الباحث القرآني

﴿يَوْمَ تَرى المُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهم بَيْنَ أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ اليَوْمَ جَنّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِها الأنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ . لَمّا كانَ مَعْلُومًا أنَّ مُضاعَفَةَ الثَّوابِ وإعْطاءَ الأجْرِ يَكُونُ في يَوْمِ الجَزاءِ، تَرَجَّحَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ ”يَوْمَ تَرى المُؤْمِنِينَ“ مَنصُوبًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: اذْكُرْ تَنْوِيهًا بِما يَحْصُلُ في ذَلِكَ اليَوْمِ مِن ثَوابٍ لِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِناتِ ومِن حِرْمانٍ لِلْمُنافِقِينَ والمُنافِقاتِ، ولِذَلِكَ كَرَّرَ يَوْمَ لِيَخْتَصَّ كُلُّ فَرِيقٍ بِذِكْرِ ما هو مِن شُئُونِهِ في ذَلِكَ اليَوْمِ. وعَلى هَذا فالجُمْلَةُ مُتَّصِلَةٌ بِالَّتِي قَبْلَها بِسَبَبِ هَذا التَّعَلُّقِ، عَلى أنَّهُ في نَظْمِ الكَلامِ يَصِحُّ جَعْلُهُ ظَرْفًا مُتَعَلِّقًا بِـ ﴿يُضاعِفَهُ لَهُ ولَهُ أجْرٌ كَرِيمٌ﴾ [الحديد: ١١] عَلى طَرِيقَةِ التَّخَلُّصِ لِذِكْرِ ما يَجْرِي في ذَلِكَ اليَوْمِ مِنَ الخَيْراتِ لِأهْلِها ومِنَ الشَّرِّ لِأهْلِهِ. وعَلى الوَجْهِ الأوَّلِ فالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنافًا ابْتِدائِيًّا لِمُناسَبَةِ ذِكْرِ أجْرِ المُنْفِقِينَ فَعَقَّبَ بِبَيانِ بَعْضِ مَزايا المُؤْمِنِينَ، وعَلى الوَجْهِ الثّانِي فَهي مُتَّصِلَةٌ بِالَّتِي قَبْلَها بِسَبَبِ التَّعَلُّقِ. والخِطابُ في ”تَرى“ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لِيَكُونَ عَلى مِنوالِ المُخاطَباتِ الَّتِي قَبْلَهُ، أيْ: يَوْمُ يَرى الرّائِي، والرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ، و”يَوْمَ“ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ لِأنَّهُ أُضِيفَ إلى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ، ويَجُوزُ كَوْنُها فَتْحَةَ إعْرابٍ لِأنَّ المُضافَ إلى المُضارِعِ يَجُوزُ فِيهِ الوَجْهانِ. ووَجْهُ عَطْفِ ”المُؤْمِناتِ“ عَلى ”المُؤْمِنِينَ“ هُنا، وفي نَظائِرِهِ مِنَ القُرْآنِ المَدَنِيِّ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ حُظُوظَ النِّساءِ في هَذا الدِّينِ مُساوِيَةٌ حُظُوظَ الرِّجالِ إلّا فِيما خُصِّصْنَ (p-٣٨٠)بِهِ مِن أحْكامٍ قَلِيلَةٍ لَها أدِلَّتُها الخاصَّةِ وذَلِكَ لِإبْطالِ ما عِنْدَ اليَهُودِ مِن وضْعِ النِّساءِ في حالَةِ مَلْعُوناتٍ ومَحْرُوماتٍ مِن مُعْظَمِ الطّاعاتِ. وقَدْ بَيَّنّا شَيْئًا مِن ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿والأُنْثى بِالأُنْثى﴾ [البقرة: ١٧٨] في سُورَةِ البَقَرَةِ. والنُّورُ المَذْكُورُ هُنا نُورٌ حَقِيقِيٌّ يَجْعَلُهُ اللَّهُ في مَسِيرِهِمْ مِن مَكانِ الحَشْرِ إكْرامًا لَهم وتَنْوِيهًا بِهِمْ في ذَلِكَ المَحْشَرِ. والمَعْنى: يَسْعى نُورُهم حِينَ يَسْعَوْنَ، فَحَذَفَ ذَلِكَ لِأنَّ النُّورَ إنَّما يَسْعى إذا سَعى صاحِبُهُ وإلّا لانْفَصَلَ عَنْهُ وتَرَكَهُ. وإضافَةُ ”نُورٍ“ إلى ضَمِيرِهِمْ وجَعْلُ مَكانِهِ مِن بَيْنِ أيْدِيهِمْ وبِأيْمانِهِمْ يُبَيِّنُ أنَّهُ نُورٌ لِذَواتِهِمْ أُكْرِمُوا بِهِ. وانْظُرْ مَعْنى هَذِهِ الإضافَةِ لِضَمِيرِهِمْ، وما في قَوْلِهِ يَسْعى مِنَ الِاسْتِعارَةِ، ووَجْهَ تَخْصِيصِ النُّورِ بِالجِهَةِ الأمامِ وبِالأيْمانِ كُلَّ ذَلِكَ في سُورَةِ التَّحْرِيمِ. والباءُ في ”وبِأيْمانِهِمْ“ بِمَعْنى (عَنْ) واقْتَصَرَ عَلى ذِكْرِ الأيْمانِ تَشْرِيفًا لَها وهو مِنَ الِاكْتِفاءِ، أيْ: وبِجانِبَيْهِمْ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الباءُ لِلْمُلابَسَةِ، ويَكُونُ النُّورُ المُلابِسُ لِلْيَمِينِ نُورَ كِتابِ الحَسَناتِ كَما قالَ تَعالى ﴿فَأمّا مَن أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِسابًا يَسِيرًا﴾ [الإنشقاق: ٧] فَإنَّ كِتابَ الحَسَناتِ هُدًى فَيَكُونُ لَفْظُ النُّورِ قَدِ اسْتُعْمِلَ في مَعْنَيَيْهِ الحَقِيقِيِّ والمَجازِيِّ وهو الهُدى والبَرَكَةُ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومِن هَذِهِ الآيَةِ انْتُزِعَ حَمْلُ المُعْتَقِ لِلشَّمْعَةِ اهـ. لَعَلَّهُ يُشِيرُ إلى عادَةٍ كانَتْ مَأْلُوفَةً عِنْدَهم أنْ يَجْعَلُوا بِيَدِ العَبْدِ الَّذِي يَعْتِقُونَهُ شَمْعَةً مُشْتَعِلَةً يَحْمِلُها ساعَةَ عِتْقِهِ ولَمْ أقِفْ عَلى هَذا في كَلامِ غَيْرِهِ. والبُشْرى: اسْمُ مَصْدَرِ بَشَّرَ وهي الإخْبارُ بِخَبَرٍ يَسُرُّ المُخْبَرَ، وأطْلَقَ المَصْدَرَ عَلى المَفْعُولِ وهو إطْلاقٌ كَثِيرٌ مِثْلُ الخَلْقِ بِمَعْنى المَخْلُوقِ، أيِ: الَّذِي تُبَشَّرُونَ بِهِ (p-٣٨١)جَنّاتٌ، والكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافَيْنِ تَقْدِيرُهُما: إعْلامٌ بِدُخُولِ جَنّاتٍ كَما دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿خالِدِينَ فِيها﴾ . وجُمْلَةُ ”بُشْراكم“ إلى آخِرِها مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ: يُقالُ لَهم، أيْ: يُقالُ مِن جانِبِ القُدْسِ، تَقُولُهُ المَلائِكَةُ، أوْ يَسْمَعُونَ كَلامًا يَخْلُقُهُ اللَّهُ يَعْلَمُونَ أنَّهُ مِن جانِبِ القُدْسِ. وجُمْلَةُ ﴿ذَلِكَ هو الفَوْزُ العَظِيمُ﴾ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِن بَقِيَّةِ الكَلامِ المَحْكِيِّ بِالقَوْلِ المُبَشَّرِ بِهِ، ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مِنَ الحِكايَةِ الَّتِي حُكِيَتْ في القُرْآنِ، عَلى الِاحْتِمالَيْنِ، فالجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ تَدُلُّ عَلى مَجْمُوعِ مَحاسِنِ ما وقَعَتْ بِهِ البُشْرى. واسْمُ الإشارَةِ لِلتَّعْظِيمِ والتَّنْبِيهِ، وضَمِيرُ الفَصْلِ لِتَقْوِيَةِ الخَبَرِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب