الباحث القرآني

(يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل) لما فرغ سبحانه من ذكر حال أتباع الأحبار والرهبان المتخذين لهم أرباباً، ذكر حال المتبوعين وبين إغواءهم لأراذلهم، قال الضحاك: يعني علماء اليهود والنصارى. وفي قوله: (إن كثيراً) دليل على أن الأقل منهم لم يأكلوا أموال الناس بالباطل ولم يتلبسوا بذلك بل بقوا على ما يوجبه دينهم من غير تحريف ولا تبديل ولا ميل إلى حطام الدنيا، ولعلهم الذين كانوا قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم وعبر عن أخذ الأموال بالأكل لأن المقصود الأعظم من جمع المال الأكل، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده، والباطل كتب كتبوها لم ينزلها الله فأكلوا بها أموال الناس، وذلك قوله تعالى: (فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله). وقيل المعنى أنهم يأخذونها بالوجوه الباطلة كالرشوة في تخفيف الأحكام والمسامحة في الشرائع، وقيل أنهم كانوا يدعون عند العوام والحشرات أنه لا سبيل لأحد إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلا بخدمتهم وطاعتهم وبذل الأموال في طلب مرضاتهم، والعوام كانوا يغترون بتلك الأكاذيب. وقيل التوراة كانت مشتملة على آيات دالة على مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فكانوا يذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدة ويحملونها على محامل باطلة وكانوا يأخذون الرشوة، وقيل كانوا يقررون عند عوامهم أن الدين الحق هو الذي هم عليه، فإذا قرروا ذلك قالوا وتقوية الدين الحق واجبة، ثم قالوا ولا طريق إلى تقويته إلا إذا كان أولئك الفقهاء أصحاب الأموال الكثيرة والجمع العظيم، فبهذا الطريق يحملون العوام عَلى أن يبذلوا في خدمتهم نفوسهم وأموالهم، فهذا هو الباطل الذي كانوا به يأكلون أموال الناس. قال الرازي: وهي بأسرها حاضرة في زماننا وهو الطريق لأكثر الجهال والمزورين إلى أخذ أموال العوام والحمقى من الخلق، انتهى. ولقد اقتدى بهؤلاء الأحبار والرهبان من علماء الإسلام ومشايخه من لا يأتي عليه الحصر في كل زمان، قال الرازي: ولعمري من تأمل في أحوال أهل الناموس والتزوير في زماننا وجد هذه الآيات كأنها ما أنزلت إلا في شأنهم، وفي شرح أحوالهم، فترى الواحد منهم يدعي أنه لا يلتفت إلى الدنيا ولا يتعلق خاطره بجميع المخلوقات، وأنه في الطهارة والعصمة مثل الملائكة المقربين حتى إذا آل الأمر إلى الرغيف الواحد تراه يتهالك عليه ويتحمل نهاية الذل والدناءة في تحصيله انتهى، ولنعم ما قيل: عجبت من شيخي ومن زهده ... وذكره النار وأهوالها يكره أن يشرب في فضة ... ويسرق الفضة إن نالها (ويصدون عن سبيل الله) أي عن الطريق إليه وهو دين الإسلام، وعن الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وعما كان حقاً في شريعتهم قبل نسخها بسبب أكلهم لأموال الناس بالباطل. (والذين يكنزون الذهب والفضة) قيل هم المتقدم ذكرهم من الأحبار والرهبان وأنهم كانوا يصنعون هذا الصنع، قاله معاوية بن أبي سفيان، وقيل هم من يفعل ذلك من المسلمين قاله ابن عباس، وقال السدي: نزلت في مانعي الزكاة من المسلمين، وقال أبو ذر: نزلت في أهل الكتاب وفي المسلمين جميعاً. والأولى حمل الآية على عموم اللفظ فهو أوسع من ذلك، وأصل الكنز في اللغة الضم والجمع، ولا يختص بالذهب والفضة، قال ابن جرير: الكنز كل شيء مجموع بعضه إلى بعض بطن الأرض كان أو على ظهرها انتهى، ومنه ناقة كناز أي مكتنزة اللحم، يقال كنزت المال كنزاً من باب ضرب جمعته وادخرته، وكنزت التمر في وعائه كنزاً أيضاً وهذا زمن الكناز. قال ابن السكيت: لم يسمع إلا بالفتح، وحكى الأزهري الفتح والكسر، والكنز المال المدفون معروف تسمية بالمصدر والجمع كنوز، واكتنز الشيء اكتنازاً اجتمع وامتلأ ومال مكنوز أي مجموع. واختلف أهل العلم في المال الذي أديت زكاته هل يسمى كنزاً أم لا فقال قوم: هو كنز، وقال آخرون: ليس بكنز، ومن القائلين بالأول أبو ذر وقيده بما فضل عن الحاجة، وبالثاني عمر بن الخطاب وابن عمر وابن عباس وجابر وأبو هريرة وعمر بن عبد العزيز وغيرهم وهو الحق لما سيأتي من الأدلة المصرحة بأن ما أديت زكاته فليس بكنز. أخرج أحمد في الزهد والبخاري وابن مماجة وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عمر قال: إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما نزلت الزكاة جعلها الله طهرة للأموال ثم قال: ما أبالي لو كان عندي مثل أحد ذهباً أعلم عدده وأزكيه وأعمك فيه بطاعة الله، وعن أم سلمة مرفوعاً نحوه. ولقد كان كثير من الصحابة كعبد الرحمن بن عوف وطلحة يقتنون الأموال ويتصرفون فيها وما عابهم أحد ممن أعرض عن القنية لأن الإعراض اختيار للأفضل، والاقتناء مباح لا يذم صاحبه. وعن ابن عباس: لما نزلت هذه الآية انطلق عمر واتبعه ثوبان، فأتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية فقال: " إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم "، الحديث مختصراً أخرجه أبو داود والحاكم وصححه والبيهقي وابن أبي شيبة وأبو يعلى وغيرهم [[المستدرك كتاب الزكاة 1/ 409.]]. وعن علي قال: أربعة آلاف وما دونها نفقة، وما فوقها كنز، وعن أبي أمامة قال: حلية السيوف من الكنوز ما أحدثكم إلا ما سمعت، وعن عراك ابن مالك وعمر بن عبد العزيز قالا نسختها الآية الأخرى (خذ من أموالهم صدقة) لآية. وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي زكاتها إلا جعل له يوم القيامة صفائح ثم أحمى عليها في نار جهنم ثم تكوى بها جنباه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين الناس فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار " [[مسلم 987.]]. (ولا ينفقونها في سبيل الله) اختلف في وجه إفراد الضمير مع كون المذكور قبله شيئين هما الذهب والفضة فقال ابن الأنباري: أنه قصد إلى الأعم الأغلب وهو الفضة، قال ومثله قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة) رد الكناية إلى الصلاة لأنها أعم، ومثله قوله تعالى: (وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها) أعاد الضمير إلى التجارة لأنها الأعم، وقيل أن الضمير راجع إلى الذهب، والفضة معطوفة عليه والعرب تؤنث الذهب وتذكره. وقيل الضمير راجع إلى الكنوز المدلول عليها بقوله: (يكنزون) لأنه أعم من النقدين وغيرهما، وقيل إلى الأموال، وقيل إلى الزكاة: وقيل إنه اكتفى بضمير أحدهما عن ضمير الآخر مع فهم المعنى وهو كثير في كلام العرب. وقيل أن إفراد الضمير من باب الذهاب إلى المعنى دون اللفظ، لأن كل واحد من الذهب والفضة جملة وافية وعدة كثيرة ودنانير ودراهم، فهو كقوله: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) وإنما خص الذهب والفضة بالذكر دون سائر الأموال لكونهما أثمن الأشياء وغالب ما يكنز وإن كان غيرهما له حكمهما في تحريم الكنز. (فبشرهم بعذاب أليم) هذا من باب التهكم بهم كما في قوله: *تحية نبيهم ضرب وجيع* وقيل أن البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة لتأثيره في القلب سواء كان من الفرح أو من الغم، وعن أبي ذر قال: انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: " هم الأخسرون ورب الكعبة " قال: فقلت: يا رسول الله فداك أبي وأمي من هم قال: " هم الأكثرون أموالاً إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم " الحديث مختصراً أخرجه مسلم وفرقه البخاري في موضعين [[مسلم 990 - البخاري 775.]]. يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب