يَقُولُ تَعَالَى مُنَبِّهًا عَلَى قُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ فِي خلق السموات السَّبْعِ، بِمَا فِيهَا مِنَ الْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ وَالثَّوَابِتِ، وَالْأَرْضِينَ السَّبْعِ وَمَا فِيهَا مِنْ جِبَالٍ وَرِمَالٍ، وَبِحَارٍ وَقَفَارٍ، وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ، وَمُرْشِدًا إِلَى الِاسْتِدْلَالِ عَلَى إِعَادَةِ الْأَجْسَادِ بِخَلْقِ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ العظيمة، كقوله تعالى: ﴿لَخَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ﴾ [غَافِرٍ: ٥٧] . وَقَالَ هاهنا: ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ أَيْ: مِثْلَ الْبَشَرِ، فَيُعِيدُهُمْ كَمَا بَدَأَهُمْ. قَالَهُ ابْنُ جَرِيرٍ. [[تفسير الطبري (٢٣/٢١) .]]
وَهَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [الأحقاف: ٣٣] ، وَقَالَ: ﴿بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ أَيْ: يَأْمُرُ بِالشَّيْءِ أَمْرًا وَاحِدًا، لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَكْرَارٍ:
إذَا مَا أَرَادَ اللهُ أَمْرًا فَإِنَّمَا ... يَقُولُ لَهُ "كُنْ" قَوْلَة فَيَكُونُ [[انظر البيت عند تفسير الآية: ٤٠ من سورة النحل.]]
وَقَالَ [[في ت: "وروى".]] الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْر، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ المسَيَّب، عَنْ شَهْر، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْم، عَنْ أَبِي ذَر، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: يَا عِبَادِي، كُلُّكُمْ مُذْنِبٌ إِلَّا مِنْ عَافَيْتُ، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ. وَكُلُّكُمْ فَقِيرٌ إِلَّا مَنْ أَغْنَيْتُ، إِنِّي جَوَادٌ مَاجِدٌ وَاجِدٌ أَفْعَلُ مَا أَشَاءُ، عَطَائِي كَلَامٌ، وَعَذَابِي كَلَامٌ، إِذَا أَرَدْتُ شَيْئًا فَإِنَّمَا أَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ". [[المسند (٥/١٧٧) .]]
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ أَيْ: تَنْزِيهٌ وَتَقْدِيسٌ وَتَبْرِئَةٌ مِنَ السُّوءِ لِلْحَيِّ القيوم، الذي بيده مقاليد السموات وَالْأَرْضِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، وَلَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَإِلَيْهِ تُرْجَعُ الْعِبَادُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجَازِي كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ، وَهُوَ الْعَادِلُ الْمُتَفَضِّلُ.
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ [الْمُؤْمِنُونَ: ٨٨] ، [[في ت: "قل من بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون" وهو خطأ.]] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾ [الْمُلْكِ: ١] ، فَالْمُلْكُ وَالْمَلَكُوتُ وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى، كَرَحْمَةٍ ورَحَمُوت، ورَهْبَة ورَهَبُوت، وجَبْر وجَبَرُوت. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ المُلْك هُوَ عَالَمُ الْأَجْسَادِ [[في ت، س: "الأجسام".]] وَالْمَلَكُوتَ هُوَ عَالَمُ الْأَرْوَاحِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الصَّحِيحُ، وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَغَيْرِهِمْ.
قَالَ [[في ت: "وروى".]] الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، حَدَّثَنِي ابْنُ عَمٍّ لِحُذَيْفَةَ، عَنْ حُذَيْفَةَ -وَهُوَ ابْنُ الْيَمَانِ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قُمْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَرَأَ السَّبْعَ الطُّوَل [[في ت: "الطوال".]] فِي سَبْعِ رَكَعَاتٍ، وَكَانَ إِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ قَالَ: "سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ". ثُمَّ قَالَ: "الْحَمْدُ لِذِي [[في ت، س: "لله".]] ذِي الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ" وَكَانَ رُكُوعُهُ مِثْلَ قِيَامِهِ، وَسُجُودُهُ مِثْلَ رُكُوعِهِ، فَأَنْصَرِفُ وَقَدْ كَادَتْ تَنْكَسِرُ رِجْلَايَ. [[المسند (٥/٣٨٨) .]]
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرة، عَنْ أَبِي حَمْزة -مَوْلَى الْأَنْصَارِ-عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي عَبْس، عَنْ حُذَيْفَةَ؛ أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مِنَ اللَّيْلِ، وَكَانَ يَقُولُ: "اللَّهُ أَكْبَرُ -ثَلَاثًا -ذُو الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ". ثُمَّ اسْتَفْتَحَ فَقَرَأَ الْبَقَرَةَ، ثُمَّ رَكَعَ فَكَانَ رُكُوعُهُ نَحْوًا مِنْ قِيَامِهِ، وَكَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: "سُبْحَانَ رَبِّيَ الْعَظِيمِ". ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَكَانَ قِيَامُهُ نَحْوًا مِنْ] رُكُوعِهِ، يَقُولُ: " لِرَبِّي الْحَمْدُ". ثُمَّ سَجَدَ، فَكَانَ سُجُودُهُ نَحْوًا مِنْ] [[زيادة من ت، وأبي داود.]] قِيَامِهِ، وَكَانَ يَقُولُ فِي سجوده: "سبحان ربي الأعلى". ثم رفع رَأْسَهُ مِنَ السُّجُودِ، وَكَانَ يَقْعُدُ فِيمَا بَيْنُ السَّجْدَتَيْنِ نَحْوًا مِنْ سُجُودِهِ، وَكَانَ يَقُولُ: "رَبِّ، اغْفِرْ لِي، رَبِّ اغْفِرْ لِي". فَصَلَّى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقَرَأَ فِيهِنَّ الْبَقَرَةَ، وَآلَ عِمْرَانَ، وَالنِّسَاءَ، وَالْمَائِدَةَ -أَوِ الْأَنْعَامَ [[في ت: "والأنعام".]] --شَكَّ شُعْبَةُ-هَذَا لَفْظُ أَبِي دَاوُدَ. [[سنن أبي داود برقم (٨٧٤) والشمائل للترمذي برقم (٢٦٠) وسنن النسائي (٢/١٩٩) .]]
وَقَالَ النَّسَائِيُّ: "أَبُو حَمْزَةَ عِنْدَنَا: طَلْحَةُ بْنُ يَزِيدَ، وَهَذَا الرَّجُلُ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ صِلَةً". كَذَا قَالَ. وَالْأَشْبَهُ أَنْ يَكُونَ ابْنَ عَمِّ حُذَيْفَةَ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ، [وَاللَّهُ أَعْلَمُ] . [[زيادة من س.]] فَأَمَّا رِوَايَةُ صِلَةَ بْنِ زُفَرَ، عَنْ حُذَيْفَةَ، فَإِنَّهَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَلَكِنْ لَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْمَلَكُوتِ وَالْجَبَرُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ.
وَقَالَ [[في ت: "وروى".]] أَبُو دَاوُدَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنِي مُعَاوِيَةُ بْنُ صَالِحٍ، عَنْ عَمْرِو بْنِ قَيْسٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ حُمَيْد، عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ الْأَشْجَعِيِّ قَالَ: قمتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لَيْلَةً فَقَامَ فَقَرَأَ سُورَةَ الْبَقَرَةِ، لَا يَمُرُّ بِآيَةِ رَحْمَةٍ إِلَّا وَقَفَ فَسَأَلَ، وَلَا يَمُرُّ بِآيَةِ عَذَابٍ إِلَّا وَقَفَ فَتَعَوَّذَ. قَالَ: ثُمَّ رَكَعَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ، يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ: "سُبْحَانَ ذِي الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ". ثُمَّ سَجَدَ بِقَدْرِ قِيَامِهِ، ثُمَّ قَالَ فِي سُجُودِهِ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ قَامَ فَقَرَأَ بِآلِ عِمْرَانَ، ثُمَّ قَرَأَ سُورَةً سُورَةً.
وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ فِي الشَّمَائِلِ، وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ مُعَاوِيَةَ بْنِ صَالِحٍ، بِهِ. [[سنن أبي داود برقم (٨٧٣) والشمائل للترمذي برقم (٢٩٦) وسنن النسائي (٢/١٩١) .]]
] آخِرُ تَفْسِيرِ سُورَةِ "يس" ولله الحمد أولا وآخرًا وظاهرًا وباطنًا] [[زيادة من س.]]
{"ayahs_start":81,"ayahs":["أَوَلَیۡسَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰۤ أَن یَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلۡخَلَّـٰقُ ٱلۡعَلِیمُ","إِنَّمَاۤ أَمۡرُهُۥۤ إِذَاۤ أَرَادَ شَیۡـًٔا أَن یَقُولَ لَهُۥ كُن فَیَكُونُ","فَسُبۡحَـٰنَ ٱلَّذِی بِیَدِهِۦ مَلَكُوتُ كُلِّ شَیۡءࣲ وَإِلَیۡهِ تُرۡجَعُونَ"],"ayah":"أَوَلَیۡسَ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ بِقَـٰدِرٍ عَلَىٰۤ أَن یَخۡلُقَ مِثۡلَهُمۚ بَلَىٰ وَهُوَ ٱلۡخَلَّـٰقُ ٱلۡعَلِیمُ"}