يَقُولُ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ:﴾ الدَّالَّةِ عَلَى عَظَمَتِهِ وَقُدْرَتِهِ الْعَظِيمَةِ وَسُلْطَانِهِ الْقَاهِرِ ﴿خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا﴾ أَيْ: ذَرَأَ فِيهِمَا، أَيْ: فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ﴿مِنْ دَابَّةٍ﴾ وَهَذَا يَشْمَلُ الْمَلَائِكَةَ وَالْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَسَائِرَ الْحَيَوَانَاتِ، عَلَى اخْتِلَافِ أَشْكَالِهِمْ وَأَلْوَانِهِمْ وَلُغَاتِهِمْ، وَطِبَاعِهِمْ وَأَجْنَاسِهِمْ، وَأَنْوَاعِهِمْ، وَقَدْ فَرَّقَهُمْ فِي أَرْجَاءِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ، ﴿وَهُوَ﴾ مَعَ هَذَا كُلِّهِ ﴿عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ﴾ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَجْمَعُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ وَسَائِرَ الْخَلَائِقِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، فَيَحْكُمُ فِيهِمْ بِحُكْمِهِ الْعَدْلِ الْحَقِّ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ أَيْ: مَهْمَا أَصَابَكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ مِنَ الْمَصَائِبِ فَإِنَّمَا هُوَ [[في ت، أ: "هي".]] عَنْ سَيِّئَاتٍ تَقَدَّمَتْ لَكُمْ ﴿وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ أَيْ: مِنَ السَّيِّئَاتِ، فَلَا يُجَازِيكُمْ عَلَيْهَا بَلْ يَعْفُو عَنْهَا، ﴿وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ﴾ [فَاطِرٍ: ٤٥] وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: "وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَب وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزَن، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ، حَتَّى الشَّوْكَةِ [[في ت، أ: "بالشوكة".]] يُشَاكُهَا" [[صحيح البخاري برقم (٥٦٤١، ٥٦٤٢) وصحيح مسلم برقم (٢٥٧٣) "من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما".]] .
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا ابْنُ عُليَّة، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ: قَرَأْتُ فِي كِتَابِ أَبِي قِلابَةَ قَالَ: نَزَلَتْ: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ﴾ [الزَّلْزَلَةِ:٧، ٨] وَأَبُو بَكْرٍ يَأْكُلُ، فَأَمْسَكَ وَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي لَرَاءٍ مَا عَمِلْتُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ؟ فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ مَا رَأَيْتَ مِمَّا تَكْرَهُ، فَهُوَ مِنْ مَثَاقِيلِ ذَرّ الشَّرِّ، وَتُدَّخَرُ مَثَاقِيلُ الْخَيْرِ حَتَّى تُعْطَاهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ: قَالَ أَبُو إِدْرِيسَ: فَإِنِّي أَرَى مِصْدَاقَهَا فِي كِتَابِ اللَّهِ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ [[تفسير الطبري (٢٥/٢٠) .]] .
ثُمَّ رَوَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، عَنْ أَبِي قِلابَةَ، عن أنس [[تفسير الطبري (٢٥/٢١) .]] ، قال: والأول أصح.
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى بْنِ الطَّبَّاعِ، حَدَّثَنَا مَرْوَانُ بْنُ مُعَاوِيَةَ الفَزَاري، حَدَّثَنَا الْأَزْهَرُ بْنُ رَاشِدٍ الْكَاهِلِيُّ، عَنِ الخَضْر بْنِ القَوَّاس الْبَجْلِيِّ، عَنْ أَبِي سُخَيْلَةَ [[في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".]] عَنْ عَلِيٍّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلِ آيَةٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَحَدَّثَنَا بِهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ . وَسَأُفَسِّرُهَا لَكَ يَا عَلِيُّ: "مَا أَصَابَكُمْ مِنْ مَرَضٍ أَوْ عُقُوبَةٍ أَوْ بَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا، فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [[في أ: "أيديكم ويعفو عن كثير".]] وَاللَّهُ تَعَالَى أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّى عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ فِي الْآخِرَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ [[في ت: "والله".]] تَعَالَى أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ بَعْدَ عَفْوِهِ"
وَكَذَا رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ، عَنْ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ وعَبْدة، عَنْ أَبِي سُخَيلة قَالَ: قَالَ عَلِيٌّ ... فَذَكَرَ نَحْوَهُ مَرْفُوعًا [[المسند (١/٨٥) .]] .
ثُمَّ رَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ [نَحْوَهُ] [[زيادة من أ.]] مِنْ وَجْهٍ آخَرَ مَوْقُوفًا فَقَالَ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا مَنْصُورُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، حَدَّثَنَا أَبُو سَعِيدِ بْنُ أَبِي الْوَضَّاحِ، عَنْ أَبِي الْحَسَنِ، عَنْ أَبِي جُحَيفَة قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ بِحَدِيثٍ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يَعيَه [[في أ: "يصيبه".]] ؟ قَالَ: فَسَأَلْنَاهُ فَتَلَا [[في ت: "قبل".]] هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ قَالَ: مَا عَاقَبَ اللَّهُ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَحْلَمُ مِنْ أَنْ يُثَنِّي عَلَيْهِ الْعُقُوبَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَا عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِي عَفْوِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَقَالَ [[في ت: "وروى".]] الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَعْلَى بْنُ عُبَيْدٍ، حَدَّثَنَا طَلْحَةُ -يَعْنِي ابْنَ يَحْيَى-عَنْ أَبِي بُرْدَةَ، عَنْ مُعَاوِيَةَ-هُوَ ابْنُ أَبِي سُفْيَانَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ فِي جَسَدِهِ يُؤْذِيهِ إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ" [[المسند (٤/٩٨) قال الهيثمي في المجمع (٣/٣٠١) : "رجال أحمد رجال الصحيح".]] .
وَقَالَ أَحْمَدُ أَيْضًا: حَدَّثَنَا حُسَيْنٌ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ لَيْثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ [[في ت، م: "عن مجاهد، وروى أيضا".]] ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِذَا كَثُرَتْ ذُنُوبُ الْعَبْدِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ مَا يُكَفِّرُهَا، ابْتَلَاهُ اللَّهُ بالحَزَنِ لِيُكَفِّرَهَا" [[المسند (٦/١٥٧) .]] .
وَقَالَ [[في ت: "وروى".]] ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَوْدِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ مُسْلِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ -هُوَ الْبَصْرِيُّ-قَالَ فِي قَوْلِهِ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا مِنْ خَدْش عُودٍ، وَلَا اخْتِلَاجِ عِرْقٍ، وَلَا عَثْرة قَدَمٍ، إِلَّا بِذَنْبٍ وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ" [[ورواه هناد بن السري في الزهد برقم (٤٣١) من طريق إسماعيل بن مسلم به مرسلا.]] .
وَقَالَ [[في ت: "وروى".]] أَيْضًا: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ عَلِيٍّ، حَدَّثَنَا هُشَيمْ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنِ الحسن، عن عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْضُ أَصْحَابِهِ وَقَدْ كَانَ ابْتُلِيَ فِي جَسَدِهِ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ إِنَّا لَنَبْتَئِسُ لَكَ لِمَا نَرَى فِيكَ. قَالَ: فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا تَرَى، فَإِنَّ مَا تَرَى بِذَنْبٍ، وَمَا يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ أَكْثَرُ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾
[قَالَ:] [[زيادة من ت، أ.]] وَحَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الحمَّاني، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ عَنْ أَبِي الْبِلَادِ [[في أ: "أبي العلا".]] قَالَ: قُلْتُ لِلْعَلَاءِ بْنِ بَدْرٍ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ﴾ ، وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرِي وَأَنَا غُلَامٌ؟ قَالَ: فَبِذُنُوبِ وَالِدَيْكَ.
وَحَدَّثَنَا أَبِي: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّنَافسي، حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ عَبْدِ العزيز بن أبي راود، عَنِ الضَّحَّاكِ [[في ت: "وروى أيضا عن الضحاك".]] قَالَ: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا حَفِظَ الْقُرْآنَ ثُمَّ نَسِيَهُ [[في أ: "سيبه".]] إِلَّا بِذَنْبٍ، ثُمَّ قَرَأَ الضَّحَّاكُ: ﴿وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ﴾ . ثُمَّ يَقُولُ الضَّحَّاكُ: وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن.
{"ayahs_start":29,"ayahs":["وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِیهِمَا مِن دَاۤبَّةࣲۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا یَشَاۤءُ قَدِیرࣱ","وَمَاۤ أَصَـٰبَكُم مِّن مُّصِیبَةࣲ فَبِمَا كَسَبَتۡ أَیۡدِیكُمۡ وَیَعۡفُوا۟ عَن كَثِیرࣲ","وَمَاۤ أَنتُم بِمُعۡجِزِینَ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِیࣲّ وَلَا نَصِیرࣲ"],"ayah":"وَمِنۡ ءَایَـٰتِهِۦ خَلۡقُ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَثَّ فِیهِمَا مِن دَاۤبَّةࣲۚ وَهُوَ عَلَىٰ جَمۡعِهِمۡ إِذَا یَشَاۤءُ قَدِیرࣱ"}