الباحث القرآني

وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) (ولما جاء موسى لميقاتنا) اللام للاختصاص أي كان مجيئه مختصاً بالميقات المذكور بمعنى أنه جاء في الوقت الموعود، وكان يوم الخميس وكان يوم عرفة وأعطاه التوراة صبيحة يوم الجمعة يوم النحر (وكلمه ربه) أي اسمعه كلامه من غير واسطة ولا كيفية وأزال الحجاب بين موسى وبين كلامه فسمعه وليس المراد أنه أنشأ كلاماً سمعه لأن كلام الله قديم ولم نر في التفاسير هنا بيان ما فهمه موسى من ذلك الكلام. أخرج البزار وابن أبي حاتم وأبو نعيم في الحلية والبيهقي في الأسماء. والصفات من حديث جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: " لما كلم الله موسى يوم الطور كلّمه بغير الكلام الذي كلمه به يوم ناداه فقال له موسى: يا رب أهذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال يا موسى إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسن كلها وأقوى من ذلك، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا يا موسى صف لنا كلام الرحمن فقال لا تستطيعونه ألم تروا إلى أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموه فذاك قريب منه ولبس به "، وفيه دليل على كلام الله مع موسى. قال الزمخشري: تكليمه أن يخلق الكلام منطوقاً به في بعض الأجرام كما خلقه محفوظاً في الألواح انتهى وإليه ذهب المعتزلة وهو مذهب فاسد يرده الكتاب والسنة وأين للشجر وذلك الجرم أن يقول إنني أنا الله الآية. وذهب الحنابلة ومن وافقهم من أهل الحديث أن كلامه تعالى حروف وأصوات مقطعة وأنه قديم وهو الحق وقد نطق به السنة المطهرة، وقال جمهور المتكلمين: إن كلامه صفة مغايرة لهذه الحروف والأصوات وأرادوا به الكلام النفسي. ولا توجد له رائحة في السنة المطهرة، وكذا ما ذكره الشيخ في التأويلات: أن موسى سمع صوتاً دالاً على كلام الله وهو ظاهر البطلان لمخالفة نص القرآن. وقد سكت جمع من السلف والخلف عن الخوض في تأويل صفة كلام الله تعالى. وقالوا إنه متكلم بكلام قديم يليق بذاته بحرف وصوت لا يشبه كلام المخلوق ليس كمثله شيء وله المثل الأعلى. ولما سمع موسى كلام ربه عز وجل اشتاق إلى رؤيته وسأله بقوله (قال ربي أرني) أي أرني نفسك قاله الزجاج وقال ابن عباس: أعطني وأرني فعل أمر مبني على حذف الياء، والمعنى مكني من رؤيتك وهيئني لها فإن فعلت بي ذلك (أنظر إليك) فتغاير الشرط والجزاء، وبالجملة فقد سأله النظر إليه اشتياقاً إلى رؤيته لما أسمعه كلامه. وسؤال موسى للرؤية يدل على أنها جائزة عنده في الجملة، ولو كانت مستحيلة عنده لما سألها. (قال لن تراني) جملة مستأنفة لكونها جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل فما قال الله؟ والمعنى: لن تراني بعين فانية بالسؤال بل بعين باقية بالعطاء والنوال أو أنه لا يراه هذا الوقت الذي طلب رؤيته فيه أو أنه لا يرى ما دام الرائي حياً في دار الدنيا، وأما رؤيته في الآخرة فقد ثبت بالأحاديث المتواترة تواتراً لا يخفى على من يعرف السنة المطهرة، والجدال في مثل هذا والمراوغة لا تأتي بفائدة. ومنهج الحق واضح، ولكن الاعتقاد لمذهب نشأ الإنسان عليه وأدرك عليه أباه وأهل بلده مع عدم التنبه لما هو المطلوب من العباد من هذه الشريعة المطهرة يوقع في التعصب، والمتعصب وإن كان بصره صحيحاً فبصيرته عمياء وأذنه عن سماع الحق صماء، يدفع الحق وهو يظن أنه ما دفع غير الباطل، ويحسب أن ما نشأ عليه هو الحق غفلة منه وجهلاً بما أوجبه الله عليه من النظر الصحيح، وتلقّي ما جاء به الكتاب والسنة بالإذعان والتسليم. وما أقل المنصفين بعد ظهور هذه المذاهب في الأصول والفروع، فإنه صار بها باب الحق مرتجاً وطريق الإنصاف مستوعرة، والأمر لله سبحانه والهداية منه. يأبى الفتى إلا اتباع الهوى ... ومنهج الحق له واضح ولم يقل لن أُرى ليكون نفياً للجواز ولو لم يكن مرئياً لأخبر بأنه ليس بمرئي، إذ الحالة حالة الحاجة إلى البيان، وقد تمسك أهل البدع والخوارج والمعتزلة وبعض المرجئة بظاهر هذه الآية وقالوا لن للتأبيد والدوام، وهذا غلط إذ ليس يشهد لما قالوه نص عن أهل اللغة العربية ولم يقل به أحد منهم. والكتاب والسنة على خلاف ذلك فقد قال تعالى في حق اليهود (ولن يتمنوه أبداً) مع أنهم يتمنون الموت يوم القيامة كما قال تعالى (ونادوا يا مالك لِيقْض علينا ربك) وقوله (يا ليتها كانت القاضية) والسنة أكثر من أن تحمى وعبّر بلن تراني دون لن تنظر إليَّ مع أنه المطابق لقوله (أنظر إليك) لأن الرؤية هي المقصودة والنظر مقدمتها وقد يحصل دونها. وأما المطابقة في الاستدراك بقوله (ولكن انظر إلى الجبل) فواضحة لأن المقصود منه تعظيم أمر الرؤية. ومعناه أنك لا تثبت لرؤيتي ولا يثبت لها ما هو أعظم منك جرماً وصلابة وقوة وهو الجبل فانظر إليه (فإن استقر مكانه) وبقي على حاله ولم يتزلزل عند رؤيتي له (فسوف تراني) أي تثبت لرؤيتي، وإن ضعف عن ذلك فأنت منه أضعف، ولا طاقة لك، فهذا الكلام بمنزلة ضرب المثل لموسى عليه السلام بالجبل، وقيل هو من باب التعليق بالمحال، وعلى تسليم هذا فهو في الرؤية في الدنيا لما قدمنا. وقد تمسك بهذه الآية كلا طائفتي المعتزلة والأشعرية، فالمعتزلة استدلوا بقوله لن تراني كما تقدم وبأمره بأن ينظر إلى الجبل. والأشعرية قالوا: إن تعليق الرؤية باستقرار الجبل يدل على أنها جائزة غير ممتنعة، ولا يخفاك أن الرؤية الأخروية هي بمعزل عن هذا كله والخلاف بينهم هو فيها لا في الرؤية في الدنيا فقد كان الخلاف فيها في زمن الصحابة وكلامهم فيها معروف. (فلما تجلّى ربّه) تجلى معناه ظهر من قولك جلوت العروس أي أبرزتها وجلوت السيف: خلّصته من الصّدأ. وتجلى الشيء: انكشف، والمعنى فلما ظهر ربه، وقيل المتجلي هو أمره وقدرته، قاله قطرب وغيره (للجبل جعله دكاً) الدك مصدر بمعنى المفعول أي جعله مدكوكاً مدقوقاً فصار تراباً، هذه قراءة أهل المدينة وأهل البصرة والدك والدق أخوان وهو تفتيت الشيء وسحقه، وقيل تسويته بالأرض. وقرأ أهل الكوفة دكاء على التأنيث والجمع دكّاوات كحمراء وحمراوات وهي اسم للرابية الناشزة من الأرض أو للأرض المستوية. فالمعنى أن الجبل صار صغيراً كالرابية أو أرضاً مستوية. قال الكسائي: الدوك الجبال العراض واحدها أدك والدكاوات جمع دكاء وهي روابٍ من طين ليست بالغلاظ، والدكادك ما التبد من الأرض فلم يرتفع وناقة دكّاء لا سنام لها، قال سهل بن سعد الساعدي: دكاً يعني مستوياً بالأرض وقيل تراباً، وقيل ساخ حتى وقع في البحر. وقال عطية العوفي: صار رملاً هائلاً، وقال الكلبي: يعني كسر جبالاً صغاراً، قيل واسم الجبل زبير، قال الضحاك: أظهر الله من نوره مثل منخر الثور، وقال ابن سلام وكعب: ما تجلى إلا مثل سم الخياط، وقال السدي: إلا قدر الخنصر. وأخرج أحمد والترمذي والحاكم وصححاه وابن جرير وغيرهم عن أنس ابن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية جعله دكاً قال: " هكذا وأشار بأصبعيه ووضع إبهامه على أنملة الخنصر، وفي لفظ على المفصل الأعلى من الخنصر فساخ الجبل وخر موسى صعقاً، وفي لفظ فساخ الجبل في الأرض فهو يهوي فيها إلى يوم القيامة [[ابن كثير 2/ 244.]]. وهذا الحديث صحيح على شرط مسلم، وقال ابن عباس: هذا الجبل هو الطور وما تجلى منه إلا قدر الخنصر جعله تراباً، وقال سهل بن سعد: أظهر نوراً قدر الدرهم من سبعين ألف حجاب، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " لما تجلى الله للجبل صارت لعظمته ستة أجبل فوقعت ثلاثة بالمدينة وثلاثة بمكة، بالمدينة أحد وورقان ورضوى، وبمكة حراء وثبير وثور " [[ابن كثير 2/ 245.]]، أخرجه أبو الشيخ وأبو نعيم في الحلية وابن أبي حاتم وغيرهم وفي لفظ سبعة أجبل في اليمن اثنان حضور وصبر. (وخرَّ موسى) أي سقط، والخرور السقوط وقيده الراغب بسقوط يسمع له خرير، والخرير يقال لصوت الماء والريح وغير ذلك مما يسقط من علو (صعقاً) أي مغشياً عليه لهول ما رأى، مأخوذ من الصاعقة، والمعنى أنه صار حاله لما غشي عليه كحال من يغشى عليه عند إصابة الصاعقة له، يقال صعق الرجل فهو صعق ومصعوق إذا أصابته الصاعقة. قال الكلبي: صعق موسى يوم الخميس وهو يوم عرفة وأعطى التوراة يوم الجمعة يوم النحر، قال ابن عباس: فلم يزل صعقاً ما شاء الله، وقال قتادة: ميتاً والأول أولى لقوله (فلما أفاق) والميت لا إفاقة له، إنما يقال أفاق من غشيته والإفاقة رجوع الفهم والعقل إلى الإنسان بعد جنون أو سكر أو نحوهما ومنه إفاقة المريض وهي رجوع قوته وإفاقة الحلب هي رجوع الدر إلى الضّرْع. قال الواقدي: لما خر موسى صعقاً قالت الملائكة ما لابن عمران وسؤال الرؤية فلما أفاق وعرف أنه سأل أمراً عظيماً لا ينبغي له (قال سبحانك) أي أنزهك تنزيهاً من أن أسأل شيئاً لم تأذن لي به أو عن أن تُرى في الدنيا أو من النقائص كلها (تبت إليك) عن العود إلى مثل هذا السؤال. قال القرطبي: وأجمعت الأمة على أن هذه التوبة ما كانت عن معصية فإن الأنبياء معصومون وقيل هي توبته من قتله للقبطي، ذكره القشيري ولا وجه له في مثل هذا المقام، وقيل لما كانت الرؤية مخصوصة بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم فمنعها قال تبت إليك يعني من سؤال ما ليس لي، وما أبعده والأول أولى (1). (وأنا أول المؤمنين) بك قبل قومي الموجودين في هذا العصر المعترفين بعظمتك وجلالك وبأنك لا ترى في الدنيا مع جوازها [[وفي الحديث الصحيح من حديث أبي هريرة وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لا تُخَيِّروا بين الأنبياء فإن الناس يَصعَقون يوم القيامة فأرفع رأسي فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أصعق فيمن صعق فأفاق قبلي أو حُوسب بصعقته الأولى ". أو قال " كفته صعقته الأولى ". وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن كعب قال: إن الله تبارك وتعالى قسّم كلامه ورؤيته بين محمد وموسى صلى الله وسلم عليهما. ذكره القرطبي 7/ 280.]]. قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب