قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بن أبي محمد، عن عِكْرِمة أو سعيد بن جُبَير، عن ابن عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ أَبُو رَافِعٍ القُرَظِي، حِينَ اجْتَمَعَتِ الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ، عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ: أَتُرِيدُ يَا مُحَمَّدُ أَنْ نعبدكَ كَمَا تَعْبُدُ النَّصَارَى عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ نَجْرَانَ نَصْرَانِيٌّ يقال له الرئيس: أوَ ذاك تُرِيدُ مِنَّا يَا مُحَمَّدُ، وَإِلَيْهِ تَدْعُونَنَا؟ أَوْ كَمَا قَالَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَعَاذَ اللهِ أنْ نَعْبُدَ غَيْرَ اللهِ، أَوْ أنْ نَأْمُرَ بِعِبَادَةِ غَيْرِه، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي، وَلَا بِذَلِكَ أَمَرَنِي". أَوْ كَمَا قَالَ ﷺ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا: ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ﴾ [الْآيَةَ] [[زيادة من جـ، ر، أ، و.]] إِلَى قَوْلِهِ: ﴿بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [[السيرة النبوية لابن هشام (١/٥٥٤) ورواه الطبري في تفسيره (٦/٥٣٩) من طريق ابن إسحاق به.]] .
فَقَوْلُهُ [[في أ: "وقوله".]] ﴿مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ أَيْ: مَا يَنْبَغِي لِبَشَرٍ آتَاهُ اللَّهُ الْكِتَابَ والحُكْم وَالنُّبُوَّةَ أَنْ يَقُولَ لِلنَّاسِ: اعْبُدُونِي مِنْ دُونِ اللَّهِ. أَيْ: مَعَ اللَّهِ، فَإِذَا [[في جـ، ر، أ، و: "إذا".]] كَانَ هَذَا لَا يَصْلُحُ [[في أ، و: "يصح".]] لِنَبِيٍّ وَلَا لِمُرْسَلٍ، فَلِأَنْ لَا يَصْلُحَ [[في أ: "يصح".]] لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ غَيْرَهُمْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ وَلِهَذَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَا يَنْبَغِي هَذَا لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَأْمُرَ النَّاسَ بِعِبَادَتِهِ. قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانَ يَعْبُدُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا -يَعْنِي أَهْلَ الْكِتَابِ-كَانُوا يَتعبَّدون لِأَحْبَارِهِمْ وَرُهْبَانِهِمْ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] [[زيادة من جـ، ر، أ، و، وفي هـ: "الآية".]] ﴾ [التَّوْبَةَ:٣١] وَفِي الْمُسْنَدِ، وَالتِّرْمِذِيِّ -كَمَا سَيَأْتِي-أَنَّ عَديّ بْنَ حَاتِمٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عَبَدُوهُمْ. قَالَ: "بَلَى، إنَّهُمْ أَحَلُّوا لَهُمُ الْحَرَامَ وحَرَّمُوا عَلَيْهِمُ الْحَلالَ، فَاتَّبَعُوهُمْ، فَذَلِكَ [[في أ، و: "فذاك".]] عِبَادَتُهُمْ إِيَّاهُمْ".
فَالْجَهَلَةُ مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ وَمَشَايِخِ الضَّلَالِ يَدْخُلُونَ فِي هَذَا الذَّمِّ وَالتَّوْبِيخِ، بِخِلَافِ الرُّسُلِ وَأَتْبَاعِهِمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ، فَإِنَّمَا يَأْمُرُونَ بِمَا أمَرَ اللَّهُ بِهِ وَبَلَّغَتْهُمْ إِيَّاهُ رُسُلُهُ الْكِرَامُ. إِنَّمَا يَنْهَوْنهم عَمَّا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ وَبَلَّغَتْهُمْ إِيَّاهُ رُسُلُهُ الْكِرَامُ. فَالرُّسُلُ، صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أجمعينَ، هُمُ السُّفَرَاءُ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ خَلْقِهِ فِي أَدَاءِ مَا حَمَلُوهُ مِنَ الرِّسَالَةِ وَإِبْلَاغِ الْأَمَانَةِ، فَقَامُوا بِذَلِكَ أَتَمَّ قِيَامٍ، وَنَصَحُوا الْخَلْقَ، وَبَلَّغُوهُمُ الْحَقَّ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ أَيْ: وَلَكِنْ يَقُولُ الرَّسُولُ للناسِ: كُونُوا رَبَّانيين. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو رَزِين وَغَيْرُ وَاحِدٍ، أَيْ: حُكَمَاءَ عُلَمَاءَ حُلَمَاءَ. وَقَالَ الْحَسَنُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: فُقَهَاءَ، وَكَذَا رُوِي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبير، وَقَتَادَةَ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَعَطِيَّةَ الْعَوْفِيِّ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ. وَعَنِ الْحَسَنِ أَيْضًا: يَعْنِي أَهْلَ عِبَادَةٍ وَأَهْلَ تَقْوَى.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ فِي قَوْلِهِ: ﴿بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ حَقٌ عَلَى مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ أَنْ يَكُونَ فَقيهًا: "تَعْلَمُون" أَيْ: تُفَهِّمُونَ [[في أ، و: "يعلمون أي يفهمون".]] مَعْنَاهُ. وَقُرِئَ ﴿تُعَلِّمُون﴾ بِالتَّشْدِيدِ مِنَ التَّعْلِيمِ ﴿وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ﴾ تحفظون [[في ر: "يحفظون".]] ألفاظه.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا﴾ أَيْ: وَلَا يَأْمُرُكُمْ بِعِبَادَةِ أَحَدٍ غَيْرِ اللَّهِ، لَا نَبِيٍّ مُرْسَلٍ وَلَا مَلَكٍ مُقَرَّب ﴿أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ أَيْ: لَا يَفْعَل [[في ر: "تفعل".]] ذَلِكَ؛ لأنَّ مَنْ دَعَا إِلَى عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ دَعَا إِلَى الْكَفْرِ، وَالْأَنْبِيَاءُ إِنَّمَا يَأْمُرُونَ بِالْإِيمَانِ، وَهُوَ عِبَادَةُ اللَّهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي [[في ر: "يوحي".]] إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ:٢٥] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ الْآيَةَ، [النَّحْلِ:٣٦] وَقَالَ تَعَالَى [[زيادة من جـ، ر، أ.]] ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزُّخْرُفِ:٤٥] وَقَالَ [تَعَالَى] [[زيادة من جـ، ر، أ، و.]] إِخْبَارًا عَنِ الْمَلَائِكَةِ: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [الْأَنْبِيَاءِ:٢٩] .
{"ayahs_start":79,"ayahs":["مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن یُؤۡتِیَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ یَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا۟ عِبَادࣰا لِّی مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُوا۟ رَبَّـٰنِیِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ","وَلَا یَأۡمُرَكُمۡ أَن تَتَّخِذُوا۟ ٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةَ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ أَرۡبَابًاۗ أَیَأۡمُرُكُم بِٱلۡكُفۡرِ بَعۡدَ إِذۡ أَنتُم مُّسۡلِمُونَ"],"ayah":"مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن یُؤۡتِیَهُ ٱللَّهُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡحُكۡمَ وَٱلنُّبُوَّةَ ثُمَّ یَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا۟ عِبَادࣰا لِّی مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُوا۟ رَبَّـٰنِیِّـۧنَ بِمَا كُنتُمۡ تُعَلِّمُونَ ٱلۡكِتَـٰبَ وَبِمَا كُنتُمۡ تَدۡرُسُونَ"}