يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: كَمَا آتَيْنَاكَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ، فَلَا تَنْظُرَنَّ إِلَى الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَمَا مَتَّعْنَا بِهِ أَهْلَهَا مِنَ الزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ، فَلَا تَغْبِطْهُمْ بِمَا هُمْ فِيهِ، وَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ حُزْنًا عَلَيْهِمْ فِي تَكْذِيبِهِمْ لَكَ، وَمُخَالَفَتِهِمْ دِينَكَ. ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الشُّعَرَاءِ: ٢١٥] أَيْ: ألِن لَهُمْ جَانِبَكَ [[في ت: "جنابك".]] كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التَّوْبَةِ: ١٢٨]
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي السَّبْعِ الْمَثَانِي: مَا هِيَ؟
فَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَابْنُ عُمَرَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: هِيَ السَّبْعُ الطُّوَل. يَعْنُونَ: الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ، وَالْأَنْعَامُ، وَالْأَعْرَافُ، وَيُونُسَ، نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ.
وَقَالَ سَعِيدٌ: بيَّن [[في ت، أ: "ثنى".]] فِيهِنَّ الْفَرَائِضَ، وَالْحُدُودَ، وَالْقَصَصَ، وَالْأَحْكَامَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: بَيَّنَ [[في ت، أ: "ثنى".]] الْأَمْثَالَ والخَبَر والعِبَر [[في ت: "الخير والشر".]]
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَ: قَالَ سُفْيَانُ: ﴿الْمَثَانِي﴾ الْمُثَنَّى: [[في ت: "المبين".]] الْبَقَرَةُ، وَآلُ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءُ، وَالْمَائِدَةُ، وَالْأَنْعَامُ، وَالْأَعْرَافُ، وَالْأَنْفَالُ وَبَرَاءَةُ [[في ت: "وبراءة والأنفال".]] سُورَةٌ وَاحِدَةٌ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَلَمْ يُعْطهن أَحَدٌ إِلَّا النَّبِيُّ ﷺ، وَأُعْطِيَ مُوسَى مِنْهُنَّ
ثِنْتَيْنِ. رَوَاهُ هُشَيْم، عَنِ الْحَجَّاجُ، عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْعَيْزَارِ [[في ت: "العيزان".]] عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ.
[وَ] [[زيادة من ت، أ:]] قَالَ الْأَعْمَشُ، عَنْ مُسْلِمٍ الْبَطِينِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أُوتِيَ النَّبِيُّ ﷺ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي الطُّوَل، وَأُوتِيَ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، سِتًّا، فَلَمَّا ألقى الألواح ارتفع [[في ت، أ: "رفعت".]] اثنتان وبقيت أربع.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هِيَ السَّبْعُ الطُوَل. وَيُقَالُ: هِيَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ.
وَقَالَ خَصِيف، عَنْ زِيَادِ بْنِ أَبِي مَرْيَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي﴾ قَالَ: أَعْطَيْتُكَ سَبْعَةَ أَجْزَاءٍ: آمُرُ، وَأَنْهَى، وَأُبَشِّرُ [[في أ: "وبشر".]] وَأُنْذِرُ، وَأَضْرِبُ الْأَمْثَالَ، وَأُعَدِّدُ النِّعَمَ، وَأُنَبِّئُكَ بِنَبَأِ [[في أ: "نبأ".]] الْقُرْآنِ. رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهَا الْفَاتِحَةُ، وَهِيَ سَبْعُ آيَاتٍ. رُوي ذَلِكَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَالْبَسْمَلَةُ هِيَ [[في أ: "على".]] الْآيَةُ السَّابِعَةُ، وَقَدْ خَصَّكُمُ اللَّهُ بِهَا. وَبِهِ قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْر، وَابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، وشَهْر بْنُ حَوْشَب، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَمُجَاهِدٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُنَّ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَأَنَّهُنَّ يُثْنَيْنَ [[في ت: "يتبين" وفي أ: "تثنى".]] فِي كُلِّ قِرَاءَةٍ. وَفِي رِوَايَةٍ: فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مَكْتُوبَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ.
وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَاحْتَجَّ بِالْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَاهَا فِي فَضَائِلِ سُورَةِ "الْفَاتِحَةِ" فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ.
وَقَدْ أَوْرَدَ الْبُخَارِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ، هَاهُنَا حَدِيثَيْنَ:
أَحَدُهُمَا: قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ، حَدَّثَنَا غُنْدر، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ خُبَيْبِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ حَفْصِ بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ الْمُعَلَّى قَالَ: مَرَّ بِي النَّبِيُّ ﷺ وَأَنَا أُصَلِّي، فَدَعَانِي فَلَمْ آتِهِ حَتَّى صَلَّيْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ فَقَالَ: "مَا [[في أ: "ماذا".]] مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنِي [[في ت، أ: "تأتي".]] ؟ ". فَقُلْتُ: كُنْتُ أُصَلِّي. فَقَالَ: "أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ﴾ [الْأَنْفَالِ: ٢٤] أَلَا أُعَلِّمُكَ أَعْظَمَ سُورَةٍ فِي الْقُرْآنِ قَبْلَ أَنْ أَخْرُجَ مِنَ الْمَسْجِدِ؟ " فَذَهَبَ النَّبِيُّ ﷺ لِيَخْرُجَ، فَذَكَّرْتُهُ [[في ت، أ: "فذكرت".]] فَقَالَ: " ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الْفَاتِحَةِ: ٢] هِيَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ الَّذِي أُوتِيتُهُ" [[صحيح البخاري برقم (٤٧٠٣) .]]
[وَ] [[زيادة من أ.]] الثَّانِي: قَالَ: حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ، حَدَّثَنَا الْمَقْبُرِيِّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أُمُّ الْقُرْآنِ هِيَ: السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ" [[صحيح البخاري برقم (٤٧٠٤) .]]
فَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْفَاتِحَةَ السَّبْعُ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنُ الْعَظِيمُ، وَلَكِنْ لَا يُنَافِي [[في ت: "لا تنافي".]] وَصْفَ غَيْرِهَا مِنَ السَّبْعِ الطُّوَل بِذَلِكَ، لِمَا فِيهَا مِنْ هَذِهِ الصِّفَةِ، كَمَا لَا يُنَافِي وَصْفَ الْقُرْآنِ بِكَمَالِهِ بِذَلِكَ أَيْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿اللَّهُ نزلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ﴾ [الزُّمَرِ: ٢٣] فَهُوَ مَثَانِي مِنْ وَجْهٍ، وَمُتَشَابِهٌ مِنْ وَجْهٍ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الْعَظِيمُ
أَيْضًا، كَمَا أَنَّهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ [[في أ: "صلى الله عليه وسلم".]] لَمَّا سُئل عَنِ الْمَسْجِدِ الَّذِي أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، فَأَشَارَ إِلَى مَسْجِدِهِ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي مَسْجِدِ قُباء، فَلَا تنافي، فإن [[في ت: "لأن".]] ذكر الشيء لا ينفي [[في ت: "ينافي".]] ذِكْرَ مَا عَدَاهُ إِذَا اشْتَرَكَا فِي تِلْكَ الصِّفَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ﴾ أَيِ: اسْتَغْنَ بِمَا آتَاكَ اللَّهُ مِنَ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ عَمَّا هُمْ فِيهِ مِنَ الْمَتَاعِ وَالزَّهْرَةِ الْفَانِيَةِ.
وَمِنْ هَاهُنَا ذَهَبَ ابْنُ عُيَيْنَة إِلَى تَفْسِيرِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يتغَنَّ بِالْقُرْآنِ" [[وانظر فيما تقدم في فضائل القرآن، باب: من لم يتغن بالقرآن.]] إِلَى أَنَّهُ يُستغنى بِهِ عَمَّا عَدَاهُ، وَهُوَ تَفْسِيرٌ صَحِيحٌ، وَلَكِنْ لَيْسَ هُوَ الْمَقْصُودُ مِنَ الْحَدِيثِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ التَّفْسِيرِ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: ذُكِرَ عَنْ وَكِيع بْنِ الْجَرَّاحِ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُبَيْدَةَ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ صَاحِبِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: أَضَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم ضيف [[في ت: "ضيفا" وهو الصواب".]] وَلَمْ يَكُنْ عِنْدَ النَّبِيِّ ﷺ شَيْءٌ [[في ت، أ: "أمرا".]] يُصْلِحُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْيَهُودِ: يَقُولُ لَكَ مُحَمَّدٌ رَسُولَ اللَّهِ: أَسْلِفْنِي دَقِيقًا إِلَى هِلَالِ رَجَبٍ. قَالَ: لَا إِلَّا بِرَهْن. فَأَتَيْتُ النَّبِيَّ ﷺ [فَأَخْبَرْتُهُ] [[زيادة من ت، أ.]] فَقَالَ: "أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ وَأَمِينُ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَلَئِنْ أَسْلَفَنِي أَوْ بَاعَنِي لِأُؤَدِّيَنَّ إِلَيْهِ". فَلَمَّا خَرَجْتُ من عنده نزلت هذه الآية: ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهَرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ إِلَى آخَرِ الْآيَةِ. [طه: ١٣١] كَأَنَّهُ [[في ت: "كما".]] يُعَزِّيهِ عَنِ الدُّنْيَا [[ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١/٣٣١) من طريق عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نُمَيْرٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عبيدة به نحوه، وقال العراقي: "إسناده ضعيف" وذلك لأجل موسى بن عبيدة الربذي.]]
وَقَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ﴾ قَالَ: نُهِيَ الرَّجُلُ أَنْ يَتَمَنَّى مَالَ صَاحِبِهِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ﴾ هَمُ الْأَغْنِيَاءُ.
{"ayahs_start":87,"ayahs":["وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَـٰكَ سَبۡعࣰا مِّنَ ٱلۡمَثَانِی وَٱلۡقُرۡءَانَ ٱلۡعَظِیمَ","لَا تَمُدَّنَّ عَیۡنَیۡكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعۡنَا بِهِۦۤ أَزۡوَ ٰجࣰا مِّنۡهُمۡ وَلَا تَحۡزَنۡ عَلَیۡهِمۡ وَٱخۡفِضۡ جَنَاحَكَ لِلۡمُؤۡمِنِینَ"],"ayah":"وَلَقَدۡ ءَاتَیۡنَـٰكَ سَبۡعࣰا مِّنَ ٱلۡمَثَانِی وَٱلۡقُرۡءَانَ ٱلۡعَظِیمَ"}