الباحث القرآني

(ولكل أمة) من الأمم المهلكة (أجل) أي وقت معين محدود ينزل فيه عذابهم من الله أو يميتهم فيه، ويجوز أن تحمل الآية على ما هو أعم من الأمرين جميعاً. (فإذا جاء أجلهم) أى إذا جاء أجل كل أمة من الأمم كان ما قدره عليهم واقعاً في ذلك الأجل، قيل المراد بالأجل وقت نزول العذاب، وقيل أجل الحياة والعمر، وعلى هذا لكل واحد أجل لا ينفع فيه تقديم ولا تأخير، والأجل يطلق على كل من مدة العمر بتمامها وعلى الجزء الأخير منها وأجل الشيء مدته ووقته الذي يحل فيه، وهو مصدر أجل الشيء أجلاً من باب تعب وأجل أجولاً من باب قعد لغة وأجلته تأجيلاً جعلت له أجلاً، والآجال جمع أجل مثل سبب وأسباب. (لا يستأخرون ساعة) خص الساعة بالذكر لأنها أقل أسماء الأوقات في العرف وقد استدل بالآية الجمهور على أن كل ميت يموت بأجله وإن كان موته بالقتل أو التردي أو نحو ذلك، والبحث في ذلك طويل جداً. ومثل هذه الآية قوله تعالى (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون) وكان الحسن يقول: ما أحمق هؤلاء القوم يقولون اللهم أطل عمره والله يقول (فإذا جاء أجلهم) الآية. عن ابن السيب قال: لما طعن عمر قال كعب لو دعا الله لأخر في أجله، فقيل له أليس قد قال الله فإذا جاء أجلهم الآية فقال كعب وقد قال الله وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب. (ولا يستقدمون) مستأنف معناه الإخبار بأنهم لا يسبقون أجلهم المضروب لهم بل لا بد من استيفائهم إياه كما إنهم لا يتأخرون عنه أقل زمان، وقال الحوفي وغيره إنه معطوف على (لا يستأخرون) وهذا لا يجوز وقال الواحدي، المعنى لا يستأخرون عن آجالهم إذا انقضت ولا يستقدمون عليها إذا قاربت الانقضاء. قلت هذا بناء منه على أنه معطوف على (لا يستأخرون) وهو ظاهر أقوال المفسرين وبالأول قال التفتازاني والكرخي، وقال أبو السعود: معطوف على الجواب لكن لا لبيان انتفاء التقدم مع إمكانه في نفسه كالتأخر بل للمبالغة في انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيل عقلاً. وقال القاري: حاصل كلام القاضي أن هذا بمنزلة المثل أي لا يقصد من مجموع الكلام إلا أن الوقت تقرر لا يتغير ولا يتبدل انتهى. أقول قد طال الكلام من أهل العلم على ما يظهر في بادئ الرأي من التعارض بين هذه الآيات الشريفة وهي قوله تعالى (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر) وقوله تعالى (وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله) فقيل إنها معارضة لقوله عز وجل (يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب) وقوله سبحانه (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) وقوله سبحانه (ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده). فذهب الجمهور إلى أن العمر لا يزيد ولا ينقص استدلالاً بالآيات المتقدمة وبالأحاديث الصحيحة كحديث ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: " إن أحدكم يجمع خلقه في أربعين يوماً ثم يكون علقة ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يبعث الله إليه ملكاً ويؤمر بأربع كلمات، ويقال له اكتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد " وهو في الصحيحين وغيرهما وما ورد في معناه من الأحاديث الصحيحة [[مسلم 2643 - البخاري 1514.]]. وأجابوا عن قوله عز وجل (يمحو الله ما يشاء ويثبت) بأن المعنى يمحو ما يشاء من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله ويثبت ما يشاء فلا ينسخه، وجملة الناسخ والمنسوخ عنده في أم الكتاب. ولا يخفى أن هذا تخصيص لعموم الآية بغير مخصص. وأيضاً يقال لهم: إن القلم قد جرى بما هو كائن إلى يوم القيامة كما في الأحاديث الصحيحة ومن جملة ذلك الشرائع والفرائض فهي مثل العمر إذا جاز فيها المحو والإثبات جاز في العمر المحو والإثبات. وقيل المراد بالآية محو ما في ديوان الحفظة مما ليس بحسنة ولا سيئة لأنهم مأمورون بكتب كل ما ينطق به الإنسان، ويجاب عنه بمثل الجواب الأول. وقيل يغفر الله ما يشاء من ذنوب عباده ويترك ما يشاء فلا يغفر، ويجاب عنه بمثل الجواب السابق. وقيل يمحو ما يشاء من القرون كقوله (ألم يروا كم أهلكنا قبلهم من القرون) وكقوله تعالى (ثم أنشأنا من بعدهم قرنآ آخرين) فنمحو قرناً ونثبت قرناً، ويجاب عنه أيضاً بمثل ما تقدم. وقيل هو الذي يعمل بطاعة الله ثم يعمل بمعصية الله ثم يتوب فيمحوه الله من ديوان السيئات ويثبته في ديوان الحسنات. وقيل يمحو ما يشاء يعني الدنيا ويثبت الآخرة، وقيل غير ذلك وكل هذه الأجوبة دعاوى مجردة ولا شك أن آية المحو والإثبات عامة لكل ما يشاءه الله سبحانه فلا يجوز تخصيصها إلا بمخصص، وإلا كان ذلك من التقول على الله عز وجل بما لم يقل، وقد توعد الله تعالى على ذلك وقرنه بالشرك فقال (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون). وأجابوا عن قوله تعالى (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب) بأن المراد بالمعمر الطويل العمر والمراد بالناقص القصير العمر، وفي هذا نظر لأن الضمير في قوله (ولا ينقص من عمره) يعود إلى قوله (من معمر) والمعنى على هذا وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمر ذلك المعمر إلا في كتاب، هذا ظاهر معنى النظم القرآني. وأما التأويل المذكور فإنما يتم على إرجاع الضمير المذكور إلى غير ما هو المرجع في الآية وذلك لا وجود له في النظم. وقيل: إن معنى ما يعمر من معمر ما يستقبله من عمره ومعنى لا ينقص من عمره ما قد مضى، وهذا أيضاً خلاف الظاهر لأن هذا ليس بنقص من نفس العمر والنقص يقابل الزيادة وههنا جعله مقابلاً للبقية من العمر، وليس ذلك بصحيح. وقيل المعنى (وما يعمر من معمر) من بلغ سن الهرم ولا ينقص من عمره أي من عمر آخر غير هذا الذي بلغ سن الهرم عن عمر هذا الذي بلغ سن الهرم ويجاب عنه بما تقدم. وقيل المعمر من يبلغ عمره ستين سنة والمنقوص من عمره من يموت قبل الستين، وقيل غير ذلك من التأويلات التي يردها اللفظ ويدفعها. وأجابوا عن قوله سبحانه (ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده) بأن المراد بالأجل الأول النوم والثاني الوفاة، وقيل الأول ما قد انقضى عن عمر كل أحد والثاني ما بقي من عمر كل أحد، وقيل الأول أجل الموت والثاني ما بين موته إلى بعثته، وقيل غير ذلك مما فيه مخالفة للنظم القرآني. وقال جمع من أهل العلم: إن العمر يزيد وينقص واستدلوا بالآيات المتقدمة فإن المحو والإثبات عامان يتناولان العمر والرزق والسعادة والشقاوة وغير ذلك وقد ثبت عن جماعة من السلف والصحابة ومن بعدهم أنهم كانوا يقولون في أدعيتهم اللهم إن كنت كتبتني في أهل السعادة فأثبتني منهم، وإن كنت كتبتني من أهل الشقاوة فأمحني وأثبتني في أهل السعادة، ولم يأت القائلون بمنع زيادة العمر ونقصانه ونحو ذلك بما يخصص هذا العموم. وهكذا يدل على هذا المعنى الآية الثانية فإن معناها أنه لا يطول عمر الإنسان ولا ينقص إلا وهو في كتاب أي في اللوح المحفوظ، وهكذا يدل قوله تعالى (ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده) أن للإنسان أجلين يقضي الله سبحانه بما يشاء منهما من زيادة أو نقص. ويدل على ذلك أيضاً ما في الصحيحين وغيرهما عن جماعة من الصحابة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن صلة الرحم تزيد في العمر، وفي لفظ في الصحيحين: " من أحب أن يبسط له في رزقه وأن ينسأ له في أثره فليصل رحمه " (1) وفي لفظ " من أحب أن يمد الله في عمره وأجله ويبسط له في رزقه فليتق الله وليصل رحمه " [[مسلم 2558.]]. وفي لفظ صلة الرحم وحسن الخلق وحسن الجوار يعمرن الديار ويزدن في الأعمار. ومن أعظم الأدلة ما ورد في الكتاب العزيز من الأمر للعباد بالدعاء كقوله عز وجل (أدعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) وقوله (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) وقوله (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) وقوله (واسألوا الله من فضله) والأحاديث المشتملة على الأمر بالدعاء متواترة وفيها أن الدعاء يدفع البلاء ويرد القضاء كما ثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه قال " اللهم إني أعوذ بك من سوء القضاء ودرك الشقاء وجهد البلاء وشماتة الأعداء " [[مسلم 2707 - البخاري 2401.]]. وثبت في حديث قنوت الموتر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: " وقني شر ما قضيت " (2)، فلو كان الدعاء لا يفيد شيئاً وأنه ليس للإنسان إلا ما قد سبق في القضاء الأزلي لكان أمره عز وجل لغواً لا فائدة فيه، وكذلك وعده بالإجابة للعباد الداعين له، وهكذا يكون ما ثبت في الأحاديث المتواترة المشتملة على الأمر بالدعاء وأنه عبادة لغواً لا فائدة فيه. وهكذا يكون إستعاذته صلى الله عليه وسلم من سوء القضاء لغواً لا فائدة فيه، وهكذا يكون قوله صلى الله عليه وآله وسلم: " وقني شر ما قضيت " [[أبو داود كتاب الوتر باب 5.]] لغواً لا فائدة فيه. وهكذا يكون أمره صلى الله عليه وآله وسلم بالتداوي وأن الله سبحانه ما أنزل من داء إلا وجعل له دواء لغواً لا فائدة فيه مع ثبوت الأمر بالتداوي في الصحيح عنه - صلى الله عليه وسلم -. فإن قلت فعلام يحمل ما تقدم من الآيات القاضية بأن الأجل لا يتقدم ولا يتأخر. قلت قد أجاب عن ذلك بعض السلف وتبعه بعض الخلف بأن هذه الآية مختصة بالأجل إذا حضر فإنه لا يتقدم ولا يتأخر عند حضوره، ويؤيد هذا أنها مقيدة بذلك فإنه قال (إذا جاء أجلهم) ومثل هذا التقييد المذكور في هذه الآية قوله عز وجل (ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها) وقوله سبحانه (إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر). فقد أمكن الجمع بحمل هذه الآيات على هذا المعنى، فإذا حضر الأجل لم يتأخر ولا يتقدم، وفي غير هذه الحالة يجوز أن يؤخره الله بالدعاء أو بصلة الرحم أو بفعل الخير، ويجوز أن يقدمه لمن عمل شراً أو قطع ما أمر الله به أن يوصل أو انتهك محارم الله سبحانه. فإن قلت فعلام يحمل قوله عز وجل (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) وقوله سبحانه (قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) وكذلك سائر ما ورد في هذا المعنى. قلت هذه أولاً معارضة بمثلها وذلك قوله عزو وجل (وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير) ومثل ذلك ما ثبت في الحديث الصحيح القدسي: يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد شراً فلا يلومن إلا نفسه [[صحيح الجامع الصغير 4221.]]. وثانياً بإمكان الجمع بحمل مثل قوله (إلا في كتاب) وقوله (لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا) على عدم التسبيب من العبد بأسباب الخير من الدعاء وسائر أفعال الخير، وحمل ما ورد فيما يخالف ذلك على وقوع التسبيب بأسباب الخير الموجبة بحسن القضاء واندفاع شره، وعلى وقوع التسبيب بأسباب الشر المقتضية لإصابة المكروه ووقوعه على العبد. وهكذا يكون الجمع بين الأحاديث الواردة بسبق القضاء، وأنه قد فرغ من تقدير الأجل والرزق والسعادة والشقاوة، وبين الأحاديث الواردة في صلة الرحم بأنها تزيد في العمر، وكذلك سائر أعمال الخير وكذلك الدعاء، فيحمل أحاديث الفراغ من القضاء على عدم تسبب العبد بأسباب الخير والشر، وتحمل الأحاديث الآخرة على أنه قد وقع من العبد التسبيب بأسباب الخير من الدعاء والعمل الصالح وصلة الرحم أو التسبب بأسباب الشر. فإن قلت قد تقرر بالأدلة من الكتاب والسنة بأن عمله عز وجل أزلي وأنه قد سبق في كل شيء ولا يصح أن يقدر وقوع غير ما قد علمه، وإلا انقلب العلم جهلاً وذلك لا يجوز إجماعاً. قلت: علمه عز وجل سابق أزلي وقد علم ما يكون قبل أن يكون، ولا خلاف بين أهل الحق من هذه الحيثية ولكنه غلا قوم فأبطلوا فائدة ما ثبت في الكتاب والسنة من الإرشاد إلى الدعاء وأنه يرد القضاء وما ورد من الاستعاذة منه - صلى الله عليه وسلم - من سوء القضاء، وما ورد من أنه يصاب العبد بذنبه وبما كسبت يده ونحو ذلك مما جاءت به الأدلة الصحيحة، وجعلوه مخالفاً لسبق العلم ورتبوا عليه أنه يلزم انقلاب العلم جهلاً. والأمر أوسع من هذا، والذي جاءنا بسبق العلم وأزليته هو الذي جاءنا بالأمر بالدعاء والأمر بالدواء وعرفنا بأن صلة الرحم تزيد في العمر، وأن الأعمال الصالحة تزيد فيه أيضاً وأن أعمال الشر تمحقه، وأن العبد يصاب بذنبه كما يصل إلى الخير ويندفع عنه الشر بكسب الخير والتلبس بأسبابه فأعمال بعض ما ورد في الكتاب والسنة وإهمال البعض الآخر ليس كما ينبغي، فإن الكل ثابت عن الله عز وجل وعن رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والكل شريعة واضحة وطريقة مستقيمة، والجمع ممكن بما لا إهمال فيه بشيء من الأدلة. وبيانه أن الله سبحانه كما علم أن العبد يكون له من العمر كذا أو من الرزق كذا أو هو من أهل السعادة أو الشقاوة، قد علم أنه إذا وصل رحمه زاد له في الأجل كذا أو بسط له من الرزق كذا أو صار من أهل السعادة بعد أن كان من أهل الشقاوة أو صار من أهل الشقاوة بعد أن كان من أهل السعادة، وهكذا قد علم ما يقتضيه للعبد كما علم أنه إذا دعاه واستغاث به والتجأ إليه صرف عنه الشر، ودفع عنه المكروه. وليس في ذلك خلف ولا مخالفة لسبق العلم بل فيه تقييد المسببات بأسبابها، كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب، وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر. فهل يقول عاقل بأن ربط هذه المسببات بأسبابها يقتضي خلاف العلم السابق أو ينافيه بوجه من الوجوه. فلو قال قائل: أنا لا آكل ولا أشرب بل انتظر القضاء فإن قدر الله لي ذلك كان وإن لم يقدر لم يكن، أو قال قائل انا لا أزرع الزرع ولا أغرس الشجر وأنتظر القضاء، فإن قدر الله ذلك كان وإن لم يقدره لم يكن، أو قال قائل: أنا لا أجامع زوجتي أو أمتي لتحصل لي منهما الذرية بل إن قدر الله كان وإن لم يقدره لم يكن. لكان هذا مخالفاً لما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما جاءت به كتبه وما كان عليه صلحاء الأمة وعلماؤها، بل يكون مخالفاً لما عليه هذا النوع الإنساني من أبينا آدم إلى الآن، بل مخالفاً لما عليه جميع أنواع الحيوانات في البر والبحر. فكيف ينكر وصول العبد إلى الخير بدعائه أو بعمله الصالح فإن هذا من الأسباب التي ربط الله مسبباتها بها وعلمها قبل أن تكون، فعلمه على كل تقدير أزلي في المسببات والأسباب، ولا يشك من له اطلاع على كتاب الله عز وجل ما اشتمل عليه من ترتيب حصول المسببات على أسبابها كما في قوله: (إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيآتكم) وقوله (فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدراراً ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً) وقوله (لئن شكرتم لأزيدنكم) وقوله (واتقوا الله ويعلمكم الله) وقوله (فلولا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون). وكم يعد العاد من أمثال هذه الآيات القرآنية وما ورد موردها من الأحاديث النبوية وهل ينكر هؤلاء الغلاة مثل هذا ويجعلونه مخالفاً لسبق العلم مبايناً لأزليته، فإن قالوا: نعم فقد أنكروا ما في كتاب الله عز وجل من فاتحته إلى خاتمته، وما في السنة المطهرة من أولها إلى آخرها بل أنكروا أحكام الدنيا والآخرة لأنها كلها مسببات مترتبة على أسبابها وجزاآت معلقة بشروطها ومن بلغ إلى هذا الحد في الغباوة وعدم تعقل الحجة لم يستحق المناظرة ولا ينبغي معه الكلام فيما يتعلق بالدين بل ينبغي إلزامه بإهمال أسباب ما فيه صلاح معاشه وأمر دنياه حتى ينتعش من غفلته ويستيقظ من نومته ويرجع عن ضلالته وجهالته، والهداية تبري الحول والقوة ولا خير إلا خيره. ثم يقال لهم هذه الأدعية الثابتة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في دواوين الإسلام وما يلتحق بها من كتب السنة المطهرة قد علم كل من له علم أنها كثيرة جداً بحيث لا يحيط بأكثرها إلا مؤلف بسيط ومصنف حافل، وفيها تارة استجلاب الخير وفي أخرى استدفاع الشر وتارة متعلقة بأمور الدنيا وتارة بأمور الآخرة ومن ذلك تعليمه - صلى الله عليه وسلم - لأمته ما يدعون به في صلاتهم وعقب صلاتهم وفي صيامهم وفي ليلهم ونهارهم، وعند نزول الشدائد بهم وعند وصول نعم الله إليهم. هل كان هذا كله منه - صلى الله عليه وسلم - لفائدة عائدة عليه وعلى أمته بالخير جالبة لما فيه مصلحة دافعة لما فيه مفسدة، فإن قالوا: نعم قلنا لهم فحينئذ لا خلاف بيننا وبينكم فإن هذا الاعتراف يدفع عنا وعنكم معرة الإختلاف، ويريحنا ويريحكم من التطويل بالكلام على ما أردتموه وأردناه. وإن قالوا: ليس ذلك لفائدة عائدة عليه وعلى أمته بالخير جالبة لما فيه مصلحة دافعة لما فيه مفسدة، فهم أجهل من دوابهم وليس للمحاجة لهم فائدة ولا في المناظرة معهم نفع. يا عجباً كل العجب، أما بلغهم ما كان عليه أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أول نبوته إلى أن قبضه الله من الدعاء لربه والإلحاح عليه ورفع يديه عند الدعاء حتى يبدو بياض إبطيه وحتى يسقط رداؤه كما وقع منه - صلى الله عليه وسلم - في يوم بدر، فهل يقول عاقل فضلاً عن عالم أن هذا الدعاء منه فعله - صلى الله عليه وسلم - وهو يعلم أنه لا فائدة فيه، وأنه قد سبق العلم بما هو كائن وأن هذا السبق يرفع فائدة ذلك ويقتضي عدم النفع به. ومعلوم أنه - صلى الله عليه وسلم - أعلم بربه وبقضائه وقدره وبأزليته وسبق علمه بما يكون في بريته، فلو كان الدعاء منه ومن أمته لا يفيد شيئاً ولا ينفع نفعاً لم يفعله ولا أرشد إليه الناس وأمرهم به، فإن ذلك نوع من العبث الذي تنزه عنه كل عاقل فضلاً عن خير البشر وسيد ولد آدم. ثم يقال لهم إذا كان القضاء دافعاً لا محالة وأنه لا يدفعه شيء من الدعاء والالتجاء والإلحاح والاستعانة فكيف لم يتأدب - صلى الله عليه وسلم - مع ربه، فإنه قد صح عنه أنه استعاذ بالله سبحانه من سوء القضاء كما عرفناك وقال: " وقني شر ما قضيت "، فكيف يقول هؤلاء الغلاة في الجواب عن هذا وعلى أي محمل يحملونه؟ ثم ليت شعري علام يحملون أمره سبحانه وتعالى لعباده بدعائه بقوله (ادعوني استجب لكم) ثم عقب ذلك بقوله (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين) أي عن دعائي كما صرح بذلك أئمة التفسير. فكيف يأمر عباده بالدعاء أولاً ثم يجعل تركه استكباراً منهم، ثم يرغبهم إلى الدعاء ويخبرهم أنه قريب من الداعي مجيب لدعوته بقوله (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان) ثم يقول معنوناً لكلامه الكريم بحرف يدل على الاستفهام الإنكاري والتقريع والتوبيخ (أم من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء) ثم يأمرهم بسؤاله من فضله بقوله: (واسألوا الله من فضله). فإن قالوا إن هذا الدعاء الذي أمرنا الله به وأرشدنا إليه وجعل تركه استكباراً وتوعد عليه بدخول النار مع الذل ورغب عباده إلى دعائه وعرفهم أنه قريب وأنه يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، وأنكر عليهم أن يعتقدوا أن غيره يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف ما نزل به من السوء، وأمرهم أن يسألوه من فضله ويطلبوا ما عنده من الخير. أن كل ذلك لا فائدة فيه للعبد وأنه لا ينال إلا ما قد جرى به القضاء وسبق به العلم، فقد نسبوا إلى الرب عز وجل ما لا يجوز عليه ولا تحل نسبته إليه، فإنه لا يأمر العبد إلا بما فيه فائدة يعتد بها ولا يرغبه إلا فيما يحصل له به الخير ولا يرهبه إلا عما يكون به عليه الضير ولا يعده إلا بما هو حق يترتب عليه فائدة فهو صادق الوعد لا يخلف الميعاد ولا يأمرهم بسؤاله من فضله إلا وهناك فائدة تحصل بالدعاء ويكون سببه التفضل عليهم ورفع ما هم فيه من الضر وكشف ما حل بهم من السوء. هذا معلوم لا يشك فيه، إلا من لا يعقل حجج الله ولا يفهم كلامه ولا يدري بخير ولا شر، ولا نفع ولا ضر. ومن بلغ به الجهل إلى هذه الغاية فهو حقيق بأن لا يخاطب، وقمين بأن لا يناظر، فإن هذا المسكين المنخبط في جهله المتقلب في ضلاله قد وقع فيما هو أعظم خطراً من هذا وأكثر ضرراً منه، وذلك بأن يقال له إذا كان دعاء الكفار إلى الإسلام ومقاتلتهم على الكفر وغزوهم إلى مقر ديارهم لا يأتي بفائدة ولا يعود على القائمين به من الرسل وأتباعهم وسائر المجاهدين من العباد بفائدة، وأنه ليس هناك إلا ما قد سبق من علم الله عز وجل وأنه سيدخل في الإسلام ويهتدي إلى الدين من قد علم سبحانه منه ذلك سواء قوتل أو لم يقاتل وسواء دعى إلى الحق أو لم يدع إليه. كانا هذا القتال الصادر من رسل الله وأتباعهم ضائعاً ليس فيه إلا تحصيل الحاصل وتكوين ما هو كائن فعلوا أو تركوا وحينئذ يكون الأمر بذلك عبثاً، تعالى الله عز وجل عن ذلك. وهكذا ما شرعه الله لعباده من الشرائع على لسان أنبيائه وأنزل بها كتبه يقال مثل هذا فإنه إذا كان ما قد حصل في سابق علمه عز وجل كائناً سواء بعث الله إلى عباده رسله وأنزل إليهم كتبه أو لم يفعل ذلك كان عبثاً يتعالى الرب سبحانه ويتنزه عن أن ينسب إليه. فإن قالوا: إن الله سبحانه قد سبق علمه بكل ذلك ولكنه قيده وشرطه بشروط وعلقه بأسباب فعلم مثلاً أن الكافر يسلم ويدخل في الدين بعد دعائه إلى الإسلام أو مقاتلته على ذلك، وأن العباد يعمل منهم من يعمل بما تعبدهم الله به بعد بعثة رسله إليهم وإنزال كتبه عليهم. قلنا لهم: فعليكم أن تقولوا هكذا في الدعاء وفي أعمال الخير وفي صلة الرحم ولا نطلب منكم إلا هذا، ولا نريد منكم غيره وحينئذ قد دخلتم إلى الوفاق من طريق قريبة، فعلام هذا الجدال الطويل العريض واللجاج الكبير الكثير فأنا لا نقول إلا أن الله سبحانه قد علم في سابق علمه أن فلاناً يطول عمره إذا وصل رحمه. وأن فلاناً يحصل له من الخير كذا ويندفع عنه من الشر كذا إذا دعا ربه وأن هذه المسببات مترتبة على حصول أسبابها، وهذه المشروطات مقيدة بحصول شروطها. وحينئذ فارجعوا إلى ما قدمنا ذكره من الجمع بين ما تقدم من الأدلة واستريحوا من التعب، فإنه لم يبق بيننا وبينكم خلاف من هذه الحيثية، وقد كان الصحابة مثل عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود وأبي وائل وعبد الله بن عمر يدعون الله عز وجل بأن يثبتهم في أهل السعادة إن كانوا قد كتبوا من أهل الشقاوة كما قدمنا، وهم أعلم بالله سبحانه وبما يجب له ويجوز عليه. وقال كعب الأحبار حين طعن عمر وحضرته الوفاة: والله لو دعا الله عمر أن يؤخر أجله لأخره فقيل له إن ربه عز وجل يقول (فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون) فقال هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص، وقرأ قوله تعالى (وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب). ثم قد علمنا من أهل الإسلام سابقهم ولاحقهم سيما الصالحين منهم أنهم يدعون الله عز وجل فيستجيب لهم ويحصل لهم ما طلبوه من المطالب المختلفة بعد أن كانوا فاقدين لها، ومنهم من يدعو لمريض قد أشرف على الموت بأن يشفيه الله فيعافى في الحال، ومنهم من يدعو على فاجر بأن يهلكه الله فيهلك في الحال. ومن شك في شيء من هذا فليطالع الكتب الصحيحة في أخبار الصالحين كحلية أبي نعيم وصفوة الصفوة لابن الجوزي، ورسالة القشيري فإنه يجد من هذا القبيل ما ينشرح له صدره ويثلج به قلبه، بل لكل إنسان إذا حقق حال نفسه ونظر في دعائه لربه عند عروض الشدائد وإجابته له وتفريجه عنه ما يغنيه عن البحث عن حال غيره إذا كان من المعتبرين المفكرين. وهذا نبي الله المسيح عيسى بن مريم عليه السلام كان يحيي الموتى بإذن الله ويشفي المرضى بدعائه، وهذا معلوم عنه حسبما أخبرنا الله سبحانه في كتابه الكريم، وفي الإنجيل من القصص المتضمنة لإحياء الموتى منه وشفاء المرضى بدعائه ما يعرفه من اطلع عليه. وبالجملة فهؤلاء الغلاة الذين قالوا إنه لا يقع من الله عز وجل إلا ما قد سبق به القلم وأن ذلك لا يتحول ولا يتبدل ولا يؤثر فيه دعاء ولا عمل صالح، قد خالفوا ما قدمنا من آيات الكتاب العزيز ومن الأحاديث النبوية الصحيحة من غير ملجئ إلى ذلك، فقد أمكن الجمع بما قدمناه وهو متعين، وتقديم الجمع على الترجيح متفق عليه، وهو الحق. وقد قابل هؤلاء بضد قولهم القدرية وهم معبد الجهني وأصحابه فإنهم قالوا: إن الأمر أنف أي مستأنف وقالوا: إن الله لا يعلم بالجزئيات إلا عند وقوعها تعالى الله عن ذلك، وهذا قول باطل يخالف كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وإجماع المسلمين. وقد تبرأ من مقالة معبد هذه وأصحابه من أدركهم من الصحابة منهم ابن عمر كما ثبت ذلك في الصحيح وقد غلط من ينسب مقالتهم هذه إلى المعتزلة فإنه لم يقل بها أحد منهم قط وكتبهم مصرحة بهذا ناطقة به، ولا حاجة لنا إلى نقل مقالات الرجال فقد قدمنا من أدلة الكتاب والسنة والجمع بينهما ما يكفي المنصف ويريحه من الأبحاث الطويلة العريضة الواقعة في هذه المسألة، ومن الإلزامات التي ألزم بها بعض القائلين البعض الآخر، ودين الله سبحانه بين المفرط والغالي وفي هذا المقدار كفاية لمن له هداية والله ولي التوفيق.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب