الباحث القرآني

لَمَّا قَرَّرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ السُّورَةِ الشَّرِيفَةِ عُبُودِيَّةَ عِيسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَذَكَرَ خَلْقَهُ مِنْ مَرْيَمَ بِلَا أَبٍ، شَرَعَ فِي مَقَامِ الْإِنْكَارِ عَلَى مَنْ زَعَمَ أَنَّ لَهُ وَلَدًا -تَعَالَى وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا-فَقَالَ: ﴿وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ﴾ أَيْ: فِي قَوْلِكُمْ هَذَا، ﴿شَيْئًا إِدًّا﴾ [[في ف: (شيئا إدا) : أي: في قولكم هذا.]] قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وقَتَادَةُ، وَمَالِكٌ: أَيْ عَظِيمًا. وَيُقَالُ: ﴿إِدًّا﴾ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِهَا، وَمَعَ مَدِّهَا أيضا، ثلاث لغات، أشهرها الأولى. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾ أَيْ: يَكَادُ يَكُونُ ذَلِكَ عِنْدَ سَمَاعِهِنَّ [[في ف، أ: "سماعهم".]] هَذِهِ الْمَقَالَةَ مِنْ فَجَرَةِ بَنِي آدَمَ، إِعْظَامًا لِلرَّبِّ وَإِجْلَالًا؛ لِأَنَّهُنَّ مَخْلُوقَاتٌ وَمُؤَسَّسَاتٌ عَلَى تَوْحِيدِهِ، وَأَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ، وَأَنَّهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ وَلَا وَلَدَ لَهُ، وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ، وَلَا كُفْءَ لَهُ، بَلْ هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ: وَفِي كُلّ شَيءٍ لَهُ آيةٌ ... تَدُل عَلَى أَنَّهُ واحِدُ ... قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي عَلِيٌّ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ، عَنْ عَلِيٍّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾ قَالَ: إِنَّ الشِّرْكَ [[في أ: "الشريك".]] فَزِعَتْ مِنْهُ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ، وَجَمِيعُ الْخَلَائِقِ إِلَّا الثَّقَلَيْنِ، فَكَادَتْ أَنْ تَزُولَ مِنْهُ لِعَظَمَةِ اللَّهِ، وَكَمَا لَا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ إِحْسَانُ الْمُشْرِكِ، كَذَلِكَ نَرْجُو أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ ذُنُوبَ الْمُوَحِّدِينَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا عِنْدَ مَوْتِهِ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ". قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَمَنْ قَالَهَا فِي صِحَّتِهِ؟ قَالَ: "تِلْكَ أَوْجَبُ وَأَوْجَبُ". ثُمَّ قَالَ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ جِيءَ بِالسَّمَاوَاتِ وَالْأَرَضِينَ [[في أ: "والأرض".]] وَمَا فِيهِنَّ، وَمَا بَيْنَهُنَّ، وَمَا تَحْتَهُنَّ، فَوُضِعْنَ فِي كِفَّةِ الْمِيزَانِ، وَوُضِعَتْ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي الْكِفَّةِ الْأُخْرَى، لَرَجَحَتْ بِهِنَّ" [[تفسير الطبري (١٦/٩٨) .]] هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَيَشْهَدُ لَهُ حَدِيثُ الْبِطَاقَةِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ﴾ أَيْ: يَتَشَقَّقْنَ فَرَقًا [[في ف: "فرعا"، وفي أ: "أي ينشق فزعا".]] مِنْ عَظَمَةِ اللَّهِ. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿وَتَنْشَقُّ الأرْضُ﴾ أَيْ: غَضَبًا لِلَّهِ، عَزَّ وَجَلَّ. ﴿وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَدْمًا. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ﴿هَدًّا﴾ يَنْكَسِرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ مُتَتَابِعَاتٍ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سُوَيْد الْمَقْبُرِيُّ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، حَدَّثَنَا مِسْعَرٌ، عَنْ عَوْنِ بْنِ [[في ف: "ابن".]] عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: إِنَّ الْجَبَلَ لِيُنَادِي الْجَبَلَ بِاسْمِهِ: يَا فُلَانُ، هَلْ مَرَّ بِكَ الْيَوْمَ ذاكرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ [[في ف، أ: "ذاكر الله تعالى".]] ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، وَيَسْتَبْشِرُ. قَالَ عَوْنٌ: لَهِيَ [[في أ: "فهي".]] لِلْخَيْرِ أَسْمَعُ، أَفَيَسْمَعْنَ [[في ف، أ: "أفيستمعن".]] الزُّورَ وَالْبَاطِلَ إِذَا قِيلَ وَلَا يَسْمَعْنَ [[في ف، أ: "يستمعن".]] غَيْرَهُ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا﴾ [[ورواه أبو الشيخ في العظمة برقم (١١٧٦) من طريق ابن أبي عمر، عن سفيان، عن مسعر به، ورواه الطبراني في المعجم الكبير (٩/١٠٧) من طريق سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ مِسْعَرٍ، عن عون، عن ابن مسعود، بنحوه. وقال الهيثمي في المجمع (١٠/٧٩) : "رجاله رجال الصحيح".]] وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا: حَدَّثَنَا الْمُنْذِرُ بْنُ شَاذَانَ، حَدَّثَنَا هَوْذَة، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، عَنْ غَالِبِ بْنِ عَجْرَد، حَدَّثَنِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فِي مَسْجِدِ مِنَى قَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ اللَّهَ لَمَّا خَلَقَ الْأَرْضَ وَخَلَقَ مَا فِيهَا مِنَ الشَّجَرِ، لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ شَجَرَةٌ يَأْتِيهَا بَنُو آدَمَ إِلَّا أَصَابُوا مِنْهَا مَنْفَعَةً -أَوْ قَالَ: كَانَ لَهُمْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ-وَلَمْ تَزَلِ الْأَرْضُ وَالشَّجَرُ بِذَلِكَ، حَتَّى تَكَلَّمَ فَجَرَةُ بَنِي آدَمَ بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الْعَظِيمَةِ، قَوْلِهِمُ: ﴿اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا﴾ فَلَمَّا تَكَلَّمُوا بِهَا اقْشَعَرَّتِ الْأَرْضُ، وَشَكَاكَ الشَّجَرُ. وَقَالَ كَعْبُ الْأَحْبَارِ: غَضِبَتِ الْمَلَائِكَةُ، وَاسْتَعَرَتِ النَّارُ [[في ف، أ: "وأسعرت جهنم".]] ، حِينَ قَالُوا مَا قَالُوا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، عَنْ أَبِي مُوسَى، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " مَا أَحَدٌ [[في ف: "لا أحد".]] أَصْبَرُ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ [[في ف، أ: "سمعه".]] مِنَ اللَّهِ، إِنَّهُ يُشْرَكُ بِهِ، وَيُجْعَلُ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ يُعَافِيهِمْ وَيَدْفَعُ عَنْهُمْ وَيَرْزُقُهُمْ". أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ [[المسند (٤/٤٠٥) وصحيح البخاري برقم (٦٠٩٩) وصحيح مسلم برقم (٢٨٠٤) .]] وَفِي لَفْظٍ: "إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ يرزُقُهم وَيُعَافِيهِمْ". * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا﴾ أَيْ: لَا يَصْلُحُ لَهُ، وَلَا يَلِيقُ بِهِ لِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا كُفْءَ لَهُ مِنْ خَلْقِهِ [[في ف، أ: "الخلق".]] ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْخَلَائِقِ عَبِيدٌ لَهُ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا﴾ أَيْ: قَدْ عَلِمَ عَدَدَهم مُنْذُ خَلْقَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ذَكَرهم وَأُنْثَاهُمْ وَصَغِيرَهُمْ وَكَبِيرَهُمْ، ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ أَيْ: لَا نَاصِرَ لَهُ وَلَا مُجِيرَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَيَحْكُمُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، وَهُوَ الْعَادِلُ الَّذِي لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرّة، وَلَا يظلم أحدا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب