الباحث القرآني

يَقُولُ تَعَالَى: لَيْسَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ أَخَاهُ الْمُؤْمِنَ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ، عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالتَّارِكُ لِدِينِهِ الْمُفَارِقُ لِلْجَمَاعَةِ" [[صحيح البخاري برقم (٦٨٧٨) وصحيح مسلم برقم (١٦٧٦) .]] . ثُمَّ إِذَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ آحَادِ الرَّعِيَّةَ أَنْ يَقْتُلَهُ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿إِلا خَطَأً﴾ قَالُوا: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، كَقَوْلِ الشَّاعِرِ [[هو جرير بن عطية الغطفي، والبيت في تفسير الطبري (٩/٣١) .]] مِنَ الْبِيضِ لَمْ تَظْعن بَعِيدًا وَلَمْ تَطَأ ... عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا رَيْطَ بُرْد مُرَحَّل [[في ر: "مرجل".]] . وَلِهَذَا شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ. وَاخْتُلِفَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ [الْآيَةِ] [[زيادة من أ.]] فَقَالَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: نزلت في عياش [[في أ: "عباس".]] بن أَبِي رَبِيعَةَ أَخِي أَبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ -وَهِيَ أَسْمَاءُ بِنْتُ مُخَرِّبَة [[في ر: "محزبة".]] - وَذَلِكَ أَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا كَانَ يُعَذِّبُهُ مَعَ أَخِيهِ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ يَزِيدَ الْعَامِرِيُّ، فَأَضْمَرَ لَهُ عَيّاش السُّوءَ، فَأَسْلَمَ ذَلِكَ الرَّجُلُ وَهَاجَرَ، وَعِيَاشٌ لَا يَشْعُرُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ الْفَتْحِ رَآهُ، فَظَنَّ أَنَّهُ عَلَى دِينِهِ، فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَهُ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ [[رواه الطبري في تفسيره (٩/٣٣) .]] . وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي الدَّرْدَاءِ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَ رَجُلًا وَقَدْ قَالَ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ [[في ر: "الإيمان".]] حِينَ رَفَعَ [[في أ: "رفع عليه".]] السَّيْفَ، فَأَهْوَى بِهِ إِلَيْهِ، فَقَالَ كَلِمَتَهُ، فَلَمَّا ذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ ﷺ قَالَ: إِنَّمَا قَالَهَا مُتَعَوِّذًا. فَقَالَ لَهُ: "هَلْ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ" [[رواه الطبري في تفسيره (٩/٣٤) .]] [وَهَذِهِ الْقِصَّةُ فِي الصَّحِيحِ لِغَيْرِ أَبِي الدَّرْدَاءِ] [[زيادة من ر، أ.]] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ [إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا] [[زيادة من د.]] ﴾ هَذَانَ وَاجِبَانِ فِي قَتْلِ الْخَطَأِ، أَحَدُهُمَا: الْكَفَّارَةُ لِمَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الذَّنْبِ الْعَظِيمِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً، وَمِنْ شَرْطِهَا أَنْ تَكُونَ عِتْقَ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فلا تجزئ الكافرة. وَحَكَى ابْنُ جَرِيرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالشَّعْبِيِّ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِي وَالْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يُجْزِئُ الصَّغِيرُ حَتَّى يَكُونَ قَاصِدًا لِلْإِيمَانِ. وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ [[في أ "عبد العزيز".]] عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: في حرف، أبي: ﴿فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ لَا يُجْزِئُ فِيهَا صَبِيٌّ. وَاخْتَارَ ابْنُ جَرِيرٍ إِنْ كَانَ مَوْلُودًا بَيْنَ أَبَوَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَجَزَأَ، وَإِلَّا فَلَا. وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ: أَنَّهُ مَتَى كَانَ مُسْلِمًا صَحَّ عِتْقُهُ عَنِ الْكَفَّارَةِ، سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: أَنْبَأَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ الزُّهري، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ؛ أَنَّهُ جَاءَ بِأَمَةٍ سَوْدَاءَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ عَلَيَّ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً، فَإِنْ كُنْتَ تَرَى هَذِهِ مُؤْمِنَةً أَعْتَقْتُهَا. فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أتشهدين أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ. قال: "أتشهدين أني رسول الله؟ " قالت نعم. قال:"أتؤمنين بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ؟ " قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَ: "أَعْتِقْهَا". وَهَذَا إِسْنَادٌ صَحِيحٌ، وَجَهَالَةُ الصَّحَابِيِّ لَا تَضُرُّ [[المسند (٣/٤٥١) .]] . وَفِي مُوَطَّأِ [الْإِمَامِ] [[زيادة من أ.]] مَالِكٍ وَمُسْنَدَيِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَسُنَنِ [[في ر، أ: "وسنني".]] أَبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ، مِنْ طَرِيقِ هِلَالِ بْنِ أَبِي مَيْمُونَةَ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ أَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِتِلْكَ الْجَارِيَةِ السَّوْدَاءِ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَيْنَ اللَّهُ؟ " قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: "مَنْ أَنَا" قالت: أنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ" [[الموطأ (٢/٧٧٧) ومسند الشافعي برقم (١١٩٦) "بدائع المنن" ومسند أحمد (٥/٤٤٧) صحيح مسلم برقم (٥٣٧) وسنن أبي داود برقم (٢٣٨٤) وسنن النسائي (٣/١٤) .]] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ هُوَ الْوَاجِبُ الثَّانِي فِيمَا بَيْنُ الْقَاتِلِ وَأَهْلِ الْقَتِيلِ، عِوَضًا لَهُمْ عَمَّا فَاتَهُمْ مِنْ قَرِيبِهِمْ. وَهَذِهِ الدِّيَةُ إِنَّمَا تَجِبُ أَخْمَاسًا، كَمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَأَهْلُ السُّنَنِ، مِنْ حَدِيثِ الْحَجَّاجِ بْنِ أَرْطَأَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنْ خَشْفِ بْنِ مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَضَى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فِي دِيَةِ الْخَطَأِ عِشْرِينَ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَعِشْرِينَ بَنِي مَخَاضٍ ذُكُورًا، وَعِشْرِينَ بِنْتَ لَبُونٍ، وَعِشْرِينَ جَذَعة [[في ر، أ "جزعا".]] وَعِشْرِينَ حِقَّة. لَفْظُ النَّسَائِيِّ، وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: لَا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إِلَّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ مَوْقُوفًا [[المسند (١/٣٨٤) وسنن النسائي (٨/٤٣) وسنن أبي داود برقم (٤٥٤٥) وسنن الترمذي برقم (١٣٨٦) وسنن ابن ماجة برقم (٢٦٣١) .]] . وَكَذَا رُوِيَ عَنْ [عَلِيٍّ وَ] [[زيادة من ر، أ.]] طَائِفَةٍ. وَقِيلَ: تَجِبُ أَرْبَاعًا. وَهَذِهِ الدِّيَةُ إِنَّمَا تَجِبُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ، لَا فِي مَالِهِ، قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ أَعْلَمْ مُخَالِفًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَهُوَ أَكْثَرُ [[في أ: "أكبر".]] مِنْ حَدِيثِ الْخَاصَّةِ [[الأم (٦/١٠١)]] وَهَذَا الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ، رَحِمَهُ اللَّهُ، قَدْ ثَبَتَ فِي غَيْرِ مَا حَدِيثٍ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: اقْتَتَلَتِ امْرَأَتَانِ مِنْ هُذَيل، فَرَمَتْ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى بِحَجَرٍ فَقَتَلَتْهَا وَمَا فِي بَطْنِهَا، فَاخْتَصَمُوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَضَى أَنَّ دِيَةَ جَنِينِهَا غُرَّة عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ، وَقَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ عَلَى عَاقِلَتِهَا [[صحيح البخاري برقم (٦٩١٠) وصحيح مسلم برقم (١٦٨١) .]] . وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ حُكْمَ عَمْدِ الْخَطَأِ حُكْمُ الْخَطَأِ الْمَحْضِ فِي وُجُوبِ الدِّيَةِ، لَكِنَّ هَذَا تَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ أَثْلَاثًا كَالْعَمْدِ، لِشَبَهِهِ بِهِ. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: بَعَثَ رسولُ اللَّهِ ﷺ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ إِلَى بَنِي جُذَيْمَةَ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَلَمْ يُحْسِنُوا أَنْ يَقُولُوا: أَسْلَمْنَا. فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: صَبَأْنَا صَبَأْنَا. فَجَعَلَ خَالِدٌ يَقْتُلُهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، فَرَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ". وَبَعَثَ عَلِيًّا فَوَدَى قَتْلَاهُمْ وَمَا أُتْلِفَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، حَتَّى مِيلَغة الْكَلْبِ [[صحيح البخاري برقم (٧١٨٩) .]] . وَهَذَا [الْحَدِيثُ] [[زيادة من أ.]] يُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ خَطَأَ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ يَكُونُ فِي بَيْتِ الْمَالِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿إِلا أَنْ يَصَّدَّقُوا﴾ أَيْ: فَتَجِبُ فِيهِ الدِّيَةُ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يتصدقوا [[في ر: "يصدقوا"]] بها فلا تجب. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾ أَيْ: إِذَا كَانَ الْقَتِيلُ مُؤْمِنًا، وَلَكِنْ أَوْلِيَاؤُهُ مِنَ الْكُفَّارِ أَهْلَ حَرْبٍ، فَلَا دِيَةَ لَهُمْ، وَعَلَى الْقَاتِلِ [[في ر، أ: "قاتله".]] تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ لَا غَيْرَ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ [فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ] ﴾ [[زيادة من ر، أ.]] الْآيَةَ، أَيْ: فَإِنْ كَانَ الْقَتِيلُ أَوْلِيَاؤُهُ أَهْلَ ذِمَّةٍ أَوْ هُدْنَةٍ، فَلَهُمْ دِيَةُ قَتِيلِهِمْ، فَإِنْ كَانَ مُؤْمِنًا فَدِيَةٌ كَامِلَةٌ، وَكَذَا إِنْ كَانَ كَافِرًا أَيْضًا عِنْدَ طَائِفَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ. وَقِيلَ: يَجِبُ فِي الْكَافِرِ نِصْفُ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، وَقِيلَ: ثُلُثُهَا، كَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي [كِتَابِ الْأَحْكَامِ] [[زيادة من ر، أ.]] وَيَجِبُ أَيْضًا عَلَى الْقَاتِلِ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. ﴿فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ﴾ أَيْ: لَا إِفْطَارَ بَيْنَهُمَا، بَلْ يَسْرُدُ [[في أ: "يرد".]] صَوْمَهُمَا إِلَى آخِرِهِمَا، فَإِنْ أَفْطَرَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، مِنْ مَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، اسْتَأْنَفَ. وَاخْتَلَفُوا فِي السَّفَرِ: هَلْ يَقْطَعُ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿تَوْبَةً مِنَ اللهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ أَيْ: هَذِهِ تَوْبَةُ الْقَاتِلِ خَطَأً إِذَا لَمْ يَجِدِ الْعِتْقَ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ. وَاخْتَلَفُوا فِيمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الصِّيَامَ: هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، كَمَا فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ؟ عَلَى قَوْلَيْنِ؛ أَحَدُهُمَا: نَعَمْ. كَمَا هُوَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فِي كَفَّارَةِ الظِّهَارِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُذْكَرْ هَاهُنَا؛ لِأَنَّ هَذَا مَقَامُ تَهْدِيدٍ وَتَخْوِيفٍ وَتَحْذِيرٍ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُذْكَرَ فِيهِ الْإِطْعَامُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّسْهِيلِ وَالتَّرْخِيصِ. الْقَوْلُ الثَّانِي: لَا يَعْدِلُ إِلَى الْإِطْعَامِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاجِبًا لَمَا أَخَّرَ بَيَانَهُ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ. ﴿وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ قَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. ثُمَّ لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى حُكْمَ الْقَتْلِ الْخَطَأِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ، فَقَالَ: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] ﴾ [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]] وَهَذَا تَهْدِيدٌ شَدِيدٌ وَوَعِيدٌ أَكِيدٌ لِمَنْ تَعَاطَى هَذَا الذَّنْبَ الْعَظِيمَ، الَّذِي هُوَ مَقْرُونٌ بِالشِّرْكِ بِاللَّهِ فِي غَيْرِ مَا آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ، حَيْثُ يَقُولُ، سُبْحَانَهُ، فِي سُورَةِ الْفُرْقَانِ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ [وَلا يَزْنُونَ] [[زيادة من ر، أ.]] ﴾ الْآيَةَ [الْفَرْقَانِ: ٦٨] وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [إِلَى أَنْ قَالَ: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: الآية.]] [الْأَنْعَامِ: ١٥١] . وَالْأَحَادِيثُ فِي تَحْرِيمِ الْقَتْلِ كَثِيرَةٌ جِدًّا. مِنْ ذَلِكَ مَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الدِّمَاءِ" [[صحيح البخاري برقم (٦٨٦٤) وصحيح مسلم برقم (١٦٧٨) .]] وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ الَّذِي رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، مِنْ رِوَايَةِ عَمْرِو بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبَدَةَ الْمِصْرِيِّ، عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ مُعنقا [[في ر: "مستعفا".]] صَالِحًا مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا، فَإِذَا أَصَابَ دَمًا حَرَامًا بَلَّح" [[سنن أبي داود برقم (٤٢٧٠) .]] وفي حَدِيثٍ آخَرَ: "لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ" [[روي من حديث عبد الله بن عمرو، ومن حديث البراء بن عازب، أما حديث عبد الله بن عمرو، فرواه الترمذي في السنن برقم (١٣٩٥) ، والنسائي في السنن (٧/٨٢) وهذا هو لفظه.]] وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "لو أجمع [[في أ: "لو اجتمعت".]] أهل السموات وَالْأَرْضِ عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ، لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ" [[رواه الطبراني في المعجم الصغير برقم (٥٦٥) من طريق جعفر بن جبير بن فرقد عن أبيه عن الحسن عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ الهيثمي في المجمع (٧/٢٩٧) : "فيه جسر بن فرقد، وهو ضعيف"]] وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: "مَنْ أَعَانَ عَلَى قَتْلِ مُسْلِمٍ وَلَوْ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ: آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ" [[رواه ابن ماجة في السنن برقم (٢٦٢٠) من طريق يزيد بن زياد عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أبي هريرة رضي الله عنه قال الذهبي رحمه الله: "هذا حديث باطل موضوع".]] . وَقَدْ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، يَرَى أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لِلْقَاتِلِ عَمْدًا لِمُؤْمِنٍ. وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: حَدَّثَنَا آدَمُ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، حَدَّثَنَا مُغِيرَةُ بْنُ النُّعْمَانِ قَالَ: سَمِعْتُ ابْنَ جُبَيْرٍ قَالَ: اخْتَلَفَ فِيهَا أَهْلُ الْكُوفَةِ، فَرَحَلْتُ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ [خَالِدًا] [[زيادة من أ.]] ﴾ هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ [[في ر، أ: "ما نزلت".]] وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ. وَكَذَا رَوَاهُ هُوَ أَيْضًا وَمُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ طُرُقٍ، عَنْ شُعْبَةَ، بِهِ [[صحيح البخاري برقم (٤٥٩٠) وصحيح مسلم برقم (٣٠٢٣) وسنن النسائي (٨/٦٢) .]] وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، عَنْ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، عَنِ ابْنِ مَهْدِيٍّ، عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، عَنْ مُغِيرَةَ بْنِ النُّعْمَانِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي [[في د، ر: "عن".]] قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا﴾ فَقَالَ: لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ. [وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ بَشَّارٍ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عَدِيٍّ حَدَّثَنَا شُعْبَةَ عَنْ أَبِي بِشْرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قال: قال عبد الرحمن بن أبزة: سُئِلَ ابْنُ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا﴾ فَقَالَ: لَمْ يَنْسَخْهَا شَيْءٌ] [[زيادة من أ.]] وَقَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آخَرَ [وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا] [[زيادة من ر، أ.]] ﴾ [الْفَرْقَانِ: ٦٨] قَالَ نَزَلَتْ فِي أَهْلِ الشِّرْكِ [[سنن أبي داود برقم (٤٢٧٥) .]] . وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، حَدَّثَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -أَوْ حَدَّثَنِي الْحَكَمُ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ-قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ عَنْ قَوْلِهِ [تَعَالَى] [[زيادة من ر.]] ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ﴾ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَرَفَ الْإِسْلَامَ وَشَرَائِعَ الْإِسْلَامِ، ثُمَّ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا، فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ وَلَا تَوْبَةَ لَهُ. فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِمُجَاهِدٍ فَقَالَ: إِلَّا مَنْ نَدِمَ. حَدَّثَنَا ابْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ وَكِيع قَالَا حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ يَحْيَى الْجَابِرِ، عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الجَعْد قَالَ: كُنَّا عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ بَعْدَ مَا كُف بَصَرُهُ، فَأَتَاهُ رَجُلٌ فَنَادَاهُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ، مَا ترى في رجل قتل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا؟ فَقَالَ: ﴿جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ قَالَ: أَفَرَأَيْتَ إِنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى؟ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ وَالْهُدَى؟ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَقَدْ سَمِعْتُ نَبِيَّكُمْ ﷺ يَقُولُ: "ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، قَاتِلُ مُؤْمِنٍ [[في د: "مؤمنا".]] مُتَعَمِّدًا، جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِشَمَالِهِ، تَشْخَبُ أَوْدَاجُهُ دَمًا فِي قُبُل عَرْشِ الرَّحْمَنِ، يَلَزَمُ قَاتِلَهُ بِشَمَالِهِ بِيَدِهِ الْأُخْرَى، يَقُولُ: سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي" [[تفسير الطبري (٩/٦٢، ٦٣) .]] ؟ وَايْمُ الَّذِي نَفْسُ عَبْدِ اللَّهِ بِيَدِهِ! لَقَدْ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، فَمَا نَسَخَتْهَا مِنْ آيَةٍ حَتَّى قُبِضَ نَبِيُّكُمْ ﷺ، وَمَا نَزَلْ بَعْدَهَا مِنْ بُرْهَانٍ. وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثْنَا شُعْبَةُ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ المُجَبَّر يُحَدِّثُ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ؛ أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ رَجُلًا قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا؟ فَقَالَ: ﴿جَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا [وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] [[زيادة من ر.]] ﴾ قَالَ: لَقَدْ نَزَلَتْ فِي آخِرِ مَا نَزَلْ، مَا نَسَخَهَا شَيْءٌ حَتَّى قَبَضَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، وَمَا نَزَلْ وَحَيٌّ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ. قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى؟ قَالَ: وَأَنَّى لَهُ بِالتَّوْبَةِ. وَقَدْ سَمِعْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ. يَقُولُ: "ثَكِلَتْهُ أُمُّهُ، رَجُلٌ قَتَلَ رَجُلًا مُتَعَمِّدًا، يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ آخِذًا قَاتِلَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِيَسَارِهِ -وَآخِذًا رَأْسَهُ بِيَمِينِهِ أَوْ بِشَمَالِهِ-تَشْخَب أَوْدَاجُهُ دَمًا مِنْ قُبُلِ الْعَرْشِ يَقُولُ: يَا رَبُّ، سَلْ عَبْدَكَ فِيمَ قَتَلَنِي؟ ". وَقَدْ رَوَاهُ النَّسَائِيُّ عَنْ قُتَيْبَةَ [[في أ: "قتادة"]] وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الصَّبَّاحِ، عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَمَّارٍ الدُّهني، وَيَحْيَى الْجَابِرِ وَثَابِتٍ الثُّمَالِيِّ [[في أ: "البناني".]] عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَذَكَرَهُ [[المسند (١/٢٤٠) وسنن النسائي (٨/٦٣) وسنن ابن ماجة برقم (٢٦٢١) .]] وَقَدْ رُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ. وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ مِنَ السَّلَفِ: زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ، وَأَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَرَ، وَالْحَسَنُ، وَقَتَادَةُ، وَالضَّحَّاكُ بْنُ مُزَاحِمٍ، نَقَلَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ. وَفِي الْبَابِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ: مِنْ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَرْدَوَيْهِ الْحَافِظُ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا دَعْلَج بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعِيدٍ البُوشَنْجي وَحَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ فَهْدٍ قَالَا حَدَّثَنَا عُبَيْدُ بْنُ عُبَيْدَةَ، حَدَّثَنَا مُعْتمر بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الْأَعْمَشِ، عَنْ أَبِي عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيل، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "يَجِيءُ الْمَقْتُولُ مُتَعَلِّقًا بِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، آخِذًا رَأْسَهُ بِيَدِهِ الْأُخْرَى فَيَقُولُ: يَا رَبُّ، سَلْ هذا فيم قتلني؟ " قال: "فيقول: قتلته لتكون الْعِزَّةُ لَكَ. فَيَقُولُ: فَإِنَّهَا لِي". قَالَ: "وَيَجِيءُ آخَرُ مُتَعَلِّقًا بِقَاتِلِهِ فَيَقُولُ: رَبِّ، سَلْ هَذَا فيم قتلني؟ " قال: "فيقول قتلته لتكون العزة لِفُلَانٍ". قَالَ: "فَإِنَّهَا لَيْسَتْ لَهُ بؤْ بِإِثْمِهِ". قَالَ: "فَيَهْوِي فِي النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا". وَقَدْ رَوَاهُ عَنِ النَّسَائِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ المُسْتَمِرِّ العَوْفي، عَنْ عَمْرِو بْنِ عَاصِمٍ، عَنْ مُعْتَمِرِ بن سُلَيْمَانَ، بِهِ [[سنن النسائي (٧/٨٤) ورواه أبو نعيم في الحلية (٤/١٤٧) والطبراني في المعجم الكبير (١٠/١١٩) وقال أبو نعيم: "غريب من حديث سليمان التيمي عن الأعمش لم يروه عنه إلا ابنه معتمر، ورواه عمرو بن عاصم عن معتمر مثله".]] حَدِيثٌ آخَرُ: قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا صَفْوَانُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ قَالَ: سَمِعْتُ مُعَاوِيَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يَقُولُ: "كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إلا الرجل يموت كافرا، أو الرجل يقتل مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا". وَكَذَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُثَنَّى، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عِيسَى، بِهِ [[المسند (٤/٩٩) وسنن النسائي (٧/٨١) .]] . وَقَالَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا سَمُّوَيْه، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى بْنُ مُسْهِر، حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ دِهْقان، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي زَكَرِيَّا قَالَ: سَمِعْتُ أُمَّ الدَّرْدَاءِ تَقُولُ: سَمِعْتُ أَبَا الدَّرْدَاءِ يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إِلَّا مَنْ مَاتَ مُشْرِكًا، أَوْ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا". وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَالْمَحْفُوظُ حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ الْمُتَقَدِّمُ [[ورواه أبو داود في سننه برقم (٤٢٧٠) وابن حبان في صحيحه برقم (٥١) والبيهقي في السنن الكبرى (٨/٢١) من طريق خالد بن دهقان به. وقول الحافظ ابن كثير، رحمه الله، هنا: "غريب جدا من هذا الوجه" لم يتبين لي سبب ذلك، على أن حديث أبي الدرداء أقوى من حديث معاوية، ففي إسناد حديث معاوية (أبو عون) لم يوثقه سوى ابن حبان، أما حديث أبي الدرداء فرجاله كلهم ثقات.]] فَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ رَوَى ابْنُ مَردويه مِنْ طَرِيقِ بَقَيَّةَ بْنِ الْوَلِيدِ، عَنْ نَافِعِ بْنِ يَزِيدَ، حَدَّثَنِي ابْنُ جُبَيْرٍ الْأَنْصَارِيُّ، عَنْ دَاوُدَ بْنِ الحُصَين، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم قال: "من قَتَلَ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ". وَهَذَا حَدِيثٌ مُنْكَرٌ أَيْضًا، وَإِسْنَادُهُ تُكُلم [[في ر، أ: "مظلم".]] فِيهِ جِدًّا [[ورواه ابن عدي في الكامل (٣/٢٠٣) من طريق بقية به، ثم قال: "وهذه الأحاديث عن زيد عن داود عن نافع عن ابن عمر غير محفوظات، يرويه عن داود زيد بن جبيرة"، وزيد بن جبيرة منكر الحديث لا يتابع على حديثه.]] . وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا النَّضْرُ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ قَالَ: أَتَانِي أَبُو الْعَالِيَةِ أَنَا وَصَاحِبٌ لِي، فَقَالَ لَنَا: هَلُمَّا فَأَنْتُمَا أَشَبُّ شَيْئًا مِنِّي، وَأَوْعَى لِلْحَدِيثِ مِنِّي، فَانْطَلَقَ بِنَا إِلَى بِشْر بْنِ عَاصِمٍ -فَقَالَ لَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ: حَدِّثْ هَؤُلَاءِ حَدِيثَكَ. فَقَالَ: حَدَّثَنَا عُقْبَةُ بْنُ مَالِكٍ اللَّيْثِيُّ قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سَرِيَّةً، فَأَغَارَتْ عَلَى قَوْمٍ، فَشَدَّ مِنَ الْقَوْمِ رَجُلٌ، فَاتَّبَعَهُ رَجُلٌ مِنَ السَّرِيَّةِ شَاهِرًا سَيْفَهُ فَقَالَ الشَّادُّ مِنَ الْقَوْمِ: إِنِّي مُسْلِمٌ. فَلَمْ يَنْظُرْ فِيمَا قَالَ، فَضَرَبَهُ فَقَتَلَهُ، فَنَمَى الْحَدِيثُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم فَقَالَ فِيهِ قَوْلًا شَدِيدًا، فَبَلَغَ القاتلَ. فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يخطب، إِذْ قَالَ القاتلُ: وَاللَّهِ مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلَّا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ. قَالَ: فَأَعْرَضَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْهُ وَعَمَّنْ قَبِلَهُ مِنَ النَّاسِ، وَأَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ، ثُمَّ قَالَ أَيْضًا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا قَالَ الَّذِي قَالَ إِلَّا تَعَوُّذًا مِنَ الْقَتْلِ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ وَعَمَّنْ قَبِلَهُ مِنَ النَّاسِ، وَأَخَذَ فِي خُطْبَتِهِ، ثُمَّ لَمْ يَصْبِرْ، فَقَالَ الثَّالِثَةَ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قَالَ إِلَّا تعوذا من القتل. فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ تُعْرف المساءةُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ: "إِنَّ اللَّهَ أَبَى عَلَى مَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا" ثَلَاثًا. وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ [[المسند (٥/٢٨٨) وسنن النسائي الكبرى برقم (٨٥٩٣) .]] وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا: أَنَّ الْقَاتِلَ لَهُ تَوْبَةٌ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنْ تَابَ وَأَنَابَ وَخَشَعَ وَخَضَعَ، وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا، بَدَّلَ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ، وَعَوَّضَ الْمَقْتُولَ مِنْ ظُلَامَتِهِ وَأَرْضَاهُ عَنْ طِلَابَتِهِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ [وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا] [[زيادة من ر، أ، وفي هـ "إلى قوله".]] . إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا [فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا] [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]] ﴾ [الْفَرْقَانِ: ٦٨، ٦٩] وَهَذَا خَبَرٌ لَا يَجُوزُ نُسْخُهُ. وَحَمْلُهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَحَمْلُ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ خِلَافُ الظَّاهِرِ، وَيَحْتَاجُ حَمْلُهُ إِلَى دَلِيلٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ [إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ] [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]] ﴾ [الزُّمَرِ:٥٣] وَهَذَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ، مِنْ كُفْرٍ وَشِرْكٍ، وَشَكٍّ وَنِفَاقٍ، وَقَتْلٍ وَفِسْقٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ: كُلُّ مَنْ تَابَ مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ [النِّسَاءِ: ٤٨] . فَهَذِهِ الْآيَةُ عَامَّةٌ فِي جَمِيعِ الذُّنُوبِ مَا عَدَا الشِّرْكَ، وَهِيَ مَذْكُورَةٌ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقَبْلَهَا، لِتَقْوِيَةِ الرَّجَاءِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ خَبَرُ الْإِسْرَائِيلِيِّ الَّذِي قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ، ثُمَّ سَأَلَ عَالِمًا: هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَقَالَ: وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ؟! ثُمَّ أَرْشَدَهُ إِلَى بَلَدٍ يَعْبد اللَّهَ فِيهِ، فَهَاجَرَ إِلَيْهِ، فَمَاتَ فِي الطَّرِيقِ، فَقَبَضَتْهُ مَلَائِكَةُ الرَّحْمَةِ. كَمَا ذَكَرْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ، إِنْ [[في ر: "إذا".]] كَانَ هَذَا فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ فَلأن يَكُونَ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ التَّوْبَةُ مَقْبُولَةٌ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى وَالْأَحْرَى؛ لِأَنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنَّا الْأَغْلَالَ وَالْآصَارَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ، وَبَعَثَ نَبِيَّنَا بِالْحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ. فَأَمَّا الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا] [[زيادة من ر، أ، وفي هـ: "الآية".]] ﴾ فَقَدْ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ وَجَمَاعَةٌ مِنَ السَّلَفِ: هَذَا جَزَاؤُهُ إِنْ جَازَاهُ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ مَرْفُوعًا، مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَامِعٍ الْعَطَّارِ، عَنِ الْعَلَاءِ بْنِ مَيْمُونٍ الْعَنْبَرِيِّ، عَنْ حَجَّاجٍ الْأَسْوَدِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ [[ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٣٣١٠) "مجمع البحرين" مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ جَامِعٍ الْعَطَّارِ عَنِ العلاء بن ميمون به، وفي إسناده العلاء بن ميمون، ومحمد بن جامع العطار وهما ضعيفان.]] وَمَعْنَى هَذِهِ الصِّيغَةِ: أَنَّ هَذَا جَزَاؤُهُ إِنْ جُوزِيَ عَلَيْهِ، وَكَذَا كُلُّ وَعِيدٍ عَلَى ذَنْبٍ، لَكِنْ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ مُعَارض مِنْ أَعْمَالٍ صَالِحَةٍ تَمْنَعُ وُصُولَ ذَلِكَ الْجَزَاءِ إِلَيْهِ، عَلَى قَوْلَيْ أَصْحَابِ الْمُوَازَنَةِ أَوِ الْإِحْبَاطِ. وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُسْلَكُ فِي بَابِ الْوَعِيدِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ. وَبِتَقْدِيرِ دُخُولِ الْقَاتِلِ إِلَى النَّارِ، أَمَّا عَلَى قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّهُ لَا تَوْبَةَ لَهُ، أَوْ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ حَيْثُ لَا عَمَلَ لَهُ صَالِحًا [[في ر: "صالح".]] يَنْجُو بِهِ، فَلَيْسَ يَخْلُدُ فِيهَا أَبَدًا، بَلِ الْخُلُودُ هُوَ الْمُكْثُ الطَّوِيلُ. وَقَدْ تَوَارَدَتِ [[في أ: "وفيه تواترات".]] الْأَحَادِيثُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ: أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ أَدْنَى ذَرَّةٍ [[في ر، أ: "مثقال".]] مِنْ إِيمَانٍ. وَأَمَّا حَدِيثُ مُعَاوِيَةَ: "كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللَّهُ أن يغفره إلا الرجل يموت كافرا، أو الرَّجُلُ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا": "عَسَى" لِلتَّرَجِّي، فَإِذَا انْتَفَى التَّرَجِّي فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ لَا يَنْتَفَى وُقُوعُ ذَلِكَ فِي أَحَدِهِمَا، وَهُوَ الْقَتْلُ؛ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْأَدِلَّةِ. وَأَمَّا مَنْ مَاتَ كَافِرًا؛ فَالنَّصُّ أَنَّهُ لَا يُغْفَرُ لَهُ الْبَتَّةَ، وَأَمَّا مُطَالَبَةُ الْمَقْتُولِ الْقَاتِلَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَهِيَ لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، ولا فرق بين المقتول والمسروق منه، والمغضوب مِنْهُ وَالْمَقْذُوفِ وَسَائِرِ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، فَإِنَّ الْإِجْمَاعَ مُنْعَقِدٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ أَدَائِهَا إِلَيْهِمْ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ، فَإِنَّ تَعَذَّرَ ذَلِكَ فَلَا بُدَّ مِنَ الطِّلَابَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُقُوعِ الطِّلَابَةِ وُقُوعُ الْمُجَازَاةِ، وَقَدْ [[في ر: "إذ قد".]] يَكُونُ لِلْقَاتِلِ أَعْمَالٌ صَالِحَةٌ تُصْرَفُ إِلَى الْمَقْتُولِ أَوْ بَعْضُهَا، ثُمَّ يَفْضُلُ لَهُ أَجْرٌ يَدْخُلُ بِهِ [[في ر: "بها".]] الْجَنَّةَ، أَوْ يعوض الله المقتول من فضله بمايشاء، مِنْ قُصُورِ الْجَنَّةِ وَنَعِيمِهَا، وَرَفْعِ دَرَجَتِهِ فِيهَا وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ لِلْقَتْلِ الْعَمْدِ أَحْكَامٌ فِي الدُّنْيَا وَأَحْكَامٌ فِي الْآخِرَةِ [[في ر: "الأخرى".]] أَمَّا [فِي] [[زيادة من ر، أ.]] الدُّنْيَا فَتَسَلُّطُ [[في أ: "فيسلط".]] أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ عَلَيْهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا [فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا] [[زيادة من ك، أ. وفي هـ: "الآية".]] ﴾ [الْإِسْرَاءِ: ٣٣] ثُمَّ هُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلُوا، أَوْ يَعْفُوا، أَوْ يَأْخُذُوا دِيَةً مُغَلَّظَةً أَثْلَاثًا: ثَلَاثُونَ حِقَّة، وَثَلَاثُونَ جَذْعَة، وَأَرْبَعُونَ خَلِفَه [[في ر: "حقه"، وفي أ: "بياض".]] كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ [[في ر: "مقدر".]] فِي كُتُبِ الْأَحْكَامِ. وَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ: هَلْ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ عِتْقُ رَقَبَةٍ، أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أَوْ إِطْعَامٌ؟ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَفَّارَةِ الْخَطَأِ، عَلَى قَوْلَيْنِ: فَالشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ: نَعَمْ، يَجِبُ [[في ر، أ: "تجب".]] عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا وَجَبَتِ الْكَفَّارَةُ فِي الْخَطَأِ فَلَأَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ أَوْلَى. وَطَرَدُوا هَذَا فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ الغَمُوس، وَاعْتَضْدُوا بِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ الْمَتْرُوكَةِ عَمْدًا، كَمَا أَجْمَعُوا عَلَى ذَلِكَ فِي الْخَطَأِ. قَالَ أَصْحَابُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَآخَرُونَ: قَتْلُ الْعَمْدِ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُكَفَّرَ، فَلَا كَفَّارَةَ فِيهِ، وَكَذَا الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَلَا سَبِيلَ لَهُمْ إِلَى الْفَرْقِ بَيْنَ هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ وَبَيْنَ الصَّلَاةِ الْمَتْرُوكَةِ عَمْدًا، فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: بِوُجُوبِ قَضَائِهَا وَإِنْ تُرِكَتْ عَمْدًا. وَقَدِ احْتَجَّ مَنْ ذَهَبَ إِلَى وُجُوبِ الْكَفَّارَةِ فِي قَتْلِ الْعَمْدِ بِمَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ حَيْثُ قَالَ: حَدَّثَنَا عَارِمُ بْنُ الْفَضْلِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُبَارَكِ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَة، عَنِ الغَرِيف بْنِ عَيَّاشٍ، عَنْ وَاثِلَةَ بْنِ الْأَسْقَعِ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ ﷺ نَفَرٌ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ فَقَالُوا: إِنَّ صَاحِبًا لَنَا قَدْ أَوْجَبَ. قَالَ: "فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً، يَفْدِي اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهَا عضوا [[في ر: "عضو".]] منه من النار" [[المسند (٤/١٠٧) .]] . وَقَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ، حَدَّثَنَا ضَمْرَة بْنُ رَبِيعَةَ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ عَنِ الغَريف الدَّيْلَمِيِّ قَالَ: أَتَيْنَا وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ اللَّيْثِيَّ فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا حَدِيثًا سمعتَه مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ، فَقَالَ: "أَعْتِقُوا عَنْهُ، يُعْتق اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا [[في ر: "عضو".]] مِنْهُ مِنَ النَّارِ". وَكَذَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ، مِنْ حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي عَبْلَةَ، بِهِ [[المسند (٣/٤٩١) وسنن أبي داود برقم (٣٩٦٤) وسنن النسائي الكبرى برقم (٤٨٩٢) .]] وَلَفْظُ أَبِي دَاوُدَ عَنِ الْغَرِيفِ الدَّيْلَمِيِّ [[في ر: "ابن الديلمي".]] قَالَ: أَتَيْنَا وَاثِلَةَ بْنَ الْأَسْقَعِ فَقُلْنَا: حَدِّثْنَا حَدِيثًا لَيْسَ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ. فَغَضِبَ فَقَالَ: إِنْ أَحَدَكُمْ لَيَقْرَأُ وَمُصْحَفُهُ مُعَلَّقٌ فِي بَيْتِهِ فَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، قُلْنَا: إِنَّا أَرَدْنَا حَدِيثًا سَمِعْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فِي صَاحِبٍ لَنَا قَدْ أَوْجَبَ -يَعْنِي النَّارَ-بِالْقَتْلِ، فَقَالَ: "أَعْتِقُوا عَنْهُ، يُعْتِقُ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنَ النَّارِ" [[سنن أبي داود برقم (٣٩٦٤) .]] . [قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ] [[زيادة من ر.]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب