قَرَأَ بَعْضُهُمْ ﴿مَنْ تَحْتَهَا﴾ بِمَعْنَى [[في أ: "أي".]] الَّذِي تَحْتَهَا. وَقَرَأَ آخَرُونَ: ﴿مِنْ تَحْتِهَا﴾ عَلَى أَنَّهُ حَرْفُ جَرٍّ.
وَاخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ الْعَوْفِيُّ وَغَيْرُهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا﴾ جِبْرِيلُ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عِيسَى حَتَّى أَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا، وَكَذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَالضَّحَّاكُ، وَعَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ، وَالسُّدِّيُّ، وقَتَادَةُ: إِنَّهُ الْمَلَكُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَيْ: نَادَاهَا مِنْ أَسْفَلِ الْوَادِي.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا﴾ قَالَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَكَذَا قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَر، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: قَالَ الْحَسَنُ: هُوَ ابْنُهَا. وَهُوَ إِحْدَى [[في ت: "أحد".]] الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: أَنَّهُ ابْنُهَا، قَالَ: أَوَلَمْ [[في ت، أ: "ولم".]] تَسْمَعِ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ﴾ [مَرْيَمَ: ٢٩] ؟ وَاخْتَارَهُ ابْنُ زَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِهِ [[تفسير الطبري (١٦/٥٢) .]]
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿أَلا تَحْزَنِي﴾ أَيْ: نَادَاهَا قَائِلًا لَا تَحْزَنِي، ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَشُعْبَةُ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ قَالَ: الْجَدْوَلُ. وَكَذَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: السَّرِيُّ: النَّهْرُ. وَبِهِ قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: نَهَرٌ تَشْرَبُ مِنْهُ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ النَّهْرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْر: السَّرِيُّ: النَّهْرُ الصَّغِيرُ بِالنَّبَطِيَّةِ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: هُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِي: هُوَ النَّهْرُ الصَّغِيرُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ الْجَدْوَلُ بِلُغَةِ أَهْلِ الْحِجَازِ.
وَقَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّه: السَّرِيُّ: هُوَ رَبِيعُ الْمَاءِ.
وَقَالَ السُّدِّيُّ: هُوَ النَّهْرُ، وَاخْتَارَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ جَرِيرٍ. وَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ حَدِيثٌ مَرْفُوعٌ، فَقَالَ الطَّبَرَانِيُّ:
حَدَّثَنَا أَبُو شُعَيْبٍ الحَرَّاني: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ البَابلُتِّي [[في أ: "يحيى بن عبد النابلتي".]] حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بْنُ نَهِيك، سَمِعْتُ عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ يَقُولُ: سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "إِنَّ السَّرِيَّ الَّذِي قَالَ اللَّهُ لِمَرْيَمَ: ﴿قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا﴾ نَهْرٌ أَخْرَجَهُ اللَّهُ لِتَشْرَبَ مِنْهُ" [[المعجم الكبير (١٢/٣٤٦) .]] وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَأَيُّوبُ بْنُ نَهِيكٍ هَذَا هُوَ الْحُبُلِيُّ [[في أ: "الحلبي".]] قَالَ فِيهِ أَبُو حَاتِمٍ الرَّازِيُّ: ضَعِيفٌ. وَقَالَ أَبُو زُرْعَة: مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ أبو الفتح الأزدي: متروك الحديث.
وَقَالَ آخَرُونَ: الْمُرَادُ بِالسَّرِيِّ: عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ، وَالرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبَّاد بْنِ جَعْفَرٍ. وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ قَتَادَةَ، وَقَوْلُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أُظْهَرُ؛ وَلِهَذَا قَالَ بَعْدَهُ: ﴿وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ﴾ أَيْ: وَخُذِي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ. قِيلَ: كَانَتْ يَابِسَةً، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَقِيلَ: مُثْمِرَةً. قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَتْ عَجْوَةً. وَقَالَ الثَّوْرِيُّ، عَنْ أَبِي دَاوُدَ [[في ت: "عن أبي الأسود".]] نُفَيْع الْأَعْمَى: كَانَتْ صَرَفَانة [[في ف، أ: "صوفانة".]]
وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا كَانَتْ شَجَرَةً، وَلَكِنْ لَمْ تَكُنْ فِي إِبَّانِ ثَمَرِهَا، قَالَهُ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ؛ وَلِهَذَا امْتَنَّ عَلَيْهَا بِذَلِكَ، أَنْ جَعَلَ عِنْدَهَا طَعَامًا وَشَرَابًا، فَقَالَ: ﴿تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا﴾ أَيْ: طِيبِي نَفْسًا؛ وَلِهَذَا قَالَ عَمْرُو بْنُ مَيْمُونٍ: مَا مِنْ شَيْءٍ خَيْرٌ لِلنُّفَسَاءِ مِنَ التَّمْرِ وَالرُّطَبِ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ، حَدَّثَنَا شَيْبَان، حَدَّثَنَا مَسْرُورُ بْنُ سَعِيدٍ التَّمِيمِيُّ [[في ت: "التيمي".]] حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ، عَنْ عُروة بْنِ رُوَيْم، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَكْرِمُوا عَمَّتَكُمُ النَّخْلَةَ، فَإِنَّهَا خُلِقَتْ مِنَ الطِّينِ الَّذِي خُلِقَ مِنْهُ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ مِنَ الشَّجَرِ شَيْءٌ [[في ف: "وليس شيء من الشجر".]] يُلَقَّح غَيْرُهَا". وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَطْعِمُوا نِسَاءَكُمُ الولدَ الرطَبَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ رُطَبٌ فَتَمْرٌ، وَلَيْسَ مِنَ الشَّجَرَةِ شَجَرَةٌ أَكْرَمُ عَلَى اللَّهِ مِنْ شَجَرَةٍ نَزَلَتْ تَحْتَهَا مَرْيَمُ بِنْتُ عِمْرَانَ".
هَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ جِدًّا، وَرَوَاهُ أَبُو يَعْلَى، عَنْ شَيْبَانَ، بِهِ [[مسند أبي يعلى (١/٣٥٣) ورواه أبو نعيم ف الحلية (٦/١٢٣) وابن عدي في الكامل (٦/٤٣١) من طريق مسرور بن سعد التميمي به، وقد ذكر له ابن عدي ثلاث علل:
١- تفرد به مسرور عن الأوزاعي فهو منكر.
٢- أنه منقطع بين عروة بن رويم وعلي بن أبي طالب.
٣- أن مسور بن سعيد غير معروف. قلت: وضعفه ابن حبان والعقيلي.]]
وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: "تَسَّاقَطْ" بِتَشْدِيدِ السِّينِ، وَآخَرُونَ بِتَخْفِيفِهَا، وَقَرَأَ أَبُو نَهِيك: ﴿تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ وَرَوَى أَبُو إِسْحَاقَ عَنِ الْبَرَاءِ: أَنَّهُ قَرَأَهَا: "تُسَاقِطْ" [[في أ: "يساقط".]] أَيِ: الْجِذْعُ. وَالْكُلُّ مُتَقَارِبٌ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا﴾ أَيْ: مَهْمَا رَأَيْتِ مِنْ أَحَدٍ، ﴿فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ الْمُرَادُ بِهَذَا الْقَوْلِ: الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ. لَا أَنَّ [[في ت: "لأن".]] الْمُرَادَ بِهِ الْقَوْلُ اللَّفْظِيُّ؛ لِئَلَّا يُنَافِيَ: ﴿فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾
قَالَ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا﴾ أَيْ: صَمْتًا [[في أ: "صوتا".]] وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالضَّحَّاكُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ أَنَسٍ: "صَوْمًا وَصَمْتًا"، وَكَذَا قَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُمَا.
وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا صَامُوا فِي شَرِيعَتِهِمْ يَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الطَّعَامُ وَالْكَلَامُ، نَصَّ عَلَى ذَلِكَ السدي، وقَتَادَةُ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ.
وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ، عَنْ حَارِثَةَ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ مَسْعُودٍ، فَجَاءَ رَجُلَانِ فَسَلَّمَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يُسَلِّمِ الْآخَرُ، فَقَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ أَصْحَابُهُ: حَلَفَ أَلَّا يُكَلِّمَ النَّاسَ الْيَوْمَ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ: كلِّم النَّاسَ وَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّمَا تِلْكَ امْرَأَةٌ عَلِمَتْ أَنَّ أَحَدًا لَا يُصَدِّقُهَا أَنَّهَا حَمَلَتْ مِنْ غَيْرِ زَوْجٍ. يَعْنِي بِذَلِكَ مَرْيَمَ، عَلَيْهَا السَّلَامُ؛ لِيَكُونَ عُذْرًا لَهَا إِذَا سُئِلَتْ. وَرَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدٍ: لَمَّا قَالَ عِيسَى لِمَرْيَمَ: ﴿أَلا تَحْزَنِي﴾ قَالَتْ: وَكَيْفَ لَا أَحْزَنُ وَأَنْتَ مَعِي؟! لَا ذاتُ زَوْجٍ وَلَا مَمْلُوكَةٌ، أَيُّ شَيْءٍ عُذْرِي عِنْدَ النَّاسِ؟ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا، قَالَ لَهَا عِيسَى: أَنَا أَكْفِيكِ الْكَلَامَ: ﴿فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا﴾ قَالَ: هَذَا كُلُّهُ مِنْ كَلَامِ عِيسَى لِأُمِّهِ. وَكَذَا قَالَ وَهْبٌ.
{"ayahs_start":24,"ayahs":["فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَاۤ أَلَّا تَحۡزَنِی قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِیࣰّا","وَهُزِّیۤ إِلَیۡكِ بِجِذۡعِ ٱلنَّخۡلَةِ تُسَـٰقِطۡ عَلَیۡكِ رُطَبࣰا جَنِیࣰّا","فَكُلِی وَٱشۡرَبِی وَقَرِّی عَیۡنࣰاۖ فَإِمَّا تَرَیِنَّ مِنَ ٱلۡبَشَرِ أَحَدࣰا فَقُولِیۤ إِنِّی نَذَرۡتُ لِلرَّحۡمَـٰنِ صَوۡمࣰا فَلَنۡ أُكَلِّمَ ٱلۡیَوۡمَ إِنسِیࣰّا"],"ayah":"فَنَادَىٰهَا مِن تَحۡتِهَاۤ أَلَّا تَحۡزَنِی قَدۡ جَعَلَ رَبُّكِ تَحۡتَكِ سَرِیࣰّا"}