الباحث القرآني

﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا واذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكم إذْ كُنْتُمْ أعْداءً فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكم فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوانًا وكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكم مِنها كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكم آياتِهِ لَعَلَّكم تَهْتَدُونَ﴾ . (p-٣٠)انْتَقَلَ مِن تَحْذِيرِ المُخاطَبِينَ مِنَ الِانْخِداعِ لِوَساوِسِ بَعْضِ أهْلِ الكِتابِ، إلى تَحْرِيضِهِمْ عَلى تَمامِ التَّقْوى، لِأنَّ في ذَلِكَ زِيادَةَ صَلاحٍ لَهم ورُسُوخًا لِإيمانِهِمْ، وهو خِطابٌ لِأصْحابِ مُحَمَّدٍ ﷺ ويَسْرِي إلى جَمِيعِ مَن يَكُونُ بَعْدَهم. وهَذِهِ الآيَةُ أصْلٌ عَظِيمٌ مِن أُصُولِ الأخْلاقِ الإسْلامِيَّةِ. والتَّقْوى تَقَدَّمَ تَفْسِيرُها عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِينَ﴾ [البقرة: ٢] . وحاصِلُ امْتِثالِ الأمْرِ، واجْتِنابُ المَنهِيِّ عَنْهُ في الأعْمالِ الظّاهِرَةِ، والنَّوايا الباطِلَةِ. وحَقُّ التَّقْوى هو أنْ لا يَكُونَ فِيها تَقْصِيرٌ، وتَظاهُرٌ بِما لَيْسَ مِن عَمَلِهِ، وذَلِكَ هو مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦] لِأنَّ الِاسْتِطاعَةَ هي القُدْرَةُ، والتَّقْوى مَقْدُورٌ لِلنّاسِ. وبِذَلِكَ إنْ لَمْ يَكُنْ تَعارُضٌ بَيْنَ الآيَتَيْنِ، ولا نَسْخٌ، وقِيلَ: هاتِهِ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦] لِأنَّ هاتِهِ دَلَّتْ عَلى تَقْوى كامِلَةٍ كَما فَسَّرَها ابْنُ مَسْعُودٍ: أنْ يُطاعَ فَلا يُعْصى، ويُشْكَرَ فَلا يُكْفَرَ، ويُذْكَرَ فَلا يُنْسى، ورَوَوْا أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لَمّا نَزَلَتْ قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ مَن يَقْوى لِهَذا فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿فاتَّقُوا اللَّهَ ما اسْتَطَعْتُمْ﴾ [التغابن: ١٦] فَنَسَخَ هَذِهِ بِناءً عَلى أنَّ الأمْرَ في الآيَتَيْنِ في الوُجُوبِ، وعَلى اخْتِلافِ المُرادِ مِنَ التَّقَوَيَيْنِ. والحَقُّ أنَّ هَذا بَيانٌ لا نَسْخٌ، كَما حَقَّقَهُ المُحَقِّقُونَ، ولَكِنْ شاعَ عِنْدَ المُتَقَدِّمِينَ إطْلاقُ النَّسْخِ عَلى ما يَشْمَلُ البَيانَ. والتُّقاةُ اسْمُ مَصْدَرِ. اتَّقى وأصْلُهُ وُقَيَةٌ ثُمَّ وُقاةٌ ثُمَّ أُبْدِلَتِ الواوُ تاءً تَبَعًا لِإبْدالِها في الِافْتِعالِ إبْدالًا قَصَدُوا مِنهُ الإدْغامَ. كَما تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿إلّا أنْ تَتَّقُوا مِنهم تُقاةً﴾ [آل عمران: ٢٨] . وقَوْلُهُ ﴿ولا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ نُهِيَ عَنْ أنْ يَمُوتُوا عَلى حالَةٍ في الدِّينِ إلّا عَلى حالَةِ الإسْلامِ فَمَحَطُّ النَّهْيِ هو القَيْدُ: أعْنِي المُسْتَثْنى مِنهُ المَحْذُوفَ والمُسْتَثْنى هو جُمْلَةُ الحالِ، لِأنَّها اسْتِثْناءٌ مِن أحْوالٍ، وهَذا المُرَكَّبُ مُسْتَعْمَلٌ في غَيْرِ مَعْناهُ لِأنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ في النَّهْيِ عَنْ مُفارَقَةِ الدِّينِ بِالإسْلامِ (p-٣١)مُدَّةَ الحَياةِ، وهو مَجازٌ تَمْثِيلِيٌّ عِلاقَتُهُ اللُّزُومُ، لِما شاعَ بَيْنَ النّاسِ مِن أنَّ ساعَةَ المَوْتِ أمْرٌ غَيْرُ مَعْلُومٍ كَما قالَ الصِّدِّيقُ: ؎كُلُّ امْرِئٍ مُصَبَّحٌ في أهْلِهِ والمَوْتُ أدْنى مِن شِراكِ نَعْلِهِ فالنَّهْيُ عَنِ المَوْتِ عَلى غَيْرِ الإسْلامِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ مُفارَقَةِ الإسْلامِ في سائِرِ أحْيانِ الحَياةِ، ولَوْ كانَ المُرادُ بِهِ مَعْناهُ الأصْلِيُّ لَكانَ تَرْخِيصًا في مُفارَقَةِ الإسْلامِ إلّا عِنْدَ حُضُورِ المَوْتِ، وهو مَعْنًى فاسِدٌ وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿فَلا تَمُوتُنَّ إلّا وأنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [البقرة: ١٣٢] . وقَوْلُهُ ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا ولا تَفَرَّقُوا﴾ ثَنّى أمْرَهم بِما فِيهِ صَلاحُ أنْفُسِهِمْ لَأُخْراهم، بِأمْرِهِمْ بِما فِيهِ صَلاحُ حالِهِمْ في دُنْياهم، وذَلِكَ بِالِاجْتِماعِ عَلى هَذا الدِّينِ وعَدَمِ التَّفَرُّقِ لِيَكْتَسِبُوا بِاتِّحادِهِمْ قُوَّةً ونَماءً. والِاعْتِصامُ افْتِعالٌ مِن عَصَمَ وهو طَلَبُ ما يَعْصِمُ أيْ يَمْنَعُ. والحَبْلُ: ما يُشَدُّ بِهِ لِلِارْتِقاءِ، أوِ التَّدَلِّي، أوْ لِلنَّجاةِ مِن غَرَقٍ، أوْ نَحْوِهِ، والكَلامُ تَمْثِيلٌ لِهَيْئَةِ اجْتِماعِهِمْ والتِفافِهِمْ عَلى دِينِ اللَّهِ ووَصاياهُ وعُهُودِهِ بِهَيْئَةِ اسْتِمْساكِ جَماعَةٍ بِحَبْلٍ أُلْقِيَ إلَيْهِمْ مُنْقِذٍ لَهم مِن غَرَقٍ أوْ سُقُوطٍ، وإضافَةُ الحَبْلِ إلى اللَّهِ قَرِينَةُ هَذا التَّمْثِيلِ. وقَوْلُهُ جَمِيعًا حالٌ وهو الَّذِي رَجَّحَ إرادَةَ التَّمْثِيلِ، إذْ لَيْسَ المَقْصُودُ الأمْرَ بِاعْتِصامِ كُلِّ مُسْلِمٍ في حالِ انْفِرادِهِ اعْتِصامًا بِهَذا الدِّينِ، بَلِ المَقْصُودُ الأمْرُ بِاعْتِصامِ الأُمَّةِ كُلِّها، ويَحْصُلُ في ضِمْنِ ذَلِكَ أمْرُ كُلِّ واحِدٍ بِالتَّمَسُّكِ بِهَذا الدِّينِ، فالكَلامُ لَهم بِأنْ يَكُونُوا عَلى هاتِهِ الهَيْئَةِ، وهَذا هو الوَجْهُ المُناسِبُ لِتَمامِ البَلاغَةِ لِكَثْرَةِ ما فِيهِ مِنَ المَعانِي. ويَجُوزُ أنْ يُسْتَعارَ الِاعْتِصامُ لِلتَّوْثِيقِ بِالدِّينِ وعُهُودِهِ، وعَدَمِ الِانْفِصالِ عَنْهُ، ويُسْتَعارُ الحَبْلُ لِلدِّينِ والعُهُودِ كَقَوْلِهِ ﴿إلّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وحَبْلٍ مِنَ النّاسِ﴾ [آل عمران: ١١٢] ويَكُونُ كُلٌّ مِنَ الِاسْتِعارَتَيْنِ تَرْشِيحًا لِلْأُخْرى، لِأنَّ مَبْنى التَّرْشِيحِ عَلى اعْتِبارِ تَقْوِيَةِ التَّشْبِيهِ في نَفْسِ السّامِعِ، وذَلِكَ يَحْصُلُ لَهُ بِمُجَرَّدِ سَماعِ لَفْظِ ما هو مِن مُلائِماتِ المُسْتَعارِ، بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِ ذَلِكَ المُلائِمِ مُعْتَبَرَةٌ فِيهِ اسْتِعارَةٌ أُخْرى، إذْ (p-٣٢)لا يَزِيدُهُ ذَلِكَ الِاعْتِبارُ إلّا قُوَّةً، لَيْسَتِ الِاسْتِعارَةُ بِوَضْعِ اللَّفْظِ في مَعْنًى جَدِيدٍ حَتّى يَتَوَهَّمَ مُتَوَهِّمٌ أنَّ تِلْكَ الدَّلالَةَ الجَدِيدَةَ، الحاصِلَةَ في الِاسْتِعارَةِ الثّانِيَةِ، صارَتْ غَيْرَ مُلائِمَةٍ لِمَعْنى المُسْتَعارِ في الِاسْتِعارَةِ الأُخْرى، وإنَّما هي اعْتِباراتٌ لَطِيفَةٌ تَزِيدُ كَثْرَتُها الكَلامَ حُسْنًا. وقَرِيبٌ مِن هَذا التَّوْرِيَةُ، فَإنَّ فِيها حُسْنًا بِإيهامِ أحَدِ المَعْنَيَيْنِ مَعَ إرادَةِ غَيْرِهِ، ولا شَكَّ أنَّهُ عِنْدَ إرادَةِ غَيْرِهِ لا يَكُونُ المَعْنى الآخَرُ مَقْصُودًا، وفي هَذا الوَجْهِ لا يَكُونُ الكَلامُ صَرِيحًا في الأمْرِ بِالِاجْتِماعِ عَلى الدِّينِ بَلْ ظاهِرُهُ أنَّهُ أمْرُ المُؤْمِنِينَ بِالتَّمَسُّكِ بِالدِّينِ فَيَئُولُ إلى أمْرِ كُلِّ واحِدٍ مِنهم بِذَلِكَ عَلى ما هو الأصْلُ في مَعْنى مِثْلِ هَذِهِ الصِّيغَةِ ويَصِيرُ قَوْلُهُ جَمِيعًا مُحْتَمِلًا لِتَأْكِيدِ العُمُومِ المُسْتَفادِ مِن واوِ الجَماعَةِ. وقَوْلُهُ ﴿ولا تَفَرَّقُوا﴾ تَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِ اعْتَصَمُوا جَمِيعًا كَقَوْلِهِ: ذَمَمْتُ ولَمْ تُحْمَدْ. عَلى الوَجْهِ الأوَّلِ في تَفْسِيرِ ﴿واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا﴾ . وأمّا عَلى الوَجْهِ الثّانِي فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿ولا تَفَرَّقُوا﴾ أمْرًا ثانِيًا لِلدَّلالَةِ عَلى طَلَبِ الِاتِّحادِ في الدِّينِ، وقَدْ ذَكَرْنا أنَّ الشَّيْءَ قَدْ يُؤَكَّدُ بِنَفْيِ ضِدِّهِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿قَدْ ضَلُّوا وما كانُوا مُهْتَدِينَ﴾ [الأنعام: ١٤٠] في سُورَةِ الأنْعامِ وفي الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى أنَّ الأمْرَ بِالشَّيْءِ يَسْتَلْزِمُ النَّهْيَ عَنْ ضِدِّهِ. وقَوْلُهُ ﴿واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ تَصْوِيرًا لِحالِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها لِيَحْصُلَ مِنِ اسْتِفْظاعِها انْكِشافُ فائِدَةِ الحالَةِ الَّتِي أُمِرُوا بِأنْ يَكُونُوا عَلَيْها وهي الِاعْتِصامُ جَمِيعًا بِجامِعَةِ الإسْلامِ الَّذِي كانَ سَبَبَ نَجاتِهِمْ مِن تِلْكَ الحالَةِ، وفي ضِمْنِ ذَلِكَ تَذْكِيرٌ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعالى، الَّذِي اخْتارَ لَهم هَذا الدِّينَ، وفي ذَلِكَ تَحْرِيضٌ عَلى إجابَةِ أمْرِهِ تَعالى إيّاهم بِالِاتِّفاقِ. والتَّذْكِيرُ بِنِعْمَةِ اللَّهِ تَعالى طَرِيقٌ مِن طُرُقِ مَواعِظِ الرُّسُلِ. قالَ تَعالى حِكايَةً عَنْ هُودٍ ﴿واذْكُرُوا إذْ جَعَلَكم خُلَفاءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ﴾ [الأعراف: ٦٩] وقالَ عَنْ شُعَيْبٍ ﴿واذْكُرُوا إذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ﴾ [الأعراف: ٨٦] وقالَ اللَّهُ لِمُوسى ﴿وذَكِّرْهم بِأيّامِ اللَّهِ﴾ [إبراهيم: ٥] . وهَذا التَّذْكِيرُ خاصٌّ بِمَن أسْلَمَ بَعْدَ أنْ كانَ في الجاهِلِيَّةِ، لِأنَّ الآيَةَ خِطابٌ (p-٣٣)لِلصَّحابَةِ ولَكِنَّ المِنَّةَ بِهِ مُسْتَمِرَّةٌ عَلى سائِرِ المُسْلِمِينَ، لِأنَّ كُلَّ جِيلٍ يُقَدِّرُ أنْ لَوْ لَمْ يَسْبِقْ إسْلامُ الجِيلِ الَّذِي قَبْلَهُ لَكانُوا هم أعْداءً وكانُوا عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ. والظَّرْفِيَّةُ في قَوْلِهِ ﴿إذْ كُنْتُمْ أعْداءً﴾ مُعْتَبَرٌ فِيها التَّعْقِيبُ مِن قَوْلِهِ فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكم إذِ النِّعْمَةُ لَمْ تَكُنْ عِنْدَ العَداوَةِ، ولَكِنْ عِنْدَ حُصُولِ التَّأْلِيفِ عَقِبَ تِلْكَ العَداوَةِ. والخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ وهم يَوْمَئِذٍ المُهاجِرُونَ والأنْصارُ وأفْرادٌ قَلِيلُونَ مِن بَعْضِ القَبائِلِ القَرِيبَةِ، وكانَ جَمِيعُهم قَبْلَ الإسْلامِ في عَداوَةٍ وحُرُوبٍ، فالأوْسُ والخَزْرَجُ كانَتْ بَيْنَهم حُرُوبٌ دامَتْ مِائَةً وعِشْرِينَ سَنَةً قَبْلَ الهِجْرَةِ، ومِنها كانَ يَوْمُ بُعاثٍ، والعَرَبُ كانُوا في حُرُوبٍ وغاراتٍ بَلْ وسائِرُ الأُمَمِ الَّتِي دَعاها الإسْلامُ كانُوا في تَفَرُّقٍ وتَخاذُلٍ فَصارَ الَّذِينَ دَخَلُوا في الإسْلامِ إخْوانًا وأوْلِياءَ بَعْضُهم لِبَعْضٍ، لا يَصُدُّهم عَنْ ذَلِكَ اخْتِلافُ أنْسابٍ، ولا تَباعُدُ مَواطِنَ، ولَقَدْ حاوَلَتْ حُكَماؤُهم وأُولُو الرَّأْيِ مِنهُمُ التَّأْلِيفَ بَيْنَهم، وإصْلاحَ ذاتِ بَيْنِهِمْ، بِأفانِينِ الدَّعايَةِ مِن خَطابَةٍ وجاهٍ وشِعْرٍ فَلَمْ يَصِلُوا إلى ما ابْتَغَوْا حَتّى ألَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بِالإسْلامِ فَصارُوا بِذَلِكَ التَّأْلِيفِ بِمَنزِلَةِ الإخْوانِ. (p-٣٤)والإخْوانُ جَمْعُ الأخِ، مِثْلُ الإخْوَةِ، وقِيلَ: يَخْتَصُّ الإخْوانُ بِالأخِ المَجازِيِّ والإخْوَةُ بِالأخِ الحَقِيقِيِّ، ولَيْسَ بِصَحِيحٍ قالَ تَعالى: ﴿أوْ بُيُوتِ إخْوانِكُمْ﴾ [النور: ٦١] وقالَ ﴿إنَّما المُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ﴾ [الحجرات: ١٠] ولَيْسَ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ لِلْمَعْنى المَجازِيِّ صِيغَةٌ خاصَّةٌ في الجَمْعِ أوِ المُفْرَدِ وإلّا لَبَطَلَ كَوْنُ اللَّفْظِ مَجازًا وصارَ مُشْتَرَكًا، لَكِنْ لِلِاسْتِعْمالِ أنْ يُغَلِّبَ إطْلاقُ إحْدى الصِّيغَتَيْنِ المَوْضُوعَتَيْنِ لِمَعْنًى واحِدٍ فَيُغَلِّبُها في المَعْنى المَجازِيِّ والأُخْرى في الحَقِيقِيِّ. وقَدِ امْتَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِتَغْيِيرِ أحْوالِهِمْ مِن أشْنَعِ حالَةٍ إلى أحْسَنِها: فَحالَةٌ كانُوا عَلَيْها هي حالَةُ العَداوَةِ والتَّفانِي والتَّقاتُلِ، وحالَةٌ أصْبَحُوا عَلَيْها وهي حالَةُ الأُخُوَّةِ ولا يُدْرِكُ الفَرْقَ بَيْنَ الحالَيْنِ إلّا مَن كانُوا في السُّوأى فَأصْبَحُوا في الحُسْنى، والنّاسُ إذا كانُوا في حالَةِ بُؤْسٍ وضَنْكٍ واعْتادُوها صارَ الشَّقاءُ دَأْبَهَمْ، وذَلَّتْ لَهُ نُفُوسُهم فَلَمْ يَشْعُرُوا بِما هم فِيهِ، ولا يَتَفَطَّنُوا لِوَخِيمِ عَواقِبِهِ، حَتّى إذا هُيِّئَ لَهُمُ الصَّلاحُ، وأخَذَ يَتَطَرَّقُ إلَيْهِمُ اسْتَفاقُوا مِن شَقْوَتِهِمْ، وعَلِمُوا سُوءَ حالَتِهِمْ، ولِأجْلِ هَذا المَعْنى جَمَعَتْ لَهم هَذِهِ الآيَةُ في الِامْتِنانِ بَيْنَ ذِكْرِ الحالَتَيْنِ وما بَيْنَهُما فَقالَتْ ﴿إذْ كُنْتُمْ أعْداءً فَألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكم فَأصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إخْوانًا﴾ . وقَوْلُهُ بِنِعْمَتِهِ الباءُ فِيهِ لِلْمُلابَسَةِ بِمَعْنى (مَعَ) أيْ أصْبَحْتُمْ إخْوانًا مُصاحِبِينَ نِعْمَةَ اللَّهِ وهي نِعْمَةُ الأُخُوَّةِ، كَقَوْلِ الفَضْلِ بْنِ عَبّاسِ بْنِ عُتْبَةَ اللِّهْبِيِّ: ؎كُلٌّ لَهُ نِيَّةٌ في بُغْضِ صاحِبِهِ ∗∗∗ بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكم وتَقْلُونا وقَوْلُهُ ﴿وكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النّارِ فَأنْقَذَكم مِنها﴾ عَطْفٌ عَلى ﴿كُنْتُمْ أعْداءً﴾ فَهو نِعْمَةٌ أُخْرى وهي نِعْمَةُ الإنْقاذِ مِن حالَةٍ أُخْرى بَئِيسَةٍ وهي حالَةُ الإشْرافِ عَلى المُهْلِكاتِ. والشَّفا مِثْلُ الشَّفَةِ هو حَرْفُ القَلِيبِ وطَرَفِهِ، وألِفُهُ مُبْدَلَةٌ مِن واوٍ. وأمّا واوُ شَفَةٍ فَقَدْ حُذِفَتْ وعُوِّضَتْ عَنْها الهاءُ مِثْلُ سَنَةٍ وعِزَةٍ إلّا أنَّهم لَمْ يَجْمَعُوهُ عَلى شَفَواتٍ ولا عَلى شَفَتَيْنِ بَلْ قالُوا شِفاهٌ كَأنَّهُمُ اعْتَدُّوا بِالهاءِ كالأصْلِ. (p-٣٥)فَأرى أنَّ شَفا حُفْرَةِ النّارِ هُنا تَمْثِيلٌ لِحالِهِمْ في الجاهِلِيَّةِ حِينَ كانُوا عَلى وشْكِ الهَلاكِ والتَّفانِي الَّذِي عَبَّرَ عَنْهُ زُهَيْرٌ بِقَوْلِهِ: ؎تَفانَوْا ودَقُّوا بَيْنَهم عِطْرَ مَنشَمِ بِحالِ قَوْمٍ بَلَغَ بِهِمُ المَشْيُ إلى شَفا حَفِيرٍ مِنَ النّارِ كالأُخْدُودِ فَلَيْسَ بَيْنَهم وبَيْنَ الهَلاكِ السَّرِيعِ التّامِّ إلّا خُطْوَةٌ قَصِيرَةٌ، واخْتِيارُ الحالَةِ المُشَبَّهِ بِها هُنا لِأنَّ النّارَ أشَدُّ المُهْلِكاتِ إهْلاكًا، وأسْرَعُها، وهَذا هو المُناسِبُ في حَمْلِ الآيَةِ لِيَكُونَ الِامْتِنانُ بِنِعْمَتَيْنِ مَحْسُوسَتَيْنِ هُما: نِعْمَةُ الأُخُوَّةِ بَعْدَ العَداوَةِ، ونِعْمَةُ السَّلامَةِ بَعْدَ الخَطَرِ، كَما قالَ أبُو الطَّيِّبِ: ؎نَجاةً مِنَ البَأْساءِ بَعْدَ وُقُوعِ والإنْقاذُ مِن حالَتَيْنِ شَنِيعَتَيْنِ. وقالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: أرادَ نارَ جَهَنَّمَ وعَلى قَوْلِهِمْ هَذا يَكُونُ قَوْلُهُ ﴿شَفا حُفْرَةٍ﴾ مُسْتَعارًا لِلِاقْتِرابِ اسْتِعارَةَ المَحْسُوسِ لِلْمَعْقُولِ. والنّارُ حَقِيقَةٌ، ويُبْعِدُ هَذا المَحْمَلَ قَوْلُهُ تَعالى ”حُفْرَةٍ“ إذْ لَيْسَتْ جَهَنَّمُ حُفْرَةً بَلْ عالَمٌ عَظِيمٌ لِلْعَذابِ. ووَرَدَ في الحَدِيثِ «فَإذا هي مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ البِئْرِ وإذا لَها قَرْنانِ» ولَكِنَّ ذَلِكَ رُؤْيا جاءَتْ عَلى وجْهِ التَّمْثِيلِ وإلّا فَهي لا يُحِيطُ بِها النَّظَرُ. ويَكُونُ الِامْتِنانُ عَلى هَذا امْتِنانًا عَلَيْهِمْ بِالإيمانِ بَعْدَ الكُفْرِ وهم لِيَقِينِهِمْ بِدُخُولِ الكَفَرَةِ النّارَ عَلِمُوا أنَّهم كانُوا عَلى شَفاها. وقِيلَ: أرادَ نارَ الحَرْبِ وهو بَعِيدٌ جِدًّا لِأنَّ نارَ الحَرْبِ لا تُوقَدُ في حُفْرَةٍ بَلْ تُوقَدُ في العَلْياءِ لِيَراها مَن كانَ بَعِيدًا كَما قالَ الحارِثُ: وبِعَيْنَيْكَ أوْقَدَتْ هِنْدُ النّارَ ∗∗∗ عِشاءً تُلْوِي بِها العَلْياءُفَتَنَوَّرَتْ نارُها مِن بَعِيدٍ ∗∗∗ بِخَزازى أيّانَ مِنكَ الصِّلاءُوَلِأنَّهم كانُوا مُلابِسِينَ لَها ولَمْ يَكُونُوا عَلى مُقارَبَتِها. والضَّمِيرُ في (مِنها) لِلنّارِ عَلى التَّقادِيرِ الثَّلاثَةِ. ويَجُوزُ عَلى التَّقْدِيرِ الأوَّلِ أنْ يَكُونَ لِشَفا حُفْرَةٍ وعادَ عَلَيْهِ بِالتَّأْنِيثِ لِاكْتِسابِهِ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ كَقَوْلِ الأعْشى:(p-٣٦) ؎وتَشْرَقَ بِالقَوْلِ الَّذِي قَدْ أذَعْتَهُ ∗∗∗ كَما شَرِقَتْ صَدْرُ القَناةِ مِنَ الدَّمِ وقَوْلُهُ ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكم آياتِهِ﴾ نِعْمَةٌ أُخْرى وهي نِعْمَةُ التَّعْلِيمِ والإرْشادِ، وإيضاحِ الحَقائِقِ حَتّى تَكْمُلَ عُقُولُهم، ويَتَبَيَّنُوا ما فِيهِ صَلاحُهم. والبَيانُ هُنا بِمَعْنى الإظْهارِ والإيضاحِ. والآياتُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِها النِّعَمَ، كَقَوْلِ الحارِثِ بْنِ حِلِّزَةَ: ؎مَن لَنا عِنْدَهُ مِنَ الخَيْرِ آيا ∗∗∗ تٌ ثَلاثٌ في كُلِّهِنَّ القَضاءُ ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِها دَلائِلُ عِنايَتِهِ تَعالى بِهِمْ وتَثْقِيفِ عُقُولِهِمْ وقُلُوبِهِمْ بِأنْوارِ المَعارِفِ الإلَهِيَّةِ. وأنْ يُرادَ بِها آياتُ القُرْآنِ فَإنَّها غايَةٌ في الإفْصاحِ عَنِ المَقاصِدِ وإبْلاغِ المَعانِي إلى الأذْهانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب