليهود: إن شيلو الذي هو عبارة عن المسيح المزمع بالإِتيان، وأنه لم يأت بعد لعدم وقوع الشرط لأن شرط ظهوره زوال السلطنة والنبوة منهم وقد زالت النبوة، لكن السلطنة لم تزل لأن بعض الممالك البعيدة عنا يوجد فيها منهم ملوك لم تبلغ إلينا أخبارهم، وأجيب بأن الواو في قوله: لا تزول السلطنة ولا واضعي الناموس للجمعية، فلا يمكن زوال أحدهما وبقاء الثاني وأن الأرض كلها محددة من مجاري 65 درجة من الجنوب إلى جزيرة مندوسة ومن 81 درجة من الشمال من جزيرة سلامة إلى آخر ممالك الفرنج، وليس فيها بقعة مجهولة، وكذا الجزائر فالاعتراف بأن فيها مملكة تكون فيها ملوك وأمم مجهولة محمولة على الجهالة وهو ممنوع. فمن أين حصل لكم العلم بهذا المجهول؟ فينتقض اعتراضهم، وإذا تحقق لك ذلك، اعلم أنه عليه السلام قيد زوال السلطنة والنبوة لظهور شيلو وصيرورة عوام الناس إليه وقوله حتى يأتي شيلو يدل على أنه لا بد للملك والنبوة بعد ظهوره أن تزولا من اليهود وتنتقلا إلى غيرهم وهم العرب، وقال اليهود: إن كان صحة ظهور شيلو التجاء عوام الناس إليه فلا يمكن أن يظهر شيلو، ولا تلجىء عوام الناس إليه، لكن عيسى ابن مريم قد خرج ولم تلتجىء عوام الناس إليه، فعيسى ابن مريم ليس بشيلو. وأجيب عن ذلك بمنع الصغرى، لأن قوله: وتصير عوام الناس إليه أي إلى أمره وكلامه، وقد اتبع عوام الناس أمره في تبشيره بمحمد صلى الله عليه وسلم، وفيه إشارة إلى أن الذين ينقادون إلى شريعته صلى الله عليه وسلم، هم عوام الناس، أي ليسوا بيهود كالعرب والفرس والروم والهنود والسنود وحبشة وبعض أهل الصين، وأما اليهود فمنهم من يؤمن به، ويصير إلى كلامه، ويتبع محمداً صلى الله عليه وسلم، ومنهم من يمكث راكساً في بحيرة جهله وهواه، لأن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، فخلاصة هذا أن موسى عليه السلام قد نقل عن يعقوب أنه قال: لا تزول السلطنة والنبوة عن أولاد يهودا حتى يخرج شيلو ويبشر بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويؤمن به عوام الناس، ويستعبروا كلامه، وبعد ذلك تستقر المملكة والنبوة المتباينتان في قبيلة أخرى، وهي العرب، لما مر في هذا البرهان، وفي اجتماع كلتا الصفتين في ذاته صلى الله عليه وسلم إشارة إلى تبجيله. وفي نشيد الإنشاد: هذا صوت محبوبي فإنه أتى يقفز على الجبال ويظفر على الأتلال، إن محبوبي كالغزال، أو كخشف الأوعال، هذا هو واقف خلف جدارنا يطل من الكوة، ويظهر نفسه من الشباك، فكلمتني محبوبتي وقالت لي: قم يا محبوبي وجميلي، وتعال، فإن الشتاء قد مضى، والمطر قد انقضى، وظهر الزهر على الأرض، وقرب زمان الترنم، وقد سمع صوت اليمامة في أرضنا، وأبدت الظمخة تبنها، والكرمة عنبها الغض، فقم يا محبوبي وجميلي وتعال. انتهى. وهذا من عمدة الأمثال التي تخص محمداً صلى الله عليه وسلم، وتبشر به، وقد غفل عنه اليهود والنصارى ولم يتوجهوا له ولا لما قبله وبعده من هذا السفر، والحق أحق أن يعترف به، فإن جميع آياته تتعلق بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولكني اكتفيت منه بهذا المثال ونقلت لفظة محبوبي من الأصل الانكتاري على ما كانت عليه، وهو لفظ لو بفتح اللام وسكون الواو الانكتارية الساكنة وهي تارة تطلق على العشق وتارة على المعشوق، وكان الكاتودكيون قد ترجموها بابن أخي وأجمعوا على ذلك امتثالاً لأمر البابا سركيس، وهي في الأصل العبراني دوو كفلس بإمالة الواو، ومعناها العم أخو الأب كما ورد في أشمويل، وبنو العم كما ورد في الخروج، وابن العم، كما ورد في أرميا، ولم يفسرها أحد من اليهود بابن الأخ فعلى ترجمة الانكتاريين يكون محبوب سليمان عليه السلام محمداً صلى الله عليه وسلم، لأنه تنبىء عليه ولأنه خاتم الرسل، وعلى ترجمة الباب سركيس يكون ابن أخيه لأن محمداً صلى الله عليه وسلم من أولاد إسماعيل، وسليمان من أولاد إسحاق وهما ابنا إبراهيم عليهم السلام، فيكون كل واحد من محمد وسليمان عليهما السلام ابن أخ لصاحبه، وعلى لغة اليهود فعلى الأول فيكون سليمان قد عبر بنفسه عن بني إسرائيل وعن محمد صلى الله عليه وسلم بنفس إسماعيل فيكون عمه، وعلى الثاني يكون قد عبر عن نفسه ببني إسرائيل وعن محمد صلى الله عليه وسلم ببني إسماعيل فيكون قد عبر عنه بأولاد عمه، وعلى الثالث يكون قد عبر عن نفسه ببني إسرائيل، وعن محمد صلى الله عليه وسلم بابن إسماعيل فيكون ابن عمه، وتأنيث الضمير لأنه عبر عن نفسه بالقبيلة. والمعنى أن هذا صوت محبوبي يسمع فاسمعوه، فإنه أتى يقفز على الجبال لأنه تولد في الحجاز، وهي أرض وعرة كثيرة الجبال، ويظفر على الأتلال لأنه ربي في البر مع بني تميم، إن محبوبي كالغزال، جملة استئنافية تتضمن بعض صفاته صلى الله عليه وسلم، وذلك إشارة إلى أنه كان طويل العنق أسمر العينين، أو كخشف الأوعال عطف على كالغزال وتأكيد لها، هذا هو واقف خلف جدارنا، هذا للتحضيض في الاصطفاء لكلامه، وخلف جدارنا إشارة إلى قرب زمانه أو إلى ضرورة إتيانه، يطل من الكوة ويظهر نفسه من الشباك، إشارة إلى علو مكانه وسمو مقامه، وإلى أنه يأتي إلى بلدهم لكن لا يتوقف فيها، بل يكون فيها كالذي ينظر من الشباك، وفيه إشارة إلى المعراج الجسماني لأن قوله: يطل وينظر فيهما إشارة إلى غاية انتهاء النظر، وهو يدل على التحدُّد الجسماني وعلى ارتفاع مكان الناظر، وفيه رد على من ينكر معراجه بالجسم. فتكلمت محبوبتي وقالت، اطراد من المتكلم إلى المخاطب، والتأنيث باعتبار القبيلة أو البلد، قم يا محبوبي وجميلي وتعال، إظهار للرغبة في ظهوره صلى الله عليه وسلم، فإن الشتاء قد مضى، يريد بالشتاء مدة ما بينهما من الزمان، أو زمان الفترة بينه وبين عيسى عليه السلام، والمطر قد انقضى، يريد به الحاجب عن الظهور إما ما هو من جهة غلبة الجهل والفساد، أو ما هو من جهة تغير أحوال الخلق وانتقالهم من العيافة إلى السذاجة، وذلك لأن المطر يمنع الرجل من الخروج من كنه، وظهر الزهر على الربى، ترغيب له في الإتيان، وبيان نهي القوم لقبول دعوته، وقرب زمان الترنم، تأكيد لقوله: ظهر الزهر إلخ، وفيه إشارة إلى بيان رغبة الناس في تلاوة المصحف، وذلك مما لم يتفق لأحد من الأنبياء، فإني لم أر أمة من الأمم يتعاطون حفظ ناموسهم على الخاطر كما يفعل المسلمون من حفظ القرآن، وقد سمع صوت اليمامة في أرضنا الخ، هذا كله ماض بمعنى المستقبل الضروري الوقوع، فقم يا محبوبي وجميلي وتعال. هذا كله ظاهر الدلالة على الطلب، فإن قلت: يمكن أن لا يكون مطلب سليمان من هذا التنبيء محمداً صلى الله عليه وسلم، قلت: فحينئذ إما أن يكون كلامه يخص نبياً آخر أو معشوقاً مجازياً أو يكون مهملاً، ولا سبيل إلى كل واحد منها أما إلى الشق الأخير فلأنه كلام الله أو كلام النبي، والإهمال ممتنع عليهما أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن النبي رجل يختصه الله بتبليغ كلامه من بين أهل عصره، فيجب أن يكون عاقلاً، والعاقل لا يتكلم بالمهمل، وإلا فإذا حصل الشك في صحة بعض أنبائه يفسد اليقين بها في الكل، ولأن أكثر القوم ذهبوا إلى عصمة الأنبياء مما هو يخل بالعصمة، وأما أنه لا سبيل إلى كونه معشوقاً مجازياً، فلأنه لا يجوز للنبي أن يدخل سائر كلامه في الوحي، وإن فعله فقد عصى، ولأنه إما أن يكون ذكراً أو أنثى وعلى كلا الوجهين يلزم منه تفسيق النبي وهو باطل. وأما أنه لا سبيل إلى كونه نبياً آخر فلوجوه: الأول أن النصوص المشتبهة قد أخذها القوم من اليهود والنصارى، ولم يبق إلا ما شبهة فيه. والثاني أنه لم يتنبأ إلا على اثنين فقط، وهما يحيى بن زكريا وعيسى ابن مريم، والمثال لا يصدق على كل واحد منهما، لأن صفاته لا توجد فيهما، فلا يكون إلا محمداً صلى الله عليه وسلم، جعلني الله وإياك ممن يقتص آثاره، ويتمسك بأخباره. وفي سفر الرؤيا ما ترجمته: من كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس، إني سأطعم المظفر من شجرة الحياة التي هي في جنة الله، وفيه: من كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس، فإن المظفر لا تظهره الموتة الثانية. اهـ. وفيه أيضاًً: من كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس إني سأطعم المظفر من المن المكنون، وأعطيه حجرة بيضاء مكتوباً عليها اسم مرتجل لا يفهمه إلا من يناله، وفيه أيضاًً: وسأعطي المظفر الذي يحفظ جميع أفعالي سلطاناً على الأمم فيرعاهم بقضيب من حديد، ويسحقهم كآنية الفخار كما أخذت أنا من أبي وأعطيه أيضاًً نجمة الصبح، فمن كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس. وفيه: المظفر يلبس ثياباً بيضاء، ولا أمحو اسمه من سفر الحياة، وأعترف باسمه أمام أبي وأمام ملائكته، فمن كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس. وفيه: المظفر أجعله عموداً في هيكل الإلهي، ولا يخرج خارجاً، وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي أورشليم الجديدة التي نزلت من السماء من عند إلهي، وأكتب عليه اسمي الجديد فمن كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس. وفيه: المظفر أهب له الجلوس معي على كرسي كما ظفرت أنا أيضاًً، وجلست مع أبي على كرسيه، فمن كانت له أذن سامعة فليستمع ما تقول الروح للكنائس. أهـ. وهذه سبعة بشارات متواترة مترادفة في الإصحاح الأولى والثانية من رؤيا يوحنا بن زبدي تدل دلالة صريحة على بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وعلى نبوته العامة وقبلته الجديدة وعلو درجته، تغافل النصارى عنها وأولوها تأويلات سخيفة، وتسويلات واهية، لا تستقيم على شيء منها حجة ولا يثبت برهان، وكان الأحرى بها أن يكتب كل واحد منها على حدة. لكني أعرضت عن ذلك وكتبتها في موضع واحد، روماً للاختصار، وأحلت تفصيلها على الكتب الكبار. وقوله: فمن كانت له أذن سامعة الخ مثل قوله سبحانه وتعالى في سورة المرسلات: (ويل يومئذ للمكذبين) حيث تكررت مرات، وكان يوحنا في جزيرة أطموس في يوم الأحد فأتاه الوحي وحل عليه روح القدس، وسمع صوتاً عظيماً يقول له: إني أنا الألف والياء الأول والآخر، فاكتب ما تراه وأرسله إلى الكنائس السبع المشهورة. أعني كنيسة أفسيس وكنيسة سيمرنا وبيرغاموس وشاتيرا وسارديس دفيلا ولفية ولاذقية، وفي آخر كل كتاب كتب إلى الكنائس السبع قوله: فمن كانت له أذن سامعة الخ، وهذا ملخص الفصول المشتملة على الحجج، وإن أردت الاطلاع على العبارة جميعها فارجع إلى سفر الرؤيا وهذه الرؤيا هي ما يعتقده النصارى رؤيا رآها يوحنا تشتمل على الأخبار التي حدثت في العالم من ارتفاع المسيح إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، بل من وفاته إلى ظهور المهدي، ومن وفاة المهدي إلى قيام الساعة، ولا شك أنها تدل على ذلك وأنها كلام الله لكني لست بمطمئن من تحريفها، ومع ذلك لا شك أن أماكن الاستدلال فيها قائمة على دعائمها الأصلية. فمن جملة ذلك هذه الآيات الشريفة ولفظ المظفر في الأصل اليوناني يدل على الغالب والغازي والقاهر في الحرب، والموتة الثانية عبارة عند النصارى عن موت الإنسان في الذنب، أي انهماكه فيه لا غير، وأما البعث فإنهم يعترفون بقيام جميع الناس عند ظهور المسيح، وبخلود أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار، ولم يتعرضوا للبحث في هذا المقام، وعند اليهود عبارة عن الموتة التي لا تكون بعدها موتة، وأورشليم الجديدة عبارة عن مكة المعظمة على بادىء الرأي، لقوله: النازلة من السماء لأن أهل الإسلام قد ذهبوا إلى أن قوله أم القرى ومن حولها يفيد العموم، وقالوا: إن الحجر الأسود كان قد نزل من السماء أشد بياضاً من اللبن فسودته خطايا بني آدم، وقد رواه الترمذي وصححه، فيكون قوله: أورشليم الجديدة النازلة من السماء كناية عن مكة، وهذا من قبيل إقامة الظرف مقام المظروف، وهي في جزيرة العرب قريبة من ساحل البحر الأحمر في مجاري طول 40 درجة من الطول الجديد وعرض 20 درجة من الشمال. وفي سفر الرؤيا: ورأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة لأن السماء الأولى والأرض الأولى قد جازتا، والبحر لن يوجد بعد، وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة، نازلة من السماء، مهيأة كعروس مزينة لزوجها انتهى. وهذا من أجل البشارات الدالة على نبوته صلى الله عليه وسلم، لأن جدة الأرض والسماء تدل على تحول الأحوال، وتبدل الأمثال، وإلا فلا معنى لزوالهما قبل يوم القيامة، ولا معنى لوجود غيرهما وأما البحر فإنه قد كنى به عن الضلال الذي كان يعرض في ذلك الزمان من بعض كهنة اليهود، فإنهم لم يزالوا يدعون النبوة بالكذب وهم أول من خاض في ذلك البحر. وقوله: كالعروس الخ بيان لحسن انتظام مكة شرفها الله وزوجها هو رب الجنود صلى الله عليه وسلم. وفي أشعيا: وستخرج من قنس الأسى عصى، وينبت من عروقه غصن وستستقر عليه روح الرب أعني روح الحكمة والمعرفة والروح الشورى والعدل وروح العلم وخشية الله وتجعله ذا فكرة وقادة مستقيماً في خشية الرب فلا يقضي بمحاباة الوجوه ولا يدين بمجرد السمع. انتهى. وهذه صفات رب الجنود صلى الله عليه وسلم، بأبي هو وأمي. وفي سفر الرؤيا: فأخذتني الروح إلى جبل عظيم شامخ وأرتني المدينة العظيمة أورشليم المقدسة نازلة من السماء من عند الله وفيها مجد الله وضوؤها كالحجر الكريم كحجر اليشم والبلور وكان لها سور عظيم عال واثنا عشر باباً وعلى الأبواب اثنا عشر ملكاً وكان قد كتب عليها أسماء أسباط إسرائيل الاثني عشر انتهى. ولا تأويل لهذا النص بحيث أن يدل على غير مكة شرفها الله تعالى، والمراد بمجد الله بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، وفيه أيضاًً: ولسور المدينة اثنا عشر أساساً وعليها أسماء رسل الحمل الاثني عشر انتهى. وهذا تأكيد صريح لما قبله والاثنا عشر الأساس لعلهم الخلفاء الاثنا عشر من قريش، وفيه إشارة إلى انقياد جميع المذاهب العيسوية لشريعة خير البرية صلى الله عليهم وسلم، ولو بعد حين، وبعد ظهور المهدي، ونزول عيسى عليه السلام، وهذه الرؤية طويلة جداً وفيها دلائل على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأحوال أمته المرحومة، ولكل جملة منها تأويل حسن، ومحمل صريح، ومعنى صحيح، بحيث لا تدل إلا على هذه الأمة ونبيها صلى الله عليه وسلم. وقد أنزل بعضهم هذه الرؤيا على ما يوافق مذاهب الإمامية ولا عبرة به، لأن التبشير إنما وقع في الكتب القديمة ببعثة محمد النذير البشير صلى الله عليه وسلم، لا بغيره من عترته صلى الله عليه وسلم الكائنة إلى يوم القيامة إلا ما ورد في القرآن الكريم من كون مثل أصحابه عموماً في التوراة والإنجيل، لا على الخصوص، فلا دلالة لها على شيء من ذلك في تلك النصوص، وقد بلغ بعض الناس هذه البشارات إلى ثلاث وعشرين بشارة، وفي بعضها نظر واضح، وبعضهم إلى ثمان عشرة بشارة منها ما تقدم في هذا المقام، وفي غيره من هذا التفسير، وجلها صحيحة، ويظهر من الرجوع إلى أصول الكتب نقادة ألفاظ تراجمها نقادة عظيمة لا ينبغي مثلها في الكتب الإلهية المقدسة، ولذلك لا ترى نسخة من نسخ التوراة والإنجيل المطبوعة. لهذا العهد أو لما قبله من الزمان الكثير إلا وهي مختلفة العبارة عربية كانت أو افرنجية أو فارسية أو هندية أو تركية وهذا التفاوت والاختلاف يقضي بالتحريف والتصحيف، ويقضي منه العجب، ولا عجب على الحقيقة فإن الله سبحانه، وتعالى قد أخبرنا بذلك من قبل أن نقف عليه وننظر فيه بعين الإمعان. وقد مَنَّ الله سبحانه وتعالى في هذا الزمان على عباده المؤمنين حيث انتهض عصابة منهم للرد على النصارى باللسان والبيان، والعمل بالأركان، وأفحموهم إفحاماً يبقى عاراً عليهم إلى آخر الدهر إن شاء الله تعالى، وفن البشارات أيضاًً ما في ترجمة القرآن المجيد للقسيس سيل نقله من إنجيل برنابا ولفظه: اعلم يا برنابا أن الذنب وإن كان صغيراً يجزي الله عليه، لأن الله غير راض عن الذنب، ولما حبتني أمي وتلاميذي لأجل الدنيا أسخط الله لأجل هذا الأمر، وأراد باقتضاء عدله أن يجزيهم في هذا العالم على هذه العنيدة غير اللائقة، ليحصل لهم النجاة من عذاب جهنم، ولا يكون لهم أذية هناك. وإني وإن كنت بريئاً لكن بعض الناس لما قالوا في حقي: إنه الله وابن الله هذا القول، واقتضت مشيئته بأن لا تضحك الشياطين يوم القيامة علي، ولا يستهزئون بي، فاستحسن بمقتضى لطفه ورحمته أن يكون الضحك والاستهزاء في الدنيا بسبب موت يهوذا، ويظن كل شخص أني صلبت لكن هذه الإهانة والاستهزاء تبقيان إلى أن يجيء محمد رسول الله، فإذا جاء في الدنيا ينبه كل مؤمن على هذا الغلط، وترتفع هذه الشبهة من قلوب الناس انتهى. وهذه بشارة صريحة عظيمة، وإن قال النصارى: إن هذا الإنجيل رده مجالس علمائنا المتقدمين، وفي ترجمة كتاب أشعياء باللسان الأرمني: سبحوا الله تسبيحاً جديداً وأثر سلطنته على ظهره واسمه أحمد، وفي سفر الاستثناء قال: جاء الرب من سيناء، وأشرق لنا من ساعير، واستعلن من جبل فاران ومعه ألوف الأطهار في يمينه سنة من نار اهـ. وفاران جبل بمكة وبحيئُه من سيناء إعطاؤه التوراة لموسى، وإشراقه من ساعير إعطاؤه الإنجيل لعيسى، واستعلانه من جبل فاران إنزاله القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤيده ما في سفر التكوين في حال إسماعيل عليه السلام: وسكن برية فاران وأخذت له أمه امرأة من أرض مصر انتهى. ولا شك أن إسماعيل كان ساكناً بمكة المكرمة، زاد الله شرفها، إلى غير ذلك من الأدلة الصريحة التي ينكرها النصارى، ويؤولونها على غير محاملها، وكل من أسلم من علماء أهل الكتاب اليهود والنصارى في القرون الأولى، بل إلى الآن شهد بوجود البشارات المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والتحية في كتب العهدين العتيق والجديد. وهكذا اعترف بصحة نبوته صلى الله عليه وسلم وعموم رسالته من حمله الشقاء على عدم الإسلام، وقبول الإيمان، كهرقل عظيم الروم، ومقوقس صاحب مصر، وابن صوريا، وحُيَيُّ بن أخطب، وأبو ياسر بن أخطب، وأضرابهم، والله سبحانه وتعالى يتم نوره ولو كره الكافرون وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية. (فلما جاءهم) عيسى (بالبينات) أي بالمعجزات والآيات (قالوا هذا) الذي جاءنا به (سحر مبين) أي واضح ظاهر، وقيل: المراد محمد صلى الله عليه وسلم لما جاءهم بذلك، قالوا هذه المقالة والأولى أولى، بل هو المتبادر من السياق، وهما قولان حكاهما المفسرون قرأ الجمهور: سحر، وقرىء ساحر، وهما سبعيتان. وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب