الباحث القرآني

﴿يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِن مَحارِيبَ وتَماثِيلَ وجِفانٍ كالجَوابِ وقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا وقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ و(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ) جُمْلَةٌ مُبَيِّنَةٌ لِجُمْلَةِ (يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) . و (مِن مَحارِيبَ) بَيانٌ لِـ (ما يَشاءُ) . والمَحارِيبُ: جَمْعُ مِحْرابٍ، وهو الحِصْنُ الَّذِي يُحارَبُ مِنهُ العَدُوُّ والمُهاجِمُ لِلْمَدِينَةِ، أوْ؛ لِأنَّهُ يُرْمى مِن شُرُفاتِهِ بِالحِرابِ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى القَصْرِ الحَصِينِ. وقَدْ سَمَّوْا قُصُورَ غُمْدانَ في اليَمَنِ مَحارِيبَ غُمْدانَ. وهَذا المَعْنى هو المُرادُ في هَذِهِ الآيَةِ. ثُمَّ أُطْلِقَ المِحْرابُ عَلى الَّذِي يُخْتَلى فِيهِ لِلْعِبادَةِ فَهْوَ بِمَنزِلَةِ المَسْجِدِ الخاصِّ، قالَ تَعالى ﴿فَنادَتْهُ المَلائِكَةُ وهو قائِمٌ يُصَلِّي في المِحْرابِ﴾ [آل عمران: ٣٩] وتَقَدَّمَ في سُورَةِ آلِ عِمْرانَ. وكانَ لِداوُدَ مِحْرابٌ يَجْلِسُ فِيهِ لِلْعِبادَةِ، قالَ تَعالى ﴿وهَلْ أتاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إذْ تَسَوَّرُوا المِحْرابَ﴾ [ص: ٢١] في سُورَةِ ص. وأمّا إطْلاقُ المِحْرابِ عَلى المَوْضِعِ مِنَ المَسْجِدِ الَّذِي يَقِفُ فِيهِ الإمامُ الَّذِي يَأُمُّ النّاسَ، يُجْعَلُ مِثْلَ كُوَّةٍ غَيْرِ نافِذَةٍ واصِلَةٍ إلى أرْضِ المَسْجِدِ في حائِطِ القِبْلَةِ يَقِفُ الإمامُ تَحْتَهُ، فَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ مِحْرابًا تَسْمِيَةٌ حَدِيثَةٌ ولَمْ أقِفْ عَلى تَعْيِينِ الزَّمَنِ الَّذِي ابْتُدِئَ فِيهِ إطْلاقُ اسْمِ المِحْرابِ عَلى هَذا المَوْقِفِ. واتِّخاذُ المَحارِيبِ في المَساجِدِ حَدَثَ في المِائَةِ الثّانِيَةِ، والمَظْنُونُ أنَّهُ حَدَثَ في أوَّلِها في حَياةِ أنَسِ بْنِ مالِكٍ لِأنَّهُ ١١ (p-١٦١)رُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ تَنَزَّهَ عَنِ الجُلُوسِ في المَحارِيبِ وكانُوا يُسَمُّونَهُ الطّاقَ أوِ الطّاقَةَ ورُبَّما سَمَّوْهُ المَذْبَحَ، ولَمْ أرَ أنَّهم سَمَّوْهُ أيّامَئِذٍ مِحْرابًا، وإنَّما كانُوا يُسَمُّونَ بِالمِحْرابِ مَوْضِعَ ذَبْحِ القُرْبانِ في الكَنِيسَةِ قالَ عُمَرُ بْنُ أبِي رَبِيعَةَ: ؎دُمْيَةٌ عِنْدَ راهِبٍ قِسِّيسٍ صَوَّرُوها في مَذابِحِ المِحْرابِ والمَذْبَحُ والمِحْرابُ مُقْتَبَسَةٌ مِنَ اليَهُودِ لِما لا يَخْفى مِن تَفَرُّعِ النَّصْرانِيَّةِ عَنْ دِينِ اليَهُودِيَّةِ. وما حُكِيَ عَنْ أنَسِ بْنِ مالِكٍ إنْ صَحَّ فَإنَّما يُعْنى بِهِ بَيْتٌ لِلصَّلاةِ خاصٌّ. ورَأيْتُ إطْلاقَ المِحْرابِ عَلى الطّاقَةِ الَّتِي في المَسْجِدِ في كَلامِ الفَرّاءِ، أيْ في مُنْتَصَفِ القَرْنِ الثّانِي، نَقَلَ الجَوْهَرِيُّ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: المَحارِيبُ صُدُورُ المَجالِسِ ومِنهُ سُمِّيَ مِحْرابُ المَسْجِدِ، لِأنَّ المِحْرابَ لَمْ يَبْقَ حِينَئِذٍ مُطْلَقًا عَلى مَكانِ العِبادَةِ. ومِنَ الغَلَطِ أنْ جَعَلُوا في المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ في المَوْضِعِ الَّذِي يَقْرُبُ أنْ يَكُونَ النَّبِيءُ ﷺ يُصَلِّي فِيهِ صُورَةَ مِحْرابٍ مُنْفَصِلٍ يُسَمُّونَهُ مِحْرابَ النَّبِيءِ ﷺ وإنَّما هو عَلامَةٌ عَلى تَحَرِّي مَوْقِفِهِ. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ المُسْلِمِينَ ابْتَدَأُوا فَجَعَلُوا طاقاتٍ صَغِيرَةً دَلالَةً عَلى القِبْلَةِ لِئَلّا يَضِلَّ الدّاخِلُ إلى المَسْجِدِ يُرِيدُ الصَّلاةَ فَإنَّ ذَلِكَ يَقَعُ كَثِيرًا، ثُمَّ وسَّعُوها شَيْئًا فَشَيْئًا حَتّى صَيَّرُوها في صُورَةِ نِصْفِ دِهْلِيزٍ صَغِيرٍ في جِدارِ القِبْلَةِ يَسَعُ مَوْقِفَ الإمامِ، وأحْسَبُ أنَّ أوَّلَ وضْعِهِ كانَ عِنْدَ بِناءِ المَسْجِدِ الأُمَوِيِّ في دِمَشْقَ ثُمَّ إنَّ الخَلِيفَةَ الوَلِيدَ بْنَ عَبْدِ المَلِكِ أمَرَ بِجَعْلِهِ في المَسْجِدِ النَّبَوِيِّ حِينَ وسَّعَهُ وأعادَ بِناءَهُ وذَلِكَ في مُدَّةِ إمارَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ عَلى المَدِينَةِ حَسْبَما ذَكَرَ السَّمْهُودِيُّ في كِتابِ ”خُلاصَةِ الوَفا بِأخْبارِ دارِ المُصْطَفى“ . والتَّماثِيلُ جَمْعُ تِمْثالٍ بِكَسْرِ التّاءِ، ووَزْنُهُ ”تِفْعالٌ“ لِأنَّ التّاءَ مَزِيدَةٌ وهو أحَدُ أسْماءٍ مَعْدُودَةٍ جاءَتْ عَلى وزْنِ تِفْعالٍ بِكَسْرِ التّاءِ، وأمّا قِياسُ هَذا البابِ وأكْثَرُهُ فَهو بِفَتْحِ التّاءِ. والأسْماءُ الَّتِي جاءَتْ عَلى هَذا الوَزْنِ مِنها مَصادِرُ ومِنها أسْماءٌ، فَأمّا المَصادِرُ فَأكْثَرُها بِفَتْحِ التّاءِ إلّا مَصْدَرَيْنِ: تِبْيانٌ وتِلْقاءٌ بِمَعْنى اللِّقاءِ. وأمّا الأسْماءُ فَوَرَدَ مِنهُ عَلى الكَسْرِ نَحْوٌ مِن أرْبَعَةَ عَشَرَ اسْمًا مِنها: تِمْثالٌ، أحْصاها ابْنُ (p-١٦٢)دُرَيْدٍ، وزادَ ابْنُ العَرَبِيِّ في أحْكامِ القُرْآنِ عَنْ شَيْخِهِ الخَطِيبِ التَّبْرِيزِيِّ تِسْعَةً فَصارَتْ خَمْسَةً وعِشْرِينَ. والتِّمْثالُ هو الصُّورَةُ المُمَثَّلَةُ، أيِ المُجَسَّمَةُ مِثْلَ شَيْءٍ مِنَ الأجْسامِ فَكانَ النَّحّاتُونَ يَعْمَلُونَ لِسُلَيْمانَ صُوَرًا مُخْتَلِفَةً كَصُوَرٍ مَوْهُومَةٍ لِلْمَلائِكَةِ ولِلْحَيَوانِ مِثْلَ الأُسُودِ فَقَدْ كانَ كُرْسِيُّ سُلَيْمانَ مَحْفُوفًا بِتَماثِيلِ أُسُودٍ أرْبَعَةَ عَشَرَ كَما وُصِفَ في الإصْحاحِ العاشِرِ مِن سِفْرِ المُلُوكِ الأوَّلِ. وكانَ قَدْ جَعَلَ في الهَيْكَلِ جابِيَةً عَظِيمَةً مِن نُحاسٍ مَصْقُولٍ مَرْفُوعَةً عَلى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ صُورَةَ ثَوْرٍ مِن نُحاسٍ. ولَمْ تَكُنْ التَّماثِيلُ المُجَسَّمَةُ مُحَرَّمَةَ الِاسْتِعْمالِ في الشَّرائِعِ السّابِقَةِ وقَدْ حَرَّمَها الإسْلامُ لِأنَّ الإسْلامَ أمْعَنَ في قَطْعِ دابِرِ الإشْراكِ مِن نُفُوسِ العَرَبِ وغَيْرِهِمْ. وكانَ مُعْظَمُ الأصْنامِ تَماثِيلَ فَحَرَّمَ الإسْلامُ اتِّخاذَها لِذَلِكَ، ولَمْ يَكُنْ تَحْرِيمًا لِأجْلِ اشْتِمالِها عَلى مَفْسَدَةٍ في ذاتِها ولَكِنْ لِكَوْنِها كانَتْ ذَرِيعَةً لِلْإشْراكِ. واتَّفَقَ الفُقَهاءُ عَلى تَحْرِيمِ اتِّخاذِ ما لَهُ ظِلٌّ مِن تَماثِيلِ ذَواتِ الرُّوحِ إذا كانَتْ مُسْتَكْمِلَةَ الأعْضاءِ الَّتِي لا يَعِيشُ ذُو الرُّوحِ بِدُونِها وعَلى كَراهَةِ ما عَدا ذَلِكَ مِثْلَ التَّماثِيلِ المُنَصَّفَةِ ومِثْلَ الصُّوَرِ الَّتِي عَلى الجُدْرانِ وعَلى الأوْراقِ والرَّقْمِ في الثَّوْبِ ولا ما يُجْلَسُ عَلَيْهِ ويُداسُ. وحُكْمُ صُنْعِها يَتْبَعُ اتِّخاذَها. ووَقَعَتِ الرُّخْصَةُ في اتِّخاذِ صُوَرٍ تَلْعَبُ بِها البَناتُ لِفائِدَةِ اعْتِيادِهِنَّ العَمَلَ بِأُمُورِ البَيْتِ. والجِفانُ: جَمْعُ جَفْنَةٍ، وهي القَصْعَةُ العَظِيمَةُ الَّتِي يُجْفَنُ فِيها الماءُ. وقُدِّرَتِ الجَفْنَةُ في التَّوْراةِ بِأنَّها تَسَعُ أرْبَعِينَ بَثًّا بِالمُثَلَّثَةِ ولَمْ نَعْرِفْ مِقْدارَ البَثِّ عِنْدَهم ولا شَكَّ أنَّهُ مِكْيالٌ. وشُبِّهَتِ الجِفانُ في عَظَمَتِها وسِعَتِها بِالجَوابِي. وهي جَمْعُ: جابِيَةٍ وهي الحَوْضُ العَظِيمُ الواسِعُ العَمِيقُ الَّذِي يُجْمَعُ فِيهِ الماءُ لِسَقْيِ الأشْجارِ والزُّرُوعِ قالَ الأعْشى: ؎نَفى الذَّمَّ عَنْ رَهْطِ المُحَلَّقِ جَفْنَةٌ ∗∗∗ كَجابِيَةِ الشَّيْخِ العِراقِيِّ تَفْهَقُ أيِ الجَفْنَةُ في سِعَتِها كَجابِيَةِ الرَّجُلِ العِراقِيِّ، وأهْلُ العِراقِ أهْلُ كُرُومٍ وغُرُوسٍ فَكانُوا يَجْمَعُونَ الماءَ لِلسَّقْيِ. وكانَتِ الجِفانُ المَذْكُورَةُ في الهَيْكَلِ المَعْرُوفِ عِنْدَنا بِبَيْتِ المَقْدِسِ لِأجْلِ وضْعِ الماءِ لِيَغْسِلُوا فِيها ما يُقَرِّبُونَهُ مِنَ المُحْرَقاتِ كَما في الإصْحاحِ الرّابِعِ مِن سِفْرِ الأيّامِ الثّانِي. (p-١٦٣)وكُتِبَ في المُصْحَفِ (كالجَوابِ) بِدُونِ ياءٍ بَعْدَ المُوَحَّدَةِ. وقَرَأهُ الجُمْهُورُ بِدُونِ ياءٍ في حالَيِ الوَصْلِ والوَقْفِ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِإثْباتِ الياءِ في الحالَيْنِ. وقَرَأ ورْشٌ عَنْ نافِعٍ وأبُو عَمْرٍو بِإثْباتِ الياءِ في حالِ الوَصْلِ وبِحَذْفِها في حالِ الوَقْفِ. والقُدُورُ: جَمْعُ قِدْرٍ وهي إناءٌ يُوضَعُ فِيهِ الطَّعامُ لِيُطْبَخَ مِن لَحْمٍ وزَيْتٍ وأدْهانٍ وتَوابِلَ. قالَ النّابِغَةُ في النُّعْمانِ بْنِ الحارِثِ الجُلاحِيِّ: ؎لَهُ بِفِناءِ البَيْتِ سَوْداءُ فَخْمَةٌ ∗∗∗ تُلَقَّمُ أوْصالَ الجَزُورِ العُراعِرِ ؎بَقِيَّةُ قِدْرٍ مِن قُدُورٍ تُوُرِّثَتْ ∗∗∗ لِآلِ الجُلاحِ كابِرًا بَعْدَ كابِرِ أيْ تَسَعُ قَوائِمَ البَعِيرِ إذا وُضِعَتْ فِيهِ لِتُطْبَخَ مَرَقًا ونَحْوَهُ. وهَذِهِ القُدُورُ هي الَّتِي يُطْبَخُ فِيها لِجُنْدِ سُلَيْمانَ ولِسَدَنَةِ الهَيْكَلِ ولِخَدَمِهِ وأتْباعِهِ وقَدْ ورَدَ ذِكْرُ القُدُورِ إجْمالًا في الفِقْرَةِ السّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنَ الإصْحاحِ الرّابِعِ مِن سِفْرِ الأيّامِ الثّانِي. والرّاسِياتُ: الثّابِتاتُ في الأرْضِ الَّتِي لا تُنْزَلُ مِن فَوْقِ أثافِيِّها لِتَداوُلِ الطَّبْخِ فِيها صَباحَ مَساءَ. وجُمْلَةُ ﴿اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْرًا﴾ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أيْ قُلْنا: اعْمَلُوا يا آلَ داوُدَ، ومَفْعُولُ اعْمَلُوا مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ (شُكْرًا) . وتَقْدِيرُهُ: اعْمَلُوا صالِحًا، كَما تَقَدَّمَ آنِفًا، عَمَلًا لَشُكْرِ اللَّهِ تَعالى، فانْتَصَبَ (شُكْرًا) عَلى المَفْعُولِ لِأجْلِهِ. والخِطابُ لِسُلَيْمانَ وآلِهِ. وذُيِّلَ بِقَوْلِهِ ﴿وقَلِيلٌ مِن عِبادِيَ الشَّكُورُ﴾ فَهو مِن تَمامِ المَقُولِ، وفِيهِ حَثٌّ عَلى الِاهْتِمامِ بِالعَمَلِ الصّالِحِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ هَذا التَّذْيِيلُ كَلامًا جَدِيدًا جاءَ في القُرْآنِ، أيْ قُلْنا ذَلِكَ لِآلِ داوُدَ فَعَمِلَ مِنهم قَلِيلٌ ولَمْ يَعْمَلْ كَثِيرٌ وكانَ سُلَيْمانُ مِن أوَّلِ الفِئَةِ القَلِيلَةِ. والشَّكُورُ: الكَثِيرُ الشُّكْرِ. وإذْ كانَ العَمَلُ شُكْرًا أفادَ أنَّ العامِلِينَ قَلِيلٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب