يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فُؤَادِ أُمِّ مُوسَى، حِينَ ذَهَبَ وَلَدُهَا فِي الْبَحْرِ، إِنَّهُ أَصْبَحَ فَارِغًا، أَيْ: مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا إِلَّا مِنْ مُوسَى. قَالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وعِكْرِمة، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، وَأَبُو عُبَيْدَةَ، وَالضَّحَّاكُ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وقَتَادَةُ، وَغَيْرُهُمْ.
﴿إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ﴾ أَيْ: إِنْ كَادَتْ مِنْ شَدَّةِ وَجْدِهَا وَحُزْنِهَا وَأَسَفِهَا لَتُظهر أَنَّهُ ذَهَبَ لَهَا وَلَدٌ، وَتُخْبِرُ بِحَالِهَا، لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ثَبَّتها وصبَّرها، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. وَقَالَتْ لأخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ أَيْ: أَمَرَتِ ابْنَتَهَا -وَكَانَتْ كَبِيرَةً تَعِي مَا يُقَالُ لَهَا -فَقَالَتْ لَهَا: ﴿قُصِّيهِ﴾ أَيْ: اتْبَعِي أَثَرَهُ، وَخُذِي خَبَرَهُ، وتَطَلَّبي شَأْنَهُ مِنْ نَوَاحِي الْبَلَدِ. فَخَرَجَتْ لِذَلِكَ، ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ﴾ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: عَنْ جَانِبٍ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ﴿فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ﴾ : عَنْ بَعِيدٍ.
وَقَالَ قَتَادَةُ: جَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ وَكَأَنَّهَا لَا تُرِيدُهُ.
وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا اسْتَقَرَّ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِدَارِ فِرْعَوْنَ، وَأَحَبَّتْهُ امْرَأَةُ الْمَلِكِ، وَاسْتَطْلَقَتْهُ مِنْهُ، عَرَضُوا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ الَّتِي فِي دَارِهِمْ، فَلَمْ يَقْبَلْ مِنْهَا ثَدْيًا، وَأَبَى أَنْ يَقْبَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. فَخَرَجُوا بِهِ إِلَى سُوقٍ لَعَلَّهُمْ يَجِدُونَ امْرَأَةً تَصْلُحُ لِرَضَاعَتِهِ، فَلَمَّا رَأَتْهُ بِأَيْدِيهِمْ عَرَفَتْهُ، وَلَمْ تُظْهِرْ ذَلِكَ وَلَمْ [[ففي ت، ف: "فلم".]] يَشْعُرُوا بِهَا.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ﴾ أَيْ: تَحْرِيمًا قَدَريا، وَذَلِكَ لِكَرَامَةِ اللَّهِ لَهُ صَانَهُ [[في ت: "صيانة".]] عَنْ أَنْ يَرْتَضِعَ غَيْرَ ثَدْيِ أُمِّهِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ -سُبْحَانَهُ -جَعَلَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى رُجُوعِهِ إِلَى أُمِّهِ، لِتُرْضِعَهُ وَهِيَ آمِنَةٌ، بَعْدَمَا كَانَتْ خَائِفَةً. فَلَمَّا رَأَتْهُمْ [أُخْتُهُ] [[زيادة من ت.]] حَائِرِينَ فِيمَنْ يُرْضِعُهُ قَالَتْ: ﴿هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ﴾ [[في ت: "يرضعونه".]] لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا قَالَتْ ذَلِكَ أَخَذُوهَا، وَشَكُّوا فِي أَمْرِهَا، وَقَالُوا لَهَا: وَمَا يُدْرِيكِ نُصْحَهُمْ لَهُ وَشَفَقَتَهُمْ عَلَيْهِ؟ فَقَالَتْ: نُصْحُهُمْ لَهُ وَشَفَقَتُهُمْ عَلَيْهِ رَغْبَتُهُمْ فِي ظُؤُورة [[في هـ، ت، ف، أ: "صهر" والمثبت من حديث الفتون. انظر: الجزء الخامس، تفسير سورة طه.]] الْمَلِكِ وَرَجَاءُ مَنْفَعَتِهِ. فَأَرْسَلُوهَا، فَلَمَّا قَالَتْ لَهُمْ ذَلِكَ وخَلَصت مِنْ أَذَاهُمْ، ذَهَبُوا مَعَهَا إِلَى مَنْزِلِهِمْ، فَدَخَلُوا بِهِ [[في ت: "بها".]] عَلَى أُمِّهِ، فَأَعْطَتْهُ ثَدْيَهَا فَالْتَقَمَهُ، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ فَرَحًا شَدِيدًا. وَذَهَبَ الْبَشِيرُ إِلَى امْرَأَةِ الْمَلِكِ، فَاسْتَدْعَتْ أُمَّ مُوسَى، وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهَا، وَأَعْطَتْهَا عَطَاءً جَزِيلًا وَهِيَ لَا تَعْرِفُ أَنَّهَا أُمُّهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَلَكِنْ لِكَوْنِهِ وَافَقَ ثَدْيَهَا. ثُمَّ سَأَلْتُهَا آسِيَةُ أَنْ تُقِيمَ عِنْدَهَا فَتُرْضِعُهُ، فَأَبَتْ عَلَيْهَا وَقَالَتْ: إِنَّ لِي بَعْلًا وَأَوْلَادًا، وَلَا أَقْدِرُ عَلَى الْمَقَامِ عِنْدَكِ. وَلَكِنْ إِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أُرْضِعَهُ فِي بَيْتِي فَعَلْتُ. فَأَجَابَتْهَا امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ إِلَى ذَلِكَ، وأجْرَتْ عَلَيْهَا النَّفَقَةَ وَالصِّلَاتِ وَالْكَسَاوِي وَالْإِحْسَانَ الْجَزِيلَ. فَرَجَعَتْ أُمُّ مُوسَى بِوَلَدِهَا رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً، قَدْ أَبْدَلَهَا اللَّهُ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهَا أَمْنًا، فِي عِزٍّ وَجَاهٍ وَرِزْقٍ دَارٍّ. وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: "مَثَلُ الَّذِي يَعْمَلُ وَيَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ، كَمَثَلِ أَمِّ مُوسَى تُرْضِعُ وَلَدَهَا وَتَأْخُذُ أَجْرَهَا" وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَ الشِّدَّةِ وَالْفَرَجِ إِلَّا الْقَلِيلُ: يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، أَوْ نَحْوُهُ، وَاللَّهُ [سُبْحَانَهُ] [[زيادة من أ.]] أَعْلَمُ، فَسُبْحَانَ مَنْ بِيَدَيْهِ الْأَمْرُ! مَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، الَّذِي يَجْعَلُ لِمَنِ اتَّقَاهُ بَعْدَ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَبَعْدَ كُلِّ ضِيقٍ [[في ت: "ضيقة".]] مَخْرَجًا. وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا﴾ أَيْ: بِهِ، ﴿وَلا تَحْزَنْ﴾ أَيْ: عَلَيْهِ: ﴿وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ﴾ أَيْ: فِيمَا وَعَدَهَا مِنْ رَدِّهِ إِلَيْهَا، وَجَعْلِهِ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَحِينَئِذٍ تَحَقَّقَتْ بِرَدِّهِ إِلَيْهَا أَنَّهُ كَائِنٌ مِنْهُ رَسُولٌ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَعَامَلَتْهُ فِي تَرْبِيَتِهِ مَا يَنْبَغِي لَهُ طَبْعًا وَشَرْعًا.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾ أَيْ: حُكْمَ اللَّهِ فِي أَفْعَالِهِ وَعَوَاقِبَهَا الْمَحْمُودَةَ، الَّتِي هُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَرُبَّمَا يَقَعُ الْأَمْرُ كَرِيهًا إِلَى النُّفُوسِ، وَعَاقِبَتُهُ مَحْمُودَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢١٦] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ١٩] .
{"ayahs_start":10,"ayahs":["وَأَصۡبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَـٰرِغًاۖ إِن كَادَتۡ لَتُبۡدِی بِهِۦ لَوۡلَاۤ أَن رَّبَطۡنَا عَلَىٰ قَلۡبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ","وَقَالَتۡ لِأُخۡتِهِۦ قُصِّیهِۖ فَبَصُرَتۡ بِهِۦ عَن جُنُبࣲ وَهُمۡ لَا یَشۡعُرُونَ","۞ وَحَرَّمۡنَا عَلَیۡهِ ٱلۡمَرَاضِعَ مِن قَبۡلُ فَقَالَتۡ هَلۡ أَدُلُّكُمۡ عَلَىٰۤ أَهۡلِ بَیۡتࣲ یَكۡفُلُونَهُۥ لَكُمۡ وَهُمۡ لَهُۥ نَـٰصِحُونَ","فَرَدَدۡنَـٰهُ إِلَىٰۤ أُمِّهِۦ كَیۡ تَقَرَّ عَیۡنُهَا وَلَا تَحۡزَنَ وَلِتَعۡلَمَ أَنَّ وَعۡدَ ٱللَّهِ حَقࣱّ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَهُمۡ لَا یَعۡلَمُونَ"],"ayah":"وَأَصۡبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَـٰرِغًاۖ إِن كَادَتۡ لَتُبۡدِی بِهِۦ لَوۡلَاۤ أَن رَّبَطۡنَا عَلَىٰ قَلۡبِهَا لِتَكُونَ مِنَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ"}