الباحث القرآني

يُخْبر تَعَالَى أَنَّ [[في جـ: "بأن".]] أَوَّلَ بَيْتٍ وُضع لِلنَّاسِ، أَيْ: لِعُمُومِ النَّاسِ، لِعِبَادَتِهِمْ ونُسُكهم، يَطُوفون بِهِ ويُصلُّون إِلَيْهِ ويَعتكِفُون عِنْدَهُ ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ يَعْنِي: الْكَعْبَةَ الَّتِي بَنَاهَا إِبْرَاهِيمُ الْخَلِيلُ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] [[زيادة من و.]] الَّذِي يَزْعم كُلٌّ مِنْ طَائِفَتَيِ النَّصَارَى وَالْيَهُودِ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِهِ ومنهجِه، وَلَا يَحجُّون إِلَى الْبَيْتِ الَّذِي بَنَاهُ عَنْ أَمْرِ اللَّهِ لَهُ فِي ذَلِكَ وَنَادَى النَّاسَ إِلَى حَجِّهِ. وَلِهَذَا قَالَ: ﴿مُبَارَكًا﴾ أَيْ وُضع مُبَارَكًا ﴿وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ﴾ وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّيْميّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي ذَر، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ قلتُ: يَا رسولَ اللَّهِ، أيُّ مَسجِد وُضِع فِي الْأَرْضِ أوَّلُ؟ قَالَ: "الْمسْجِدُ الْحَرَامُ". قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: "الْمسجِدُ الأقْصَى". قُلْتُ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ: "أرْبَعُونَ سَنَةً". قلتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُم حَيْثُ أدْرَكْت [[في أ: "أدركتك".]] الصَلاةَ فَصَلِّ، فَكُلُّهَا مَسْجِدٌ". وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، مِنْ حَدِيثِ الْأَعْمَشِ، بِهِ [[المسند (٥/١٥٠) وصحيح البخاري برقم (٣٣٦٦، ٣٤٢٥) وصحيح مسلم برقم (٥٢٠) .]] . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا شَرِيك عَنْ مُجالد، عَنِ الشَّعْبيّ عَنْ علِيّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا﴾ قَالَ: كَانَتِ الْبُيُوتُ قِبْلَةً، وَلَكِنَّهُ كَانَ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِعِبَادَةِ اللَّهِ [تَعَالَى] [[زيادة من أ، و.]] . [قَالَ] [[زيادة من و.]] وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ الرَّبِيعِ، حَدَّثَنَا أَبُو الأحْوَص، عن سِماك، عن خالد ابن عَرْعَرة قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى عَليّ فَقَالَ: أَلَا تُحَدِّثني عَنِ الْبَيْتِ: أَهْوَ أولُ بَيْتٍ وُضِع فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ [[في ر، أ، و: "فقال".]] لَا وَلَكِنَّهُ أَوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ فِيهِ الْبَرَكَةُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا. وَذَكَرَ تَمَامَ الْخَبَرِ فِي كَيْفِيَّةِ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ الْبَيْتَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ مُستَقصًى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فأغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ [[تفسير ابن أبي حاتم (٢/٤٠٣) .]] . وَزَعَمَ السُّدِّي أَنَّهُ أولُ بَيْتٍ وُضِعَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مُطْلَقًا. والصحيحُ قولُ علِيّ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] [[زيادة من أ، و.]] فَأَمَّا الْحَدِيثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي بِنَاءِ الْكَعْبَةِ فِي [[في أ، و: "من".]] كِتَابِهِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ، مِنْ طَرِيقِ ابْنِ لَهِيعة، عَنْ يَزيد بْنِ أَبِي حَبيب، عَنْ أَبِي الْخَيْرِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ مَرْفُوعًا: "بَعَثَ اللهُ جِبْرِيلَ إلَى آدَمَ وحَوَّاءَ، فَأمَرَهُمَا بِبِنَاءِ الْكَعْبَةِ، فَبَنَاهُ آدَمُ، ثُمَّ أمَرَ بِالطَّوَافِ بِهِ، وَقِيلَ لَهُ: أنْتَ أوَّلُ النَّاسِ، وهَذَا أوَّلُ بَيْتٍ وُضِعَ للنَّاسِ" [[دلائل النبوة للبيهقي (٢/٤٥) وقال البيهقي: "تفرد به ابن لهيعة هكذا مرفوعا".]] فإنَّهُ كَمَا تَرَى مِنْ مُفْرَدَاتِ ابْنِ لَهِيعة، وَهُوَ ضَعِيفٌ. والأشْبَهُ، وَاللَّهُ أعلمُ، أَنْ يَكُونَ هَذَا مَوْقُوفا عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو. وَيَكُونُ مِنَ الزَّامِلَتَيْنِ اللَّتَيْنِ [[في أ: "اللذين".]] أَصَابَهُمَا يَوْمَ الْيَرْمُوك، مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ. * * * وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ بَكَّة: مِنْ أَسْمَاءِ مَكَّةَ عَلَى الْمَشْهُورِ، قِيلَ [[في ر: "وقيل".]] سُمِّيت بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تَبُكّ أَعْنَاقَ الظَّلَمَةِ وَالْجَبَابِرَةِ، بِمَعْنَى: يُبَكون [[في و: "يذلون".]] بِهَا وَيَخْضَعُونَ عِنْدَهَا. وَقِيلَ: لِأَنَّ النَّاسَ يَتَبَاكّون فِيهَا، أَيْ: يَزْدَحِمُونَ. قَالَ قَتَادَةُ: إِنَّ اللَّهَ بَكَّ بِهِ النَّاسَ جَمِيعًا، فَيُصَلِّي [[في جـ، ر: "فتصلي".]] النِّسَاءُ أَمَامَ الرِّجَالِ، وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ بِبَلَدٍ غَيْرِهَا. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وعَمْرو بْنِ شُعَيب، ومُقاتل بْنِ حَيَّان. وَذَكَرَ حَمّاد بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ السَّائِبِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عن ابن عباس قال: مَكَّة مِنَ الْفَجِّ إِلَى التَّنْعِيمِ، وَبَكَّةُ مِنَ الْبَيْتِ إِلَى الْبَطْحَاءِ. وَقَالَ شُعْبَةُ، عَنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ: بَكَّة: الْبَيْتُ وَالْمَسْجِدُ. وَكَذَا قَالَ الزُّهْرِيُّ. وَقَالَ عِكْرِمَةُ فِي رِوَايَةٍ، وَمَيْمُونُ بْنُ مِهْران: الْبَيْتُ وَمَا حَوْلَهُ بَكَّةُ، وَمَا وَرَاءَ ذَلِكَ مَكَّةُ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ، وَإِبْرَاهِيمُ النّخَعي، وَعَطِيَّةُ [العَوْفي] [[زيادة من جـ، أ، و.]] وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ: بَكَّةُ مَوْضِعُ الْبَيْتِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مَكَّةُ. وَقَدْ ذَكَرُوا لِمَكَّةَ أَسْمَاءً كَثِيرَةً: مَكَّةَ، وَبَكَّةَ، وَالْبَيْتَ الْعَتِيقَ، وَالْبَيْتَ الْحَرَامَ، وَالْبَلَدَ الْأَمِينَ، وَالْمَأْمُونَ، وأُمَّ رُحْم، وَأُمَّ القُّرَى، وَصَلَاحَ، والعرْش عَلَى وَزْنِ بَدْرٍ، وَالْقَادِسَ؛ لِأَنَّهَا تُطَهِّرُ مِنَ الذُّنُوبِ، وَالْمُقَدَّسَةَ، وَالنَّاسَّةَ: بِالنُّونِ، وَبِالْبَاءِ أَيْضًا، وَالْحَاطِمَةَ، والنسَّاسة [[في جـ، ر: "النساسة والحطامة".]] وَالرَّأْسَ، وكُوثى، والبلدة، والبَنِيَّة، والكعبة. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ﴾ أَيْ: دَلَالَاتٌ ظَاهِرَةٌ أَنَّهُ مِنْ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَظَّمه وَشَرَّفَهُ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: ﴿مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ يَعْنِي: الَّذِي لَمَّا ارْتَفَعَ الْبِنَاءُ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى رَفْعِ الْقَوَاعِدِ مِنْهُ وَالْجُدْرَانِ، حَيْثُ كَانَ يَقِفُ عَلَيْهِ وَيُنَاوِلُهُ وَلَدُهُ إِسْمَاعِيلُ، وَقَدْ كَانَ مُلْتَصِقًا [[في أ، و: "ملصقا".]] بِجِدَارِ الْبَيْتِ، حَتَّى أَخَّرَهُ عُمَر بْنُ الْخَطَّابِ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فِي إِمَارَتِهِ إِلَى نَاحِيَةِ الشَّرْقِ [[في جـ: "المشرق".]] بِحَيْثُ يَتَمَكَّنُ الطُّوَّاف، وَلَا يُشَوِّشون عَلَى الْمُصَلِّينَ عِنْدَهُ بَعْدَ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّلَاةِ عِنْدَهُ حَيْثُ قَالَ: ﴿وَاتَّخِذُوا مِنْ مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى﴾ [الْبَقَرَةِ:١٢٥] وَقَدْ قَدَّمْنَا الْأَحَادِيثَ فِي ذَلِكَ، فأغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ هَاهُنَا، وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَقَالَ العَوْفي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ أَيْ: فمنهُنَّ [[في أ: "فهي".]] مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ والمَشْعَر. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أثرُ قَدَمَيْهِ فِي الْمَقَامِ آيَةٌ بَيِّنَةٌ. وَكَذَا رُوِيَ عَنْ عُمر بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، والسُّدِّي، ومُقَاتِل بْنِ حَيّان، وَغَيْرِهِمْ. وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ: ومَوْطئ إِبْرَاهِيمَ فِي الصَّخْرِ رَطْبةٌ ... عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غَيْرَ ناعلِ ... وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ وعَمْرو الأوْدِي قَالَا حَدَّثَنَا وَكِيع، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنِ ابْنِ جُرَيج، عَنْ عَطَاءٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ﴾ قَالَ: الحَرَم كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. وَلَفْظُ عَمْرٍو: الحَجَر كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. وَرُوِيَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَجُّ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ. هَكَذَا رَأَيْتُ فِي النُّسْخَةِ، وَلَعَلَّهُ الحَجَر كُلُّهُ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ مُجَاهِدٌ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ يَعْنِي: حَرَمُ مَكَّةَ إِذَا دَخَلَهُ الْخَائِفُ يأمنُ مِنْ كُلِّ سُوءٍ، وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي حَالِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْتُل فيَضَع فِي عُنُقِه صوفَة وَيَدْخُلُ [[في جـ: "فيدخل".]] الْحَرَمَ فَيَلْقَاهُ ابْنُ الْمَقْتُولِ فَلَا يُهَيِّجْهُ حَتَّى يَخْرُجَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدٍ الأشَجّ، حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى التَّيْمِيّ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ قَالَ: مَنْ عَاذَ بِالْبَيْتِ أَعَاذَهُ الْبَيْتُ، وَلَكِنْ لَا يُؤْوَى وَلَا يُطْعَم وَلَا يُسقى، فَإِذَا خَرَجَ أُخذ بِذَنْبِهِ. وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ [الْعَنْكَبُوتِ:٦٧] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ. الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ﴾ [قُرَيْشٍ:٣، ٤] وَحَتَّى إِنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ تَحْرِيمِهَا حُرْمة اصْطِيَادِ صَيْدِهَا وَتَنْفِيرِهِ عَنْ أَوْكَارِهِ، وحُرْمة قَطْعِ أشجارها وقَلْع ثمارها حَشيشها، كَمَا ثَبَتَتِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ [[في جـ: "الآثار والأحاديث".]] فِي ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ، وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَوْمَ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ: "لَا هِجْرَةَ وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وإذَا استَنْفَرْتُمْ فَانْفِرُوا"، وَقَالَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَتْحِ مَكَّةَ: "إنَّ هَذَا الْبَلَدَ [[في أ، و: "البيت".]] حَرَّمَهُ اللهُ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحرمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَحِلَّ الْقِتَالُ فِيهِ لِأَحَدٍ قَبْلِي، وَلَمْ يَحِلَّ لِي إِلَّا فِي سَاعَةٍ مِنْ نَهَارٍ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يُعْضَد شَوْكُهُ، وَلَا يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلَا يَلْتَقطْ لُقَطتَه إِلَّا مَنْ عَرَّفها، وَلَا يُخْتَلى خَلاها [[في ر: "خلالها".]] فقال العباس: يا رسول الله، إلا الإذْخَرَ، فَإِنَّهُ لقَيْنهم ولبُيوتهم، فَقَالَ: "إِلَّا الإذْخَر" [[صحيح البخاري برقم (١٨٣٤) وصحيح مسلم برقم (١٣٥٣) .]] . وَلَهُمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، مِثْلَهُ أَوْ نَحْوَهُ [[صحيح البخاري برقم (٢٤٣٤) ، وصحيح مسلم برقم (١٣٥٥) .]] وَلَهُمَا وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ أَيْضًا عَن أَبِي شُرَيح العَدوي أَنَّهُ قَالَ لعَمْرو بْنِ سَعِيدٍ، وَهُوَ يَبْعَثُ الْبُعُوثَ إِلَى مكةَ: ائذَنْ لِي أَيُّهَا الْأَمِيرُ أَنْ أُحدِّثك قَولا قَامَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الغَدَ مِنْ يَوْمِ الْفَتْحِ سَمعَتْه أُذُنَايَ وَوَعَاهُ قَلْبِي وَأَبْصَرَتْهُ عَيْنَايَ حِينَ تَكَلَّمَ بِهِ، إِنَّهُ حَمد اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ: "إنَّ مَكِّةَ حَرَّمَهَا اللهُ ولَمْ يُحَرِّمْهَا النَّاسُ، فَلا يَحِلُّ لامرئ يُؤْمِنُ باللهِ والْيَوْمِ الْآخِرِ أنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، ولا يَعْضد بِهَا شَجَرةً، فَإنْ أحَد تَرخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللهِ ﷺ فِيهَا فَقُولُوا لَهُ: إنَّ اللهَ أذِنَ لِرَسُولِهِ وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ، وإنَّمَا أذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالأمْسِ فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهدُ الغائِبَ" فَقِيلَ لِأَبِي شُرَيح: ما قال لك عَمْرو؟ قال: أنا أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْكَ يَا أَبَا شُرَيْحٍ، إِنَّ الحَرَم لَا يُعيذ عَاصِيًا وَلَا فَارا بِدَمٍ وَلَا فَارًّا بخَزْيَة [[في أ:" بخرمة".]] [[صحيح البخاري برقم (١٨٣٢) وصحيح مسلم برقم (١٣٥٤) .]] . وَعَنْ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: "لَا يَحِلُّ لأحَدِكُمْ أنْ يَحْمِلَ بِمَكَّةَ السِّلاحَ" [[صحيح مسلم برقم (١٣٥٦) .]] رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيّ بْنِ الْحَمْرَاءِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ، وَهُوَ وَاقِفٌ بالحَزْوَرَة فِي سُوقِ مَكَّةَ: "واللهِ إِنَّكِ لَخَيْرُ أرْضِ اللهِ، وأحَبُّ أرْضِ اللهِ إلَى اللهِ، ولَوْلا أنِّي أُخْرِجْتُ مِنْكِ مَا خَرَجْتُ". رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، وَهَذَا لَفْظُهُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ. وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ [[المسند (٤/٣٠٥) وسنن الترمذي برقم (٣٩٢٥) والنسائي في السنن الكبرى برقم (٤٢٥٤) وسنن ابن ماجة برقم (٣١٠٨) .]] وَكَذَا صَحَّح مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ [[سنن الترمذي برقم (٣٩٢٦) وقال: "هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ".]] وَرَوَى أَحْمَدُ عن أبي هريرة، نحوه [[المسند (٤/٣٠٥) .]] . وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا بِشْر بْنُ آدَمَ ابْنِ بِنْتِ أَزْهَرَ السَّمَّانُ [[في ر: "السماك".]] حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ، عَنْ زُرَيق بْنِ مُسْلِمٍ [[في أ: "أسلم".]] الْأَعْمَى مَوْلَى بَنِي مَخْزُومٍ، حَدَّثَنِي زِيَادُ بْنُ أَبِي عَيَّاشٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَعْدَةَ بْنِ هُبَيْرَة، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا﴾ قَالَ: آمِنًا مِنَ النَّارِ. وَفِي مَعْنَى هَذَا الْقَوْلِ الحديثُ الَّذِي رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدان، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْوَاسِطِيُّ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ سُلَيْمَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ المُؤَمَّل، عَنِ ابْنِ مُحَيْصِن، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "مَنْ دَخَلَ الْبَيْتَ دَخَلَ فِي حَسَنةٍ وَخَرَجَ مِنْ سَيِّئَةٍ، وَخَرَجَ مَغْفُورًا لَهُ": ثُمَّ قَالَ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُؤَمَّلِ، وَلَيْسَ بِقَوِيٍّ [[السنن الكبرى (٥/١٥٨) ورواه الطبراني في المعجم الكبير (١١/٢٠١) والبزار في مسنده برقم (١١٦١) من طريق عبد الله بن المؤمل به.]] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ هَذِهِ آيَةُ وُجُوب الْحَجِّ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ: بَلْ هِيَ قَوْلُهُ: ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ [الْبَقَرَةِ:١٩٦] وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ. وَقَدْ وَرَدَت الأحاديثُ الْمُتَعَدِّدَةُ بِأَنَّهُ أحدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَدَعَائِمِهِ وَقَوَاعِدِهِ، وَأَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَاعًا ضَرُورِيًّا، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى المكلَّف فِي العُمْر مَرّة وَاحِدَةً بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ بْنُ مُسْلِمٍ القُرَشيّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ: " أيُّهَا النَّاسُ، قَدْ فُرِضَ عَلَيْكُمْ الْحَجُّ فَحُجُّوا". فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ، حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ ". ثُمَّ قَالَ: "ذَرُونِي مَا تَرَكْتُكُمْ، فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤَالِهِمْ وَاخْتِلافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِشَيْءٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ، وإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فَدَعُوهُ". وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ، عَنْ زُهَير بْنِ حَرْبٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ هَارُونَ، بِهِ نَحْوَهُ [[المسند (٢/٥٠٨) وصحيح مسلم برقم (١٣٣٧) .]] . وَقَدْ رَوَى سُفْيان بْنُ حُسَيْنٍ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ، وَعَبْدُ الْجَلِيلِ بْنُ حُمَيد، وَمُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَفْصَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ أَبِي سنَان الدُّؤَلِيِّ -وَاسْمُهُ يَزِيدُ بْنُ أُمِّيَّةَ-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: خَطَبَنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فقال: "يَأيُّهَا النَّاسُ، إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُم الحَجَّ". فَقَامَ الْأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: "لَوْ قُلْتُهَا، لَوَجَبَتْ، ولَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَعْمَلُوا بِهَا، وَلَمْ تَسْتَطِيعُوا أنْ تَعْمَلُوا بِهَا؛ الحَجُّ مَرَّةً، فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ". رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ الزُّهْرِيِّ، بِهِ. وَرَوَاهُ شَرِيكٌ، عَنْ سِمَاك، عَنْ عِكرمة، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، بِنَحْوِهِ. وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أُسَامَةَ يزيد [[المسند (١/٢٩٠) وسنن أبي داود برقم (١٧٢١) وسنن النسائي (٥/١١١) وسنن ابن ماجة برقم (٢٨٨٦) والمستدرك (٢/٢٩٣) .]] . [وَ] [[زيادة من جـ، ر.]] قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ وَرْدَان، عَنْ عَلِيِّ بْنِ عَبْدِ الْأَعْلَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي البَخْتَرِيّ، عَنْ علِيّ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي كُلِّ عَامٍ؟ فَسَكَتَ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: "لَا ولَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لَوَجَبَتْ". فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ﴾ [الْمَائِدَةِ:١٠١] . وَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَالْحَاكِمُ، مِنْ حَدِيثِ مَنْصُورِ بْنِ وَرْدان، بِهِ: ثُمَّ قَالَ [[في أ: "وقال".]] التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ. وَفِيمَا قَالَ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْبُخَارِيَّ قَالَ: لَمْ يَسْمَعْ أَبُو البَخْتَرِيّ مِنْ عَلِيٍّ [[المسند (١/١١٣) وسنن الترمذي برقم (٣٠٥٥) وسنن ابن ماجة برقم (٢٨٨٤) والمستدرك (٢/٢٩٤) .]] . وَقَالَ ابْنُ مَاجَهْ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْر، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي عُبَيدة، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْحَجُّ فِي كُلِّ عَامٍ؟ قَالَ: "لَوْ قُلْتُ: نَعَمْ، لوجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ لَمْ تَقُومُوا [[في ر: "يقوموا".]] بِهَا، ولَوْ لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَعُذِّبتُمْ" [[سنن ابن ماجة برقم (٢٨٨٥) وقال البوصيري في الزوائد (٣/٤) : "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".]] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْج، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ جَابِرٍ، عَنْ [[في أ: "أن".]] سُراقة بْنِ مَالِكٍ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مُتْعَتنا هَذِهِ لِعَامِنَا هَذَا أَمْ لِلْأَبَدِ؟ قَالَ: "لَا بَلْ لِلأبَدِ". وَفِي رِوَايَةٍ: "بَلْ لأبَد أبَدٍ" [[صحيح البخاري برقم (٢٥٠٥) وصحيح مسلم برقم (١٢١٦) .]] . وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، وَسُنَنِ أَبِي دَاوُدَ، مِنْ حَدِيثِ وَاقِدِ بْنِ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، عَنْ أَبِيهِ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِنِسَائِهِ فِي حَجَّتِهِ: "هَذِه ثُمَّ ظُهُورَ الحُصْر" [[المسند (٥/٢١٨، ٢١٩) وسنن أبي داود برقم (١٧٢٢) .]] يَعْنِي: ثُمَّ الزَمْنَ ظُهور الْحُصْرِ، وَلَا تَخْرُجْنَ مِنَ الْبُيُوتِ. وَأَمَّا الِاسْتِطَاعَةُ فَأَقْسَامٌ: تَارَةً يَكُونُ الشَّخْصُ مُسْتَطِيعًا بِنَفْسِهِ، وَتَارَةً بِغَيْرِهِ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كُتُبِ الْأَحْكَامِ. قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ يَزِيدَ قَالَ: سَمِعْتُ محمَّد بْنَ عَبَّاد بْنِ جَعْفَرٍ يُحَدِّثُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَامَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ [[في جـ، ر، أ، و: "النبي".]] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَالَ: مَن الْحَاجُّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "الشَّعثُ التَّفِل" [[في ر: "الثقل" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه.]] فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: أَيُّ الْحَجِّ أَفْضَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "العَجُّ والثَّجُّ"، فَقَامَ آخَرُ فَقَالَ: مَا السَّبِيلُ يَا رَسُولَ الله [[في جـ: "يا رسول الله ما السبيل".]] ؟ قال: "الزَّادُ والرَّاحِلَة". وَهَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ يَزِيدَ وَهُوَ الخُوزي. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: وَلَا نَعْرِفُهُ [[في ر: "يرفعه".]] إِلَّا مِنْ حَدِيثِهِ، وَقَدْ تَكَلَّمَ فِيهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ قِبَلِ حِفْظِهِ. كَذَا قَالَ هَاهُنَا. وَقَالَ فِي كِتَابِ الحَجّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ [[سنن الترمذي برقم (٨١٣) ، (٢٩٩٨) وسنن ابن ماجة برقم (٢٨٩٦) .]] . [وَ] [[زيادة من جـ، ر.]] لَا يُشَكُّ أَنَّ هَذَا الْإِسْنَادَ رِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ سِوَى الْخُوزِيِّ هَذَا، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ مِنْ أَجْلِ هَذَا الْحَدِيثِ. لَكِنْ قَدْ تَابَعَهُ غَيْرُهُ، فَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعَامِرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ لَهُ: مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: "الزَّادُ والرِّحْلَة". وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ مَرْدُويَه مِنْ رِوَايَةِ مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُبَيد بْنِ عمير، بِهِ. ثُمَّ قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسٍ، وَالْحَسَنِ، وَمُجَاهِدٍ، وَعَطَاءٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَالرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، وَقَتَادَةَ -نَحْوُ ذَلِكَ [[تفسير ابن أبي حاتم (٢/٤٢٢) .]] . وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ مِنْ طُرُق أخَر مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَائِشَةَ كُلها مَرْفُوعَةٌ، وَلَكِنْ فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ [[وقد جمع هذه الطرق وتكلم عليها الشيخ ناصر الألباني في كتابه: "إرواء الغليل" (٤/١٦٠) بما يكفي وانتهى إلى ضعف الحديث فأفاد وأجاد جزاه الله خيرا.]] كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَدِ اعْتَنَى الْحَافِظُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدُويه بِجَمْعِ طُرُقِ هَذَا الْحَدِيثِ. وَرَوَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ قَتَادَة [[في جـ: "أبي قتادة".]] عَنْ حَمَّادِ بْنِ سَلَمَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ سُئِلَ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ فَقِيلَ [[في أ: "فقال"، وفي و: "قالوا".]] مَا السَّبِيلُ [[في و: "فقيل: يا رسول الله، ما السبيل".]] ؟ قَالَ: "الزَّاد والرَّاحِلَة". ثُمَّ قَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ [[المستدرك (١/٤٤٢) .]] . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنِي يَعْقُوبُ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُلَيَّة، عَنْ يُونس، عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا السَّبِيلُ؟ قَالَ: "الزَّادُ والرَّاحِلَةُ " [[تفسير الطبري (٧/٤٠) وإسناده مرسل.]] . وَرَوَاهُ وَكِيع فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ يُونُسَ، بِهِ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَنْبَأَنَا الثَّوْرِيُّ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ -وَهُوَ أَبُو إِسْرَائِيلَ الْمُلَائِيُّ-عَنْ فُضَيْل -يَعْنِي ابْنَ عَمْرٍو-عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "تَعَجَّلُوا إِلَى الحَجِّ -يَعْنِي الْفَرِيضَةَ-فإنَّ أحَدَكُمْ لَا يَدْرِي مَا يَعْرضُ لَهُ " [[المسند (١/٣١٣) .]] . وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَمْرٍو الفُقَيْمي، عَنْ مِهْرَان بْنِ أَبِي صَفْوَانَ [[في أ: "ضرار"، وفي و: "مهران".]] عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ أرَادَ الحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ". وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ مُسَدَّدٍ، عَنْ أَبِي مُعَاوِيَةَ الضَّرِيرِ، بِهِ [[المسند (١/٢٢٥) .]] . وَقَدْ رَوَى ابْنُ جُبَير، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ قَالَ: مَنْ مَلَك ثَلَاثَمِائَةِ دِرْهم فَقَدِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وَعَنْ عِكْرمة مَوْلَاهُ أَنَّهُ قَالَ: السَّبِيلُ الصِّحَّة. وَرَوَى وَكِيعُ بْنُ الجَرّاح، عَنْ أَبِي جَنَاب [[في جـ، ر: "حباب".]] -يَعْنِي الْكَلْبِيَّ-عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزاحِم، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: ﴿مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا﴾ قَالَ: الزَّادُ وَالْبَعِيرُ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: أَيْ وَمَنْ جَحَد فَرِيضَةَ الْحَجِّ فَقَدْ كَفَرَ، وَاللَّهُ غَنِيٌّ عَنْهُ [[في ر: "عنه غني".]] . وَقَالَ سَعيد بْنُ مَنْصُورٍ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيح، عَنْ عِكْرِمة قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ﴾ قَالَتِ الْيَهُودُ: فَنَحْنُ مُسْلِمُونَ. قَالَ اللَّهُ، عَزَّ وَجَلَّ [[في ر: "الله تعالى".]] فاخْصَمْهُمْ فَحَجَّهُمْ -يَعْنِي فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ ﷺ: "إنَّ اللهَ فَرَضَ عَلَى الْمسلمِينَ حَجَّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاع إِلَيْه سَبِيلا" فَقَالُوا: لَمْ يُكْتَبْ عَلَيْنَا، وأبَوْا أَنْ يَحُجُّوا. قَالَ اللَّهُ: ﴿وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ [[ورواه الطبري في تفسيره (٧/٥٠) من طريق عيسى عن سفيان به.]] . وَرَوَى ابْنُ أَبِي نَجيح، عَنْ مُجَاهِدٍ، نَحْوَه. وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَخْبَرَنَا مُسْلِمُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ وشَاذ [[في أ: "وساد".]] بْنُ فَيَّاضٍ قَالَا أَخْبَرَنَا هِلَالٌ أَبُو هَاشِمٍ الخُراساني، أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْهَمْدَانِيُّ، عَنِ الْحَارِثِ، عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "مَنْ مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً وَلَمْ يَحُجَّ بَيْتَ اللهِ، فَلا يَضُرُّهُ مَاتَ يَهُودِيّا أوْ نَصْرانِيّا، ذَلِكَ بِأنَّ اللهَ قَالَ: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾ . وَرَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ حَدِيثِ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، بِهِ. وَهَكَذَا رَوَاهُ ابنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زُرْعة الرَّازِيِّ: حَدَّثَنَا هِلَالُ بْنُ فياض، حدثنا هلال أبو هاشم الْخُرَاسَانِيُّ، فَذَكَرَهُ بِإِسْنَادِهِ مِثْلَهُ. وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى القُطَعي، عَنْ مُسْلِمِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ هِلَالِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مَوْلَى رَبيعة بْنِ عَمْرو بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيِّ، بِهِ، وَقَالَ: [هَذَا] [[زيادة من جـ.]] حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَفِي إِسْنَادِهِ [[في أ: "أسانيده".]] مَقَالٌ، وَهِلَالٌ مَجْهُولٌ، وَالْحَارِثُ يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ [[تفسير الطبري (٧/٤١) وتفسير ابن أبي حاتم (٢/٤٢١) وسنن الترمذي برقم (٨١٢) .]] . وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هِلَالٌ هَذَا مُنْكَرُ الْحَدِيثِ. وَقَالَ ابْنُ عَدِيّ: هَذَا الْحَدِيثُ لَيْسَ بِمَحْفُوظٍ. وَقَدْ رَوَى أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ الْحَافِظُ مِنْ حَدِيثِ [أَبِي] [[زيادة من جـ.]] عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ، حَدَّثَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ [[في ر، أ: "عبد الله" وهو خطأ، والصواب ما أثبتناه "تهذيب التهذيب ١/٣١٧".]] بْنِ أَبِي الْمُهَاجِرِ، حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ غَنْم أَنَّهُ سَمِعَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ يَقُولُ: مَنْ أَطَاقَ الْحَجَّ فَلَمْ يَحُجَّ، فَسَوَاءٌ عَلَيْهِ يَهُودِيًّا مَاتَ أَوْ نَصْرَانِيًّا. وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ إِلَى عُمَرَ [[ورواه ابن أبي شيبة وسعيد بن منصور كما في الدر المنثور (٢/٢٧٥) وروى مرفوعا من حديث أبي أمامة الباهلي وابن مسعود وعلي وأبي هريرة، لكن لم يصح منها شيء. انظر تخريجها والكلام عليها في: "نصب الراية" للزيلعي (٤/٤١٠) .]] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَرَوَى سَعيد بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: لَقَدْ هَمَمْتُ أَنَّ أَبْعَثَ رِجَالًا إِلَى هَذِهِ الْأَمْصَارِ فَيَنْظُرُوا كُلَّ مَنْ كَانَ لَهُ جَدةٌ فَلَمْ [[في جـ، ر، أ: "ولم".]] يَحُجَّ، فَيَضْرِبُوا عَلَيْهِمُ الجِزْية، مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ. مَا هُمْ بِمُسْلِمِينَ [[ذكره المؤلف ابن كثير في "مسند عمر" وعزاه لمحمد بن إسماعيل البصري، وسعيد بن منصور في سننه قال: "وفيه انقطاع" (١/٢٩٣) .]] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب