الباحث القرآني

كَانَتْ سَبَأٌ ملوكَ الْيَمَنِ وَأَهْلَهَا، وَكَانَتِ التَّبَابِعَةُ مِنْهُمْ، وَبِلْقِيسُ -صَاحِبَةُ سُلَيْمَانَ-مِنْهُمْ [[في ت، س، أ: "من جملتهم".]] ، وَكَانُوا فِي نِعْمَةٍ وَغِبْطَةٍ فِي بِلَادِهِمْ، وَعَيْشِهِمْ وَاتِّسَاعِ أَرْزَاقِهِمْ وَزُرُوعِهِمْ وَثِمَارِهِمْ. وَبَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ الرُّسُلَ تَأْمُرُهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ، وَيَشْكُرُوهُ [[في أ: "ويشكروا له".]] بِتَوْحِيدِهِ وَعِبَادَتِهِ، فَكَانُوا كَذَلِكَ مَا شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ أَعْرَضُوا عَمَّا أُمِرُوا بِهِ، فَعُوقِبُوا بِإِرْسَالِ السَّيْلِ وَالتَّفَرُّقِ فِي الْبِلَادِ أَيْدِيَ سَبَأٍ، شَذَرَ مَذرَ، كَمَا يَأْتِي تَفْصِيلُهُ وَبَيَانُهُ قَرِيبًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَبِهِ الثِّقَةُ. قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعة، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هُبَيْرة، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ وَعْلة قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ يَقُولُ [[في ت: "وروى الإمام أحمد بإسناده عن ابن عباس قال".]] : أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ سَبَأٍ: مَا هُوَ؟ رَجُلٌ [[في ت، س: "أرجل".]] أَمِ امْرَأَةٌ أَمْ أَرْضٌ؟ قَالَ: "بَلْ هُوَ رَجُلٌ، وَلَدَ عَشَرة [[في أ: "ولد له عشرة".]] ، فَسَكَنَ الْيَمَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَبِالشَّامِ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الْيَمَانِيُّونَ: فَمَذْحِجُ، وكِنْدَةُ، وَالْأَزْدُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَأَنْمَارٌ، وَحِمْيَرُ. وَأَمَّا الشَّامِيَّةُ فَلَخْمُ، وَجُذَامُ، وَعَامِلَةُ، وَغَسَّانُ. وَرَوَاهُ عَبد، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنِ ابْنِ لَهِيعة، بِهِ [[المسند (١/٣١٦) .]] . وَهَذَا إِسْنَادٌ [[في ت: "وإسناده".]] حَسَنٌ، وَلَمْ يُخْرِّجُوهُ، [وَقَدْ رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ] [[زيادة من ت.]] . وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي كِتَابِ "الْقَصْدِ والأمَمْ، بِمَعْرِفَةِ أُصُولِ أَنْسَابِ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ"، مِنْ حَدِيثِ ابْنِ لَهِيعَةَ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ وَعْلَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَ نَحْوَهُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَقَالَ [الْإِمَامُ] أَحْمَدُ [[زيادة من ت، س، أ.]] أَيْضًا وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا أَبُو جَنَاب يَحْيَى بْنُ أَبِي حيَّة الْكَلْبِيُّ، عَنْ يَحْيَى بْنِ هَانِئِ بْنِ عُرْوَة، عَنْ فَرْوَةَ بْنِ مُسيَك قَالَ: أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَقَلَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُ بِمُقْبِلِ قَوْمِي مُدْبِرَهُمْ؟ قَالَ: "نَعَمْ، فَقَاتِلْ بِمُقْبِلِ قَوْمِكَ مُدْبِرَهُمْ". فَلَمَّا وَلَّيْتُ دَعَانِي فَقَالَ: "لَا تُقَاتِلْهُمْ حَتَّى تَدْعُوَهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ سَبَأً؛ أَوَادٍ هُوَ، أَوْ رَجُلٌ [[في أ: "أم جبل".]] ، أَوْ مَا هُوَ؟ قَالَ: " [لَا] [[زيادة من أ.]] ، بَلْ رَجُلٌ مِنَ الْعَرَبِ، وُلِدَ لَهُ عَشْرَةٌ فَتَيَامَنَ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ، تَيَامَنَ الْأَزْدُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَحِمْيَرُ، وَكِنْدَةُ، وَمَذْحِجُ، وَأَنْمَارُ الَّذِينَ يُقَالُ لَهُمْ: بَجِيلَةُ وَخَثْعَمُ. وَتَشَاءَمَ لَخْمٌ، وَجُذَامٌ، وَعَامِلَةُ، وغسَّان". وَهَذَا أَيْضًا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ [[في أ: "حسن".]] وَإِنْ كَانَ فِيهِ أَبُو جَنَاب الْكَلْبِيُّ، وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِيهِ [[ذكره الحافظ ابن حجر في أطراف المسند (٥/١٧٨) وليس في المطبوع من المسند.]] . لَكِنْ رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ أَبِي كُرَيْب، عَنْ العَنْقَزِي [[في أ: "العبقري".]] ، عَنْ أَسْبَاطِ بْنِ نَصْرٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ هَانِئٍ الْمُرَادِيِّ، عَنْ عَمِّهِ أَوْ عَنْ أَبِيهِ -يَشُكُّ أَسْبَاطٌ-قَالَ: قَدِمَ فَرْوَةُ بْنُ مُسَيك عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَذَكَرَهُ. [[تفسير الطبري (٢٢/٥٣) .]] طَرِيقٌ أُخْرَى لِهَذَا الْحَدِيثِ: قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا يُونُسُ بْنُ عبد الأعلى، حدثنا ابن وَهْبٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ تَوْبَةَ بْنِ نَمر [[في س، أ: "نمير".]] ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ يَحْيَى أَنَّهُ أخبره قال: كنا عند عبيدة [[في أ: "عبدة".]] بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بِأَفْرِيقِيَّةَ فَقَالَ يَوْمًا: مَا أَظُنُّ قَوْمًا بِأَرْضٍ إِلَّا وَهُمْ مِنْ أَهْلِهَا. فَقَالَ عَلِيُّ بْنُ رَبَاحٍ: كَلَّا قَدْ حَدَّثَنِي فُلَانٌ أَنَّ فَرْوَةَ بْنَ مُسَيك الغُطَيفي [[في أ: "القطيعي".]] قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ [[في س، أ: "يا نبي".]] اللَّهِ، إِنَّ سَبَأً قَوْمٌ كَانَ لَهُمْ عِزٌّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَرْتَدُّوا عَنِ الْإِسْلَامِ، أَفَأُقَاتِلُهُمْ؟ فَقَالَ: "مَا أُمِرْتُ فِيهِمْ بِشَيْءٍ بَعْدُ". فَأُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ﴾ الْآيَاتِ، فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا سَبَأٌ؟ فَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا الْحَدِيثِ الَّذِي قَبْلَهُ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل عَنْ سَبَأٍ: مَا هُوَ؟ أَبْلَدٌ، أَمْ رَجُلٌ، أَمِ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: "بَلْ رَجُلٌ، وَلَد لَهُ عَشَرَة فَسَكَنَ الْيَمَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَالشَّامَ أَرْبَعَةٌ، أَمَّا الْيَمَانِيُّونَ: فَمُذْحِجُ، وَكِنْدَةُ، وَالْأَزْدُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَأَنْمَارُ، وَحِمْيَرُ غَيْرُ مَا حَلَّهَا. وَأَمَّا الشَّامُ: فَلَخْمُ، وَجُذَامُ، وَغَسَّانُ، وَعَامِلَةُ". فِيهِ غَرَابَةٌ مِنْ حَيْثُ ذِكْرُ [نُزُولِ] [[زيادة من أ.]] الْآيَةِ بِالْمَدِينَةِ، وَالسُّورَةُ مَكِّيَّةٌ كُلُّهَا، وَاللَّهُ [[في س: "فالله".]] أَعْلَمُ. طَرِيقٌ أُخْرَى: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْب، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا أَبُو [[في أ: "ابن".]] سَبْرَة النَّخَعِي، عَنْ فَرْوَة بْنِ مُسَيْك الغُطَيْفي [[في أ: "القطيعي".]] قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي عَنْ سَبَأٍ: مَا هُوَ؟ أَرْضٌ، أَمِ امْرَأَةٌ؟ قَالَ: "لَيْسَ بِأَرْضٍ وَلَا امْرَأَةٍ، وَلَكِنَّهُ رَجُلٌ وُلِدَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، فَتَيَامَنَ سِتَّةٌ وَتَشَاءَمَ أَرْبَعَةٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ تَشَاءَمُوا: فَلَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ، وَأَمَّا الَّذِينَ تَيَامَنُوا: فَكِنْدَةُ، وَالْأَشْعَرِيُّونَ، وَالْأَزْدُ، وَمُذْحِجُ، وَحِمْيَرُ، وَأَنْمَارُ". فَقَالَ رَجُلٌ: مَا أَنْمَارُ؟ قَالَ: "الَّذِينَ مِنْهُمْ خَثْعَمُ وَبَجِيلَةُ". وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ، عَنْ أَبِي كُرَيْب وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ قَالَا حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، فَذَكَرَهُ أَبْسَطَ مِنْ هَذَا، ثُمَّ قَالَ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. [[تفسير الطبري (٢٢/٥٣) وسنن الترمذي برقم (٣٢٢٢) .]] وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَارِثِ بْنُ سُفْيَانَ، حَدَّثَنَا قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ زُهَيْرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ نَجْدَةَ الْحَوْطِيُّ، حَدَّثَنَا ابْنُ كَثِيرٍ -هُوَ عُثْمَانُ بْنُ كَثِيرٍ-عَنِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ حُصَيْنٍ، عَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ؛ أَنَّ رَجُلًا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَسَأَلَهُ عَنْ سَبَأٍ، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ وحَسّن. [[القصد والأمم ص (٢٠) .]] قَالَ عُلَمَاءُ النَّسَبِ، مِنْهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ: اسْمُ سَبَأٍ: عَبْدُ شَمْسِ بْنُ يَشْجُبَ بْنِ يَعْرُبَ بْنِ قَحْطَانَ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ سَبَأً لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَبَأَ فِي الْعَرَبِ، وَكَانَ يُقَالُ لَهُ: الرَّائِشُ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَنِمَ فِي الْغَزْوِ فَأَعْطَى قَوْمَهُ، فَسُمِّي الرَّائِشَ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الْمَالَ: رِيشًا وَرِيَاشًا. وَذَكَرُوا أَنَّهُ بشَّر بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي زَمَانِهِ [[في ت، أ: "الزمان".]] الْمُتَقَدِّمِ، وَقَالَ فِي ذَلِكَ شعرًا: سَيَمْلِكُ بَعْدَنَا مُلْكًا عَظيمًا ... نَبيّ لَا يُرَخِّصُ في الحَرَام ... وَيَْملك بَعْدَه منْهُم مُلُوك ... يدينوه العبادَ بغَير ذَامٍ ... ويَملك بَعدهم مِنَّا مُلُوك ... يَصير المُلك فينَا باقْتسَام ... وَيَمْلك بَعَْد قَحْطَان نَبي ... تَقي خَبْتَة خُيْرُ الْأَنَامِ ... وسُميَ أحْمَدًا يَا لَيْتَ أَنِّي ... أُعَمَّرُ بَعْد مَبْعَثه بِعَامٍ ... فأعضُده وأَحْبوه بنَصْري ... بكُل مُدَجّج وبكُل رَامٍ ... مَتَى يَظْهَرْ فَكُونُوا نَاصريه ... وَمَنْ يَلْقَاهُ يُبْلغه سَلامي ... ذَكَرَ ذَلِكَ الْهَمْدَانِيُّ فِي كِتَابِ "الْإِكْلِيلِ". وَاخْتَلَفُوا فِي قَحْطَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ إِرَمَ بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ نَسَبِهِ بِهِ عَلَى ثَلَاثِ [[في أ: "ثلاثة".]] طَرَائِقَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ عَابَر، وَهُوَ هُودٌ، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ نَسَبِهِ بِهِ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ أَيْضًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ مِنْ سُلَالَةِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَاخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ اتِّصَالِ نَسَبِهِ بِهِ عَلَى ثَلَاثِ طَرَائِقَ أَيْضًا. وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ مُسْتَقْصًى الْإِمَامُ الْحَافِظُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ النَّمري، رَحِمَهُ اللَّهُ، فِي كِتَابِهِ [الْمُسَمَّى] [[زيادة من أ.]] : "الْإِنْبَاهُ عَلَى ذِكْرِ أُصُولِ الْقَبَائِلِ الرُّوَاةِ" [[في ت: "بالرواة".]] . وَمَعْنَى قَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: "كَانَ رَجُلًا مِنَ الْعَرَبِ" يَعْنِي: الْعَرَبُ الْعَارِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنْ سُلَالَةِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. وَعَلَى الْقَوْلِ الثَّالِثِ: كَانَ مِنْ سُلَالَةِ الْخَلِيلِ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَلَيْسَ هَذَا بِالْمَشْهُورِ عِنْدَهُمْ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَكِنْ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مرَّ بِنَفَرٍ مِنْ "أسلَمَ" يَنْتَضِلُونَ، فَقَالَ: "ارْمُوا بَنِي إِسْمَاعِيلَ، فَإِنَّ أَبَاكُمْ كَانَ رَامِيًا" [[صحيح البخاري برقم (٣٥٠٧) من حديث سلمة، رضي الله عنه.]] . فَأَسْلَمُ قَبِيلَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ، وَالْأَنْصَارُ أَوْسُهَا وَخَزْرَجُهَا مِنْ غَسَّانَ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ مِنْ سَبَأٍ، نَزَلُوا بِيَثْرِبَ لَمَّا تَفَرَّقَتْ سَبَأٌ فِي الْبِلَادِ، حِينَ بَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، وَنَزَلَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ بِالشَّامِ، وَإِنَّمَا [[في ت: "وإن".]] قِيلَ لَهُمْ: غَسَّان بِمَاءٍ نَزَلُوا عَلَيْهِ قيلَ: بِالْيَمَنِ. وَقِيلَ: إِنَّهُ قَرِيبٌ مِنَ المُشَلَّل [[في ت: "المسلك" وفي أ: "المسكن".]] ، كَمَا قَالَ حَسَّانُ بْنُ ثَابِتٍ: إمَّا سَألت فَإنَّا مَعْشَرٌ نُجُبٌ ... الأزْدُ نِسْبَتُنَا، وَالْمَاءُ غَسَّانُ [[البيت في السيرة النبوية لابن هشام (١/١٠) .]] وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "وُلِدَ لَهُ عَشَرَةٌ مِنَ الْعَرَبِ" أَيْ: كَانَ [[في ت: "كانوا".]] مِنْ نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إِلَيْهِمْ أُصُولُ الْقَبَائِلِ مِنْ عَرَبِ الْيَمَنِ، لَا أَنَّهُمْ وُلِدُوا مِنْ صُلْبِهِ، بَلْ مِنْهُمْ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ الْأَبَوَانِ وَالثَّلَاثَةُ وَالْأَقَلُّ وَالْأَكْثَرُ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ مُبِينٌ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ [[في ت: "في".]] كُتِبِ النَّسَبِ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: "فَتَيَامَنَ مِنْهُمْ سِتَّةٌ، وَتَشَاءَمَ مِنْهُمْ أَرْبَعَةٌ" أَيْ: بَعْدَ مَا أَرْسَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ، مِنْهُمْ مَنْ أَقَامَ بِبِلَادِهِمْ، وَمِنْهُمْ مَنْ نَزَحَ عَنْهَا إِلَى غَيْرِهَا، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ السَّدِّ أَنَّهُ كَانَ الْمَاءُ يَأْتِيهِمْ مِنْ بَيْنِ جَبَلَيْنِ وَتَجْتَمِعُ إِلَيْهِ أَيْضًا سُيُولُ أَمَطَارِهِمْ وَأَوْدِيَتِهِمْ، فعَمَدَ مُلُوكُهُمُ الْأَقَادِمُ، فَبَنَوْا بَيْنَهُمَا سَدًا عَظِيمًا مُحْكَمًا حَتَّى ارْتَفَعَ الْمَاءُ، وحُكمَ عَلَى حَافَاتِ ذَيْنَكِ الْجَبَلَيْنِ، فَغَرَسُوا الْأَشْجَارَ وَاسْتَغَلُّوا الثِّمَارَ فِي غَايَةِ مَا يَكُونُ مِنَ الْكَثْرَةِ وَالْحُسْنِ، كَمَا ذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ، مِنْهُمْ قَتَادَةُ: أَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ تَمْشِي تَحْتَ الْأَشْجَارِ وَعَلَى رَأْسِهَا مِكْتَلٌ أَوْ زِنْبِيلٌ، وَهُوَ الَّذِي تُخْتَرَفُ [[في ت: "يحترق".]] فِيهِ الثِّمَارُ، فَيَتَسَاقَطُ مِنَ الْأَشْجَارِ فِي ذَلِكَ مَا يَمْلَؤُهُ مِنْ غَيْرِ أَنَّ يَحْتَاجَ إِلَى كُلْفَةٍ وَلَا قُطَّاف، لِكَثْرَتِهِ وَنُضْجِهِ وَاسْتِوَائِهِ، وَكَانَ هَذَا السَّدُّ بِمَأْرَبَ: بَلْدَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ صَنْعَاءَ ثَلَاثُ مَرَاحِلَ، وَيُعْرَفُ بِسَدِّ مَأْرَبَ. وَذَكَرَ آخَرُونَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ بِبَلَدِهِمْ شَيْءٌ مِنَ الذُّبَابِ وَلَا الْبَعُوضِ وَلَا الْبَرَاغِيثِ، وَلَا شَيْءٌ مِنَ الْهَوَامِّ، وَذَلِكَ لِاعْتِدَالِ الْهَوَاءِ وَصِحَّةِ الْمِزَاجِ وَعِنَايَةِ اللَّهِ بِهِمْ، لِيُوَحِّدُوهُ وَيَعْبُدُوهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ﴾ ، ثُمَّ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: ﴿جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ﴾ أَيْ: مِنْ نَاحِيَتَيِ الْجَبَلَيْنِ وَالْبَلْدَةُ بَيْنَ [[في أ: "من".]] ذَلِكَ، ﴿كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ﴾ أَيْ: غَفُورٌ لَكُمْ إِنِ اسْتَمْرَرْتُمْ عَلَى التَّوْحِيدِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَعْرَضُوا﴾ أَيْ: عَنْ تَوْحِيدِ اللَّهِ وَعِبَادَتِهِ وَشُكْرِهِ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَعَدَلُوا إِلَى عِبَادَةِ الشَّمْسِ، كَمَا قَالَ هُدْهُدُ سُلَيْمَانَ: ﴿وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ. وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ﴾ [النَّمْلِ: ٢٢، ٢٤] . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبّه: بَعَثَ اللَّهُ إِلَيْهِمْ ثَلَاثَةَ عَشَرَ نَبِيًّا. وَقَالَ السُّدِّي: أَرْسَلَ اللَّهُ إِلَيْهِمُ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفَ نَبِيٍّ، وَاللَّهُ [[في ت، س: "فالله".]] أَعْلَمُ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ﴾ : قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْعَرِمِ الْمِيَاهُ. وَقِيلَ: الْوَادِي. وَقِيلَ: الجُرَذ. وَقِيلَ: الْمَاءُ الْغَزِيرُ. فَيَكُونُ مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الِاسْمِ إِلَى صِفَتِهِ، مِثْلَ: "مَسْجِدُ الْجَامِعِ". وَ"سَعِيدُ كُرْز" حَكَى ذَلِكَ السُّهَيْلِيُّ. [[الروض الأنف (١/١٥) .]] وَذَكَرَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَوَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ؛ أَنَّ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، لَمَّا أَرَادَ عُقُوبَتَهُمْ بِإِرْسَالِ الْعَرِمِ عَلَيْهِمْ، بَعَثَ عَلَى السَّدِّ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ، يُقَالُ لَهَا: "الجُرَذ" نَقَبَتْهُ -قَالَ وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: وَقَدْ كَانُوا يَجِدُونَ فِي كُتُبِهِمْ أَنَّ سَبَبَ خَرَابِ هَذَا السَّدِّ هُوَ الجُرَذ فَكَانُوا يَرْصُدُونَ عِنْدَهُ السَّنَانِيرَ بُرْهَةً مِنَ الزَّمَانِ، فَلَمَّا جَاءَ الْقَدَرُ غَلَبَتِ الْفَأْرُ السَّنَانِيرَ، وَوَلَجَتْ إِلَى السَّدّ فَنَقَبَتْهُ، فَانْهَارَ عَلَيْهِمْ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَغَيْرُهُ: الجُرَذ: هُوَ الخَلْد، نَقَبَتْ أَسَافِلَهُ حَتَّى إِذَا ضَعف ووَهَى، وَجَاءَتْ أَيَّامُ السُّيُولِ، صَدمَ الماءُ البناءَ فَسَقَطَ، فَانْسَابَ الْمَاءُ فِي أَسْفَلِ [[في ت: "أصل".]] الْوَادِي، وخرّبَ مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْأَبْنِيَةِ وَالْأَشْجَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَنَضَبَ الْمَاءُ عَنِ الْأَشْجَارِ الَّتِي فِي الْجَبَلَيْنِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ، فَيَبِسَتْ وَتَحَطَّمَتْ، وَتَبَدَّلَتْ تِلْكَ الْأَشْجَارُ الْمُثْمِرَةُ الْأَنِيقَةُ النَّضِرَةُ، كَمَا قَالَ اللَّهُ وَتَعَالَى: ﴿وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ﴾ . قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٌ، وعِكْرِمة، وَعَطَاءٌ الخُرَاساني، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي: وَهُوَ الْأَرَاكُ، وَأَكْلَةُ البَرير. ﴿وَأَثْل﴾ : قَالَ الْعَوْفِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: هُوَ الطَّرْفاء. وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ شَجَرٌ يُشْبِهُ الطَّرْفَاءَ. وَقِيلَ: هُوَ السّمُر. فَاللَّهُ أَعْلَمُ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ : لَمَّا كَانَ أجودَ هَذِهِ الْأَشْجَارِ الْمُبْدَلِ بِهَا هُوَ السّدْر قَالَ: ﴿وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ﴾ ، فَهَذَا الَّذِي صَارَ أَمْرُ تَيْنك [[في ت، أ: "تللك".]] الْجَنَّتَيْنِ إِلَيْهِ، بَعْدَ الثِّمَارِ النَّضِيجَةِ وَالْمَنَاظِرِ الْحَسَنَةِ، وَالظِّلَالِ الْعَمِيقَةِ وَالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ، تَبَدَّلَتْ إِلَى شَجَرِ الْأَرَاكِ وَالطَّرْفَاءِ والسّدْر ذِي الشَّوْكِ الْكَثِيرِ وَالثَّمَرِ الْقَلِيلِ. وَذَلِكَ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ وَشِرْكِهِمْ بِاللَّهِ، وَتَكْذِيبِهِمُ الْحَقَّ وَعُدُولِهِمْ عَنْهُ إِلَى الْبَاطِلِ؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا [[في ت: "بكفرهم" وهو خطأ.]] وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ﴾ أَيْ: عَاقَبْنَاهُمْ بِكُفْرِهِمْ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَلَا يُعَاقَبُ إِلَّا الْكُفُورُ. وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: صَدَقَ اللَّهُ الْعَظِيمُ. لَا يُعَاقَبُ بِمِثْلِ فِعْلِهِ إِلَّا الْكُفُورُ. وَقَالَ طَاوُسٌ: لَا يُنَاقَشُ إِلَّا الْكُفُورُ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الحسين، حَدَّثَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ النَّحَّاسِ الرَّمْلِيُّ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ مُحَمَّدٍ، حَدَّثَنَا أَبُو الْبَيْدَاءِ، عَنْ هِشَامِ بْنِ صَالِحٍ التَّغْلِبِيِّ [[في ت: "وقال ابن أبي حاتم بإسنادة".]] ، عَنِ ابْنِ خِيرَةَ -وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-قَالَ: جَزَاءُ الْمَعْصِيَةِ الْوَهْنُ فِي الْعِبَادَةِ، وَالضِّيقُ فِي الْمَعِيشَةِ، وَالتَّعَسُّرُ فِي اللَّذَّةِ. قِيلَ: وَمَا التَّعَسُّرُ فِي اللَّذَّةِ؟ قَالَ: لَا يُصَادِفُ لَذَّةً حَلَالًا [[في ت: "حلالاً".]] إِلَّا جَاءَهُ مَنْ يُنَغِّصه إِيَّاهَا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب