الباحث القرآني

انْتِصابُ لُوطًا: بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ مَعْطُوفٍ عَلى أرْسَلْنا أيْ: وأرْسَلْنا لُوطًا، وإذْ قالَ ظَرْفٌ لِلْفِعْلِ المُقَدَّرِ ويَجُوزُ أنْ يُقَدَّرَ ( اذْكُرْ )، والمَعْنى: وأرْسَلْنا لُوطًا وقْتَ قَوْلِهِ: ﴿لِقَوْمِهِ أتَأْتُونَ الفاحِشَةَ﴾ أيِ: الفِعْلَةَ المُتَناهِيَةَ في القُبْحِ والشَّناعَةِ، وهم أهْلُ ( سَدُومَ )، وجُمْلَةُ ﴿وأنْتُمْ تُبْصِرُونَ﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ عَلى الحالِ مُتَضَمِّنَةٌ لِتَأْكِيدِ الإنْكارِ أيْ: وأنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّها فاحِشَةٌ. وذَلِكَ أعْظَمُ لِذُنُوبِكم، عَلى أنَّ ( تُبْصِرُونَ ) مِن بَصَرِ القَلْبِ، وهو العِلْمُ، أوْ بِمَعْنى النَّظَرِ، لِأنَّهم كانُوا لا يَسْتَتِرُونَ حالَ فِعْلِ الفاحِشَةِ عُتُوًّا وتَمَرُّدًا، وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ القِصَّةِ في الأعْرافِ مُسْتَوْفًى. ﴿أإنَّكم لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً﴾ فِيهِ تَكْرِيرٌ لِلتَّوْبِيخِ مَعَ التَّصْرِيحِ بِأنَّ تِلْكَ الفاحِشَةَ هي اللُّواطَةُ، وانْتِصابُ شَهْوَةٍ عَلى العِلَّةِ أيْ: لِلشَّهْوَةِ، أوْ عَلى أنَّهُ صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ: إتْيانًا شَهْوَةً، أوْ أنَّهُ بِمَعْنى الحالِ أيْ: مُشْتَهِينَ لَهم ﴿مِن دُونِ النِّساءِ﴾ أيْ: مُتَجاوِزِينَ النِّساءَ اللّاتِي هُنَّ مَحَلٌّ لِذَلِكَ ﴿بَلْ أنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ﴾ التَّحْرِيمَ أوِ العُقُوبَةَ عَلى هَذِهِ المَعْصِيَةِ، واخْتارَ الخَلِيلُ وسِيبَوَيْهِ تَخْفِيفُ الهَمْزَةِ مِن ( أئِنَّكم ) . ﴿فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إلّا أنْ قالُوا أخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِن قَرْيَتِكم إنَّهم أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ بِنَصْبِ " جَوابَ " عَلى أنَّهُ خَبَرُ كانَ، واسْمُها إلّا أنْ قالُوا أيْ: إلّا قَوْلُهم. وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ بِرَفْعِ جَوابٍ عَلى أنَّهُ اسْمُ كانَ وخَبَرُها ما بَعْدَهُ، ثُمَّ عَلَّلُوا ما أمَرُوا بِهِ بَعْضُهم بَعْضًا مِنَ الإخْراجِ بِقَوْلِهِمْ: إنَّهم أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أيْ: يَتَنَزَّهُونَ عَنْ أدْبارِ الرِّجالِ، قالُوا ذَلِكَ اسْتِهْزاءً مِنهم بِهِمْ. ﴿فَأنْجَيْناهُ وأهْلَهُ﴾ مِنَ العَذابِ ﴿إلّا امْرَأتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الغابِرِينَ﴾ أيْ: قَدَّرْنا أنَّها مِنَ الباقِينَ في العَذابِ، ومَعْنى قَدَّرْنا قَضَيْنا، قَرَأ الجُمْهُورُ " قَدَّرْنا " بِالتَّشْدِيدِ، وقَرَأ عاصِمٌ بِالتَّخْفِيفِ. والمَعْنى واحِدٌ مَعَ دَلالَةِ زِيادَةِ البِناءِ عَلى زِيادَةِ المَعْنى. ﴿وأمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَرًا﴾ هَذا التَّأْكِيدُ يَدُلُّ عَلى شِدَّةِ المَطَرِ وأنَّهُ غَيْرُ مَعْهُودٍ ﴿فَساءَ مَطَرُ المُنْذَرِينَ﴾ المَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ أيْ: ساءَ مَطَرُ المُنْذَرِينَ مَطَرَهم، والمُرادُ بِالمُنْذَرِينَ الَّذِينَ أُنْذِرُوا فَلَمْ يَقْبَلُوا، وقَدْ مَضى بَيانُ هَذا كُلِّهِ في الأعْرافِ والشُّعَراءِ. ﴿قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ﴾ قالَ الفَرّاءُ: قالَ أهْلُ المَعانِي: قِيلَ: لِلُوطٍ قُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ عَلى هَلاكِهِمْ، وخالَفَهُ جَماعَةٌ؛ فَقالُوا: إنَّ هَذا خِطابُ نَبِيِّنا - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - أيْ: قِيلَ: الحَمْدُ لِلَّهِ عَلى هَلاكِ كُفّارِ الأُمَمِ الخالِيَةِ، وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ ﴿الَّذِينَ اصْطَفى﴾ قالَ النَّحّاسُ: وهَذا أوْلى لِأنَّ القُرْآنَ مُنَزَّلٌ عَلى النَّبِيِّ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - وكُلُّ ما فِيهِ فَهو مُخاطِبٌ بِهِ إلّا ما لَمْ يَصِحَّ مَعْناهُ إلّا لِغَيْرِهِ. قِيلَ: والمُرادُ بِعِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى أمَةُ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ -، والأوْلى حَمْلُهُ عَلى العُمُومِ، فَيَدْخُلُ في ذَلِكَ الأنْبِياءُ وأتْباعُهم ﴿آللَّهُ خَيْرٌ أمْ ما﴾ أيْ: آللَّهُ الَّذِي ذَكَرْتَ أفْعالَهُ وصِفاتِهُ الدّالَّةَ عَلى (p-١٠٨٥)عَظِيمِ قُدْرَتِهِ خَيْرٌ أمّا يُشْرِكُونَ بِهِ مِنَ الأصْنامِ، وهَذِهِ الخَيْرِيَّةُ لَيْسَتْ بِمَعْناها الأصْلِيِّ، بَلْ هي كَقَوْلِ الشّاعِرِ: ؎أتَهْجُوهُ ولَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ فَشَرُّكُما لِخَيْرِكُما الفِداءُ فَيَكُونُ ما في الآيَةِ مِن بابِ التَّهَكُّمِ بِهِمْ، إذْ لا خَيْرَ فِيهِمْ أصْلًا. وقَدْ حَكى سِيبَوَيْهِ أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: السَّعادَةُ أحَبُّ إلَيْكَ أمِ الشَّقاوَةُ، ولا خَيْرَ في الشَّقاوَةِ أصْلًا. وقِيلَ: المَعْنى: أثْوابُ اللَّهِ خَيْرٌ، أمْ عُقابُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ ؟ وقِيلَ: قالَ لَهم ذَلِكَ جَرْيًا عَلى اعْتِقادِهِمْ، لِأنَّهم كانُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّ في عِبادَةِ الأصْنامِ خَيْرًا. وقِيلَ: المُرادُ مِن هَذا الِاسْتِفْهامِ الخَبَرُ. قَرَأ الجُمْهُورُ " تُشْرِكُونَ " بِالفَوْقِيَّةِ عَلى الخِطابِ، وهي اخْتِيارُ أبِي عُبَيْدٍ وأبِي حاتِمٍ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو وعاصِمٌ ويَعْقُوبُ يُشْرِكُونَ بِالتَّحْتِيَّةِ، و" أمْ " في أمّا يُشْرِكُونَ هي المُتَّصِلَةُ. و" أمْ " في قَوْلِهِ ﴿أمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ فَهي المُنْقَطِعَةُ. وقالَ أبُو حاتِمٍ: تَقْدِيرُهُ أآلِهَتُكم خَيْرٌ أمْ مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وقَدَرَ عَلى خَلْقِهِنَّ ؟ وقِيلَ: المَعْنى: أعِبادَةُ ما تَعْبُدُونَ مِن أوْثانِكم خَيْرٌ، أمْ عِبادَةُ مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ ؟ فَتَكُونُ " أمْ " عَلى هَذا مُتَّصِلَةً وفِيها مَعْنى التَّوْبِيخِ والتَّهَكُّمِ كَما في الجُمْلَةِ الأُولى. وقَرَأ الأعْمَشُ " أمَن " بِتَخْفِيفِ المِيمِ. ﴿وأنْزَلَ لَكم مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ أيْ: نَوْعًا مِنَ الماءِ، وهو المَطَرُ ﴿فَأنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ﴾ جَمْعُ حَدِيقَةٍ. قالَ الفَرّاءُ: الحَدِيقَةُ البُسْتانُ الَّذِي عَلَيْهِ حائِطٌ، فَإنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ حائِطٌ فَهو البُسْتانُ ولَيْسَ بِحَدِيقَةٍ. وقالَ قَتادَةُ وعِكْرِمَةُ: الحَدائِقُ النَّخْلُ. ﴿ذاتَ بَهْجَةٍ﴾ أيْ: ذاتَ حُسْنٍ ورَوْنَقٍ. والبَهْجَةُ: هي الحُسْنُ الَّذِي يَبْتَهِجُ بِهِ مَن رَآهُ ولَمْ يَقُلْ: ذَواتَ بَهْجَةٍ عَلى الجَمْعِ، لِأنَّ المَعْنِيَّ: جَماعَةُ حَدائِقَ. ﴿ما كانَ لَكم أنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها﴾ أيْ: ما صَحَّ لَكم أنْ تَفْعَلُوا ذَلِكَ، ومَعْنى هَذا النَّفْيِ: الحَظْرُ والمَعْنى: مَن فَعَلَ هَذا ؟ أيْ: ما كانَ لِلْبَشَرِ ولا يَتَهَيَّأُ لَهم ذَلِكَ ولا يَدْخُلُ تَحْتَ مَقْدِرَتِهِمْ لِعَجْزِهِمْ عَنْ إخْراجِ الشَّيْءِ مِنَ العَدَمِ إلى الوُجُودِ. ثُمَّ قالَ - سُبْحانَهُ - مُوَبِّخًا لَهم ومُقَرِّعًا ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ أيْ: هَلْ مَعْبُودٌ مَعَ اللَّهِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذَلِكَ بَعْضُ أفْعالِهِ حَتّى يُقْرَنَ بِهِ ويُجْعَلَ شَرِيكًا لَهُ في العِبادَةِ، وقُرِئَ " أإلَهًا مَعَ اللَّهِ " بِالنَّصْبِ عَلى تَقْدِيرِ: أتَدْعُونَ إلَهًا. ثُمَّ أضْرَبَ عَنْ تَقْرِيعِهِمْ وتَوْبِيخِهِمْ بِما تَقَدَّمَ، وانْتَقَلَ إلى بَيانِ سُوءِ حالِهِمْ مَعَ الِالتِفاتِ مِنَ الخِطابِ إلى الغَيْبَةِ فَقالَ ﴿بَلْ هم قَوْمٌ يَعْدِلُونَ﴾ أيْ: يَعْدِلُونَ بِاللَّهِ غَيْرَهُ، أوْ يَعْدِلُونَ عَنِ الحَقِّ إلى الباطِلِ، ثُمَّ شَرَعَ في الِاسْتِدْلالِ بِأحْوالِ الأرْضِ وما عَلَيْها. فَقالَ: ﴿أمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرارًا﴾ القَرارُ المُسْتَقِرُّ أيْ: دَحاها وسَوّاها بِحَيْثُ يُمْكِنُ الِاسْتِقْرارُ عَلَيْها. وقِيلَ: هَذِهِ الجُمْلَةُ وما بَعْدَها مِنَ الجُمَلِ الثَّلاثِ بَدَلٌ مِن قَوْلِهِ ﴿أمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ﴾ ولا مُلْجِئَ لِذَلِكَ، بَلْ هي وما بَعْدَها إضْرابٌ وانْتِقالٌ مِنَ التَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ بِما قَبْلَها إلى التَّوْبِيخِ والتَّقْرِيعِ بِشَيْءٍ آخَرَ ﴿وجَعَلَ خِلالَها أنْهارًا﴾ الخِلالُ: الوَسَطُ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ في قَوْلِهِ: ﴿وفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا﴾ [الكهف: ٣٣]، ﴿وجَعَلَ لَها رَواسِيَ﴾ أيْ: جِبالًا ثَوابِتَ تُمْسِكُها وتَمْنَعُها مِنَ الحَرَكَةِ ﴿وجَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ حاجِزًا﴾ الحاجِزُ: المانِعُ أيْ: جَعَلَ بَيْنَ البَحْرَيْنِ مِن قُدْرَتِهِ حاجِزًا، والبَحْرانِ هُما العَذْبُ والمالِحُ، فَلا يَخْتَلِطُ أحَدُهُما بِالآخَرِ، فَلا هَذا يُغَيِّرُ ذاكَ ولا ذاكَ يَدْخُلُ في هَذا، وقَدْ مَرَّ بَيانُهُ في سُورَةِ الفُرْقانِ ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ أيْ: إذا ثَبَتَ أنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى ذَلِكَ إلّا اللَّهُ؛ فَهَلْ إلَهٌ في الوُجُودِ يَصْنَعُ صُنْعَهُ ويَخْلُقُ خَلْقَهُ ؟ فَكَيْفَ يُشْرِكُونَ بِهِ ما لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ ﴿بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ تَوْحِيدُ رَبِّهِمْ وسُلْطانُ قُدْرَتِهِ. ﴿أمَّنْ يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دَعاهُ﴾ هَذا اسْتِدْلالٌ مِنهُ - سُبْحانَهُ - بِحاجَةِ الإنْسانِ إلَيْهِ عَلى العُمُومِ، والمُضْطَرَّ اسْمُ مَفْعُولٍ مِنَ الِاضْطِرارِ: وهو المَكْرُوبُ المَجْهُودُ الَّذِي لا حَوْلَ لَهُ ولا قُوَّةَ. وقِيلَ: هو المُذْنِبُ، وقِيلَ: هو الَّذِي عَراهُ ضُرٌّ مِن فَقْرٍ أوْ مَرَضٍ، فَألْجَأهُ إلى التَّضَرُّعِ إلى اللَّهِ. واللّامُ في المُضْطَرِّ لِلْجِنْسِ لا لِلِاسْتِغْراقِ، فَقَدْ لا يُجابُ دُعاءُ بَعْضِ المُضْطَرِّينَ لِمانِعٍ يَمْنَعُ مِن ذَلِكَ بِسَبَبٍ يُحْدِثُهُ العَبْدُ يَحُولُ بَيْنَهُ وبَيْنَ إجابَةِ دُعائِهِ، وإلّا فَقَدَ ضَمِنَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - إجابَةَ دُعاءِ المُضْطَرِّ إذا دَعاهُ، وأخْبَرَ بِذَلِكَ عَنْ نَفْسِهِ، والوَجْهُ في إجابَةِ دُعاءِ المُضْطَرِّ أنَّ ذَلِكَ الِاضْطِرارَ الحاصِلَ لَهُ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الإخْلاصُ وقَطْعُ النَّظَرِ عَمّا سِوى اللَّهِ، وقَدْ أخْبَرَ اللَّهُ - سُبْحانَهُ - بِأنَّهُ يُجِيبُ دُعاءَ المُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وإنْ كانُوا كافِرِينَ فَقالَ: ﴿حَتّى إذا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وجاءَهُمُ المَوْجُ مِن كُلِّ مَكانٍ وظَنُّوا أنَّهم أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أنْجَيْتَنا مِن هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشّاكِرِينَ﴾ [يونس: ٢٢] وقالَ: ﴿فَلَمّا نَجّاهم إلى البَرِّ إذا هم يُشْرِكُونَ﴾ [العنكبوت: ٦٥] فَأجابَهم عِنْدَ ضَرُورَتِهِمْ وإخْلاصِهِمْ مَعَ عِلْمِهِ بِأنَّهم سَيَعُودُونَ إلى شِرْكِهِمْ ﴿ويَكْشِفُ السُّوءَ﴾ أيِ: الَّذِي يَسُوءُ العَبْدَ مِن غَيْرِ تَعْيِينٍ، وقِيلَ: هو الضُّرُّ، وقِيلَ: هو الجَوْرُ ﴿ويَجْعَلُكم خُلَفاءَ الأرْضِ﴾ أيْ: يَخْلُفُ كُلُّ قَرْنٍ مِنكُمُ القَرْنَ الَّذِي قَبْلَهُ بَعْدَ انْقِراضِهِمْ، والمَعْنى: يُهْلِكُ قَرْنًا ويُنْشِئُ آخَرِينَ، وقِيلَ: يَجْعَلُ أوْلادَكم خَلَفًا مِنكم، وقِيلَ: يَجْعَلُ المُسْلِمِينَ خَلَفًا مِنَ الكُفّارِ يَنْزِلُونَ أرْضَهم ودِيارَهم ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ الَّذِي يُوَلِّيكم هَذِهِ النِّعَمَ الجِسامَ ﴿قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ﴾ أيْ: تَذَكُّرًا قَلِيلًا ما تَذْكُرُونَ. قَرَأ الجُمْهُورُ بِالفَوْقِيَّةِ عَلى الخِطابِ. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو وهِشامٌ ويَعْقُوبُ بِالتَّحْتِيَّةِ عَلى الخَبَرِ رَدًّا عَلى قَوْلِهِ ﴿بَلْ أكْثَرُهم لا يَعْلَمُونَ﴾ واخْتارَ هَذِهِ القِراءَةَ أبُو حاتِمٍ. ﴿أمَّنْ يَهْدِيكم في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ﴾ أيْ: يُرْشِدُكم في اللَّيالِي المُظَلَّماتِ إذا سافَرْتُمْ في البَرِّ أوِ البَحْرِ. وقِيلَ: المُرادُ مَفاوِزُ البَرِّ الَّتِي لا أعْلامَ لَها ولُجَجُ البِحارِ، وشَبَّهَها بِالظُّلُماتِ لِعَدَمِ ما يَهْتَدُونَ بِهِ فِيها " ومَن يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ " والمُرادُ بِالرَّحْمَةِ هُنا المَطَرُ؛ أيْ: يُرْسِلُ الرِّياحَ بَيْنَ يَدَيِ المَطَرِ، وقَبْلَ نُزُولِهِ ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ يَفْعَلُ ذَلِكَ ويُوجِدُهُ ﴿تَعالى اللَّهُ عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ أيْ: تَنَزَّهَ وتَقَدَّسَ عَنْ وُجُودِ ما يَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لَهُ. ﴿أمَّنْ يَبْدَأُ الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ﴾ كانُوا يُقِرُّونَ بِأنَّ اللَّهَ - سُبْحانَهُ - هو الخالِقُ فَألْزَمَهُمُ الإعادَةَ أيْ: إذا قَدَرَ عَلى الِابْتِداءِ (p-١٠٨٦)قَدَرَ عَلى الإعادَةِ ﴿ومَن يَرْزُقُكم مِنَ السَّماءِ والأرْضِ﴾ بِالمَطَرِ والنَّباتِ أيْ: هو خَيْرٌ أمْ ما تَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا لَهُ مِمّا لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ ﴿أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ﴾ حَتّى تَجْعَلُونَهُ شَرِيكًا ﴿قُلْ هاتُوا بُرْهانَكم إنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ﴾ أيْ: حُجَّتَكم عَلى أنْ لِلَّهِ - سُبْحانَهُ - شَرِيكًا، أوْ هاتُوا حُجَّتَكم أنَّ ثَمَّ صانِعًا يَصْنَعُ كَصُنْعِهِ، وفي هَذا تَبْكِيتٌ لَهم وتَهَكُّمٌ بِهِمْ. ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلّا اللَّهُ﴾ أيْ: لا يَعْلَمُ أحَدٌ مِنَ المَخْلُوقاتِ الكائِنَةِ في السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ، والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ إلّا اللَّهُ مُنْقَطِعٌ، أيْ: لَكِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ذَلِكَ، ورَفْعُ ما بَعْدَ إلّا مَعَ كَوْنِ الِاسْتِثْناءِ مُنْقَطِعًا هو عَلى اللُّغَةِ التَّمِيمِيَّةِ كَما في قَوْلِهِمْ: ؎إلّا اليَعافِيرُ وإلّا العِيسُ وقِيلَ: إنَّ فاعِلَ ( يَعْلَمُ ) هو ما بَعْدَ إلّا، و( مَن في السَّماواتِ ) مَفْعُولُهُ، والغَيْبُ بَدَلُ ( مَن ) أيْ: لا يَعْلَمُ غَيْبَ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ إلّا اللَّهُ، وقِيلَ: هو اسْتِثْناءٌ مُتَّصِلٌ مِن " مَن " . وقالَ الزَّجّاجُ: " إلّا اللَّهُ " بَدَلٌ مِن " مَن " . قالَ الفَرّاءُ: وإنَّما رُفِعَ ما بَعْدَ إلّا لِأنَّ ما بَعْدَها خَبَرٌ كَقَوْلِهِمْ: ما ذَهَبَ أحَدٌ إلّا أبُوكَ، وهو كَقَوْلِ الزَّجّاجِ. قالَ الزَّجّاجُ: ومَن نَصَبَ نَصَبَ عَلى الِاسْتِثْناءِ ﴿وما يَشْعُرُونَ أيّانَ يُبْعَثُونَ﴾ أيْ: لا يَشْعُرُونَ مَتى يُنْشَرُونَ مِنَ القُبُورِ، و" أيّانَ " مُرَكَّبَةٌ مِن أيَّ، وإنَّ، وقَدْ تَقَدَّمَ تَحْقِيقُهُ، والضَّمِيرُ لِلْكَفَرَةِ. وقَرَأ السُّلَمِيُّ " إيّانَ " بِكَسْرِ الهَمْزَةِ، وهي لُغَةُ بَنِي سَلِيمٍ وهي مَنصُوبَةٌ بِـ يُبْعَثُونَ ومُعَلِّقَةٌ لِ يَشْعُرُونَ، فَتَكُونُ هي وما بَعْدَها في مَحَلِّ نَصْبٍ بِنَزْعِ الخافِضِ أيْ: وما يَشْعُرُونَ بِوَقْتِ بَعْثِهِمْ، ومَعْنى أيّانَ مَعْنى ( مَتى ) . ﴿بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ﴾ قَرَأ الجُمْهُورُ ادّارَكَ وأصْلُ ادّارَكَ تَدارَكَ، أُدْغِمَتِ التّاءُ في الدّالِ وجِيءَ بِهَمْزَةِ الوَصْلِ لِيُمْكِنَ الِابْتِداءُ بِالسّاكِنِ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ وابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو وحُمَيْدٌ " بَلْ أدْرَكَ " مِنَ الإدْراكِ. وقَرَأ عَطاءُ بْنُ يَسارٍ وسُلَيْمانُ بْنُ يَسارٍ، والأعْمَشُ " بَلَ ادَّرَكَ " بِفَتْحِ لامِ بَلْ وتَشْدِيدِ الدّالِّ. وقَرَأ ابْنُ مُحَيْصِنٍ " بَلْ أدْرَكَ " عَلى الِاسْتِفْهامِ. وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو رَجاءٍ وشَيْبَةُ، والأعْمَشُ والأعْرَجُ " بَلى أدّارَكَ " بِإثْباتِ الياءِ في بَلْ وبِهَمْزَةِ قَطْعٍ وتَشْدِيدِ الدّالِّ. وقَرَأ أُبَيٌّ " بَلْ تَدارَكَ " ومَعْنى الآيَةِ: بَلْ تَكامَلَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ؛ لِأنَّهم رَأوْا كُلَّ ما وُعِدُوا بِهِ وعايَنُوهُ. وقِيلَ: مَعْناهُ: تَتابَعَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ، والقِراءَةُ الثّانِيَةُ مَعْناها: كُلُّ عِلْمِهِمْ في الآخِرَةِ مَعَ المُعايَنَةِ، وذَلِكَ حِينَ لا يَنْفَعُهُمُ العِلْمُ لِأنَّهم كانُوا في الدُّنْيا مُكَذِّبِينَ. وقالَ الزَّجّاجُ: إنَّهُ عَلى مَعْنى الإنْكارِ، واسْتُدِلَّ عَلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ فِيما بَعْدُ ﴿بَلْ هم مِنها عَمُونَ﴾ أيْ: لَمْ يُدْرِكْ عِلْمُهم عِلْمَ الآخِرَةِ، وقِيلَ: المَعْنى: بَلْ ضَلَّ وغابَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ فَلَيْسَ لَهم عِلْمٌ، ومَعْنى القِراءَةِ الثّالِثَةِ كَمَعْنى القِراءَةِ الأُولى، فافْتَعَلَ وتَفاعَلَ قَدْ يَجِيئانِ لِمَعْنًى، والقِراءَةُ الرّابِعَةُ هي بِمَعْنى الإنْكارِ. قالَ الفَرّاءُ: وهو وجْهٌ حَسَنٌ كَأنَّهُ وجَّهَهُ إلى المُكَذِّبِينَ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِهْزاءِ بِهِمْ، وفي الآيَةِ قِراءاتٌ أُخَرُ لا يَنْبَغِي الِاشْتِغالُ بِذِكْرِها وتَوْجِيهِها. ﴿بَلْ هم في شَكٍّ مِنها﴾ أيْ: بَلْ هُمُ اليَوْمَ في الدُّنْيا في شَكٍّ مِنَ الآخِرَةِ، ثُمَّ أضْرَبَ عَنْ ذَلِكَ إلى ما هو أشَدُّ مِنهُ فَقالَ: ﴿بَلْ هم مِنها عَمُونَ﴾ فَلا يُدْرِكُونَ شَيْئًا مِن دَلائِلِها لِاخْتِلالِ بَصائِرِهِمُ الَّتِي يَكُونُ بِها الإدْراكُ، و" عَمُونَ " جَمْعُ عَمٍ، وهو مَن كانَ أعْمى القَلْبِ، والمُرادُ بَيانُ جَهْلِهِمْ بِها عَلى وجْهٍ لا يَهْتَدُونَ إلى شَيْءٍ مِمّا يُوَصِّلُ إلى العِلْمِ بِها، فَمَن قالَ: أنَّ مَعْنى الآيَةِ الأُولى أعْنِي ﴿بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ﴾ أنَّهُ كَمُلَ عِلْمُهم وتَمَّ مَعَ المُعايَنَةِ فَلا بُدَّ مِن حَمْلِ قَوْلِهِ: ﴿بَلْ هم في شَكٍّ﴾ إلَخْ عَلى ما كانُوا عَلَيْهِ في الدُّنْيا، ومَن قالَ: إنَّ مَعْنى الآيَةِ الأُولى الِاسْتِهْزاءُ بِهِمْ، والتَّبْكِيتُ لَهم، لَمْ يَحْتَجْ إلى تَقْيِيدِ قَوْلِهِ ﴿بَلْ هم في شَكٍّ﴾ إلَخْ بِما كانُوا عَلَيْهِ في الدُّنْيا. وبِهَذا يَتَّضِحُ مَعْنى هَذِهِ الآياتِ ويَظْهَرُ ظُهُورًا بَيِّنًا. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ والبَزّارُ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: ﴿وسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى﴾ قالَ: هم أصْحابُ مُحَمَّدٍ - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - اصْطَفاهُمُ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ، ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ. والأوْلى ما قَدَّمْناهُ مِنَ التَّعْمِيمِ؛ فَيَدْخُلُ في ذَلِكَ أصْحابُ نَبِيِّنا - صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ - دُخُولًا أوَّلِيًّا. وأخْرَجَ أحْمَدُ وأبُو داوُدَ، والنَّسائِيُّ والطَّبَرانِيُّ عَنْ رَجُلٍ مِن بَلْجَهْمِ، قالَ «قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ إلى ما تَدْعُو ؟ قالَ: أدْعُو اللَّهَ وحْدَهُ الَّذِي إنْ مَسَّكَ ضُرٌّ فَدَعَوْتَهُ كَشْفَهُ عَنْكَ» هَذا طَرَفٌ مِن حَدِيثٍ طَوِيلٍ. وقَدْ رَواهُ أحْمَدُ مِن وجْهٍ آخَرَ فَبَيَّنَ اسْمَ الصَّحابِيِّ فَقالَ: حَدَّثَنا عَفّانُ، حَدَّثَنا حَمّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنا يُونُسُ، حَدَّثَنا عُبَيْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ الهُجَيْمِيُّ عَنْ أبِيهِ عَنْ أبِي تَمِيمَةَ الهُجَيْمِيِّ عَنْ جابِرِ بْنِ سُلَيْمٍ الهُجَيْمِيِّ. ولِهَذا الحَدِيثِ طُرُقٌ عِنْدَ أبِي داوُدَ، والنَّسائِيِّ. وأخْرَجَ البُخارِيُّ، ومُسْلِمٌ وغَيْرُهُما مِن حَدِيثِ عائِشَةَ قالَتْ " ثَلاثَةٌ مَن تَكَلَّمَ بِواحِدَةٍ مِنهم فَقَدْ أعْظَمَ عَلى اللَّهِ الفِرْيَةَ " واللَّهُ - تَعالى - يَقُولُ: ﴿قُلْ لا يَعْلَمُ مَن في السَّماواتِ والأرْضِ الغَيْبَ إلّا اللَّهُ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ﴿بَلِ ادّارَكَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ﴾ قالَ: حِينَ لا يَنْفَعُ العِلْمُ. وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ في فَضائِلِهِ وسَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنْهُ أنَّهُ قَرَأ بَلِ ادَّرَكَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ قالَ: لَمْ يُدْرَكْ عِلْمُهم. قالَ أبُو عُبَيْدٍ: يَعْنِي أنَّهُ قَرَأها بِالِاسْتِفْهامِ. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْهُ أيْضًا بَلِ ادَّرَكَ عِلْمُهم في الآخِرَةِ يَقُولُ: غابَ عِلْمُهم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب