يَقُولُ تَعَالَى مُحَقِّرًا بِشَأْنِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتِهَا، وَمَا فِيهَا مِنَ الزَّهْرَةِ وَالنَّعِيمِ الْفَانِي، بِقَوْلِهِ: ﴿فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾ أَيْ: مَهْمَا حَصَلْتُمْ وَجَمَعْتُمْ فَلَا تَغْتَرُّوا بِهِ، فَإِنَّمَا هُوَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَهِيَ دَارٌ دَنِيئَةٌ فَانِيَةٌ زَائِلَةٌ لَا مَحَالَةَ، ﴿وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾ أَيْ: وَثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، وَهُوَ بَاقٍ سَرْمَدِيٌّ، فَلَا تُقَدِّمُوا الْفَانِيَ عَلَى الْبَاقِي؛ وَلِهَذَا قَالَ: ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ أَيْ: لِلَّذِينَ صَبَرُوا عَلَى تَرْكِ الْمَلَاذِّ فِي الدُّنْيَا، ﴿وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ أَيْ: لِيُعِينَهُمْ عَلَى الصَّبْرِ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبَاتِ وَتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ.
ثُمَّ قَالَ: ﴿وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ﴾ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ فِي "سُورَةِ الْأَعْرَافِ" ﴿وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ﴾ أَيْ: سَجِيَّتُهُمْ [وَخَلْقُهُمْ وَطَبْعُهُمْ] [[زيادة من أ.]] تَقْتَضِي الصَّفْحَ وَالْعَفْوَ عَنِ النَّاسِ، لَيْسَ سَجِيَّتُهُمُ الِانْتِقَامَ مِنَ النَّاسِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ قَطُّ، إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرُمَاتُ اللَّهِ [[رواه البخاري في صحيحه برقم (٦١٢٦) من حديث عائشة بلفظ: "وما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه في شيء قط، إلا أن تنتهك حرمة الله، فينتقم بها الله".]] وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "كَانَ يَقُولُ لِأَحَدِنَا [[في أ: "للرجل".]] عِنْدَ الْمَعْتَبَةِ: مَا لَهُ؟ تَرِبَتْ جَبِينُهُ" [[رواه البخاري في صحيحه برقم (٦٠٣١) مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.]] .
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ زَائِدَةَ، عَنْ مَنْصُورٍ [[في ت: "وروى ابن أبي حاتم بسنده".]] ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: كَانَ الْمُؤْمِنُونَ يَكْرَهُونَ أَنْ يَسْتَذِلُّوا، وكانوا إذا قدروا عفوا.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ﴾ أَيِ: اتَّبَعُوا رُسُلَهُ وَأَطَاعُوا أَمْرَهُ، وَاجْتَنَبُوا زَجْرَهُ، ﴿وَأَقَامُوا الصَّلاةَ﴾ وَهِيَ أَعْظَمُ الْعِبَادَاتِ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ أَيْ: لَا يُبْرِمُونَ أَمْرًا حَتَّى يَتَشَاوَرُوا [[في أ: "يشاورون".]] فِيهِ، لِيَتَسَاعَدُوا بِآرَائِهِمْ فِي مِثْلِ الْحُرُوبِ وَمَا جَرَى مَجْرَاهَا، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ [آلِ عمران: ١٥٩] ولهذا كان عليه [الصلاة] [[زيادة من ت.]] السلام، يُشَاوِرُهُمْ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا، لِيُطَيِّبَ بِذَلِكَ قُلُوبَهُمْ. وَهَكَذَا لَمَّا حَضَرَتْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ] [[زيادة من ت.]] الْوَفَاةُ حِينَ طُعِنَ، جَعَلَ الْأَمْرَ بَعْدَهُ شُورَى فِي سِتَّةِ نَفَرٍ، وَهُمْ: عُثْمَانُ، وَعَلِيٌّ، وَطَلْحَةُ، وَالزُّبَيْرُ، وَسَعْدٌ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، فَاجْتَمَعَ رَأْيُ الصَّحَابَةِ كُلِّهِمْ عَلَى تَقْدِيمِ عُثْمَانَ عَلَيْهِمْ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ﴿وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ﴾ وَذَلِكَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى خَلْقِ اللَّهِ، الْأَقْرَبِ إِلَيْهِمْ مِنْهُمْ فَالْأَقْرَبِ.
* * *
وَقَوْلُهُ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ أَيْ: فِيهِمْ قُوَّةُ الِانْتِصَارِ مِمَّنْ ظَلَمَهُمْ وَاعْتَدَى عَلَيْهِمْ، لَيْسُوا بِعَاجِزِينَ وَلَا أَذِلَّةٍ، بَلْ يَقْدِرُونَ عَلَى الِانْتِقَامِ مِمَّنْ بَغَى عَلَيْهِمْ، وَإِنْ كَانُوا مع هذا إذا قدروا وعفوا، كَمَا قَالَ يُوسُفُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِإِخْوَتِهِ: ﴿لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ [وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] [[زيادة من أ.]] ﴾ [يُوسُفَ:٩٢] ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مُؤَاخَذَتِهِمْ وَمُقَابَلَتِهِمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ إِلَيْهِ، وَكَمَا عَفَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ أُولَئِكَ النَّفَرِ الثَّمَانِينَ الَّذِينَ قَصَدُوهُ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَنَزَلُوا مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ، فَلَمَّا قَدَرَ عَلَيْهِمْ مَنَّ عَلَيْهِمْ [[في ت، م، أ: "عنهم".]] مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الِانْتِقَامِ، وَكَذَلِكَ عَفْوُهُ عَنْ غَوْرَث بْنِ الْحَارِثِ، الَّذِي أَرَادَ الْفَتْكَ بِهِ [عَلَيْهِ السَّلَامُ] [[زيادة من ت.]] حِينَ اخْتَرَطَ سَيْفَهُ وَهُوَ نَائِمٌ، فَاسْتَيْقَظَ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتا، فَانْتَهَرَهُ فَوَضَعَهُ مِنْ يَدِهِ، وَأَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ السَّيْفَ مِنْ يَدِهِ، وَدَعَا أَصْحَابَهُ، ثُمَّ أَعْلَمَهُمْ بِمَا كَانَ مِنْ أَمْرِهِ وَأَمْرِ هَذَا الرَّجُلِ، وَعَفَا عَنْهُ. وَكَذَلِكَ عَفَا عَنْ لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ [[في ت: "أعصم".]] ، الَّذِي سَحَرَهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَعْرِضْ لَهُ، وَلَا عَاتَبَهُ، مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ عَفْوُهُ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، عَنِ الْمَرْأَةِ الْيَهُودِيَّةِ -وَهِيَ زَيْنَبُ أُخْتُ [[في ت، م: "بنت".]] مَرْحَبٍ الْيَهُودِيِّ الْخَيْبَرِيِّ الَّذِي قَتَلَهُ مَحْمُودُ بْنُ مَسْلَمَةَ-الَّتِي سَمَّتِ الذِّرَاعَ يَوْمَ خَيْبَرَ، فَأَخْبَرَهُ الذِّرَاعُ بِذَلِكَ، فَدَعَاهَا فَاعْتَرَفَتْ فَقَالَ: "مَا حَمَلَكِ عَلَى ذَلِكَ" قَالَتْ: أَرَدْتُ إِنْ كُنْتَ نَبِيًّا لَمْ يَضُرَّكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نَبِيًّا اسْتَرَحْنَا مِنْكَ، فَأَطْلَقَهَا، عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَلَكِنْ لَمَّا مَاتَ مِنْهُ بِشْرُ بْنُ الْبَرَاءِ قَتَلَهَا بِهِ، وَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ [[في أ: "ولله الحمد والمنة".]] .
{"ayahs_start":36,"ayahs":["فَمَاۤ أُوتِیتُم مِّن شَیۡءࣲ فَمَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۚ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ وَأَبۡقَىٰ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ یَتَوَكَّلُونَ","وَٱلَّذِینَ یَجۡتَنِبُونَ كَبَـٰۤىِٕرَ ٱلۡإِثۡمِ وَٱلۡفَوَ ٰحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا۟ هُمۡ یَغۡفِرُونَ","وَٱلَّذِینَ ٱسۡتَجَابُوا۟ لِرَبِّهِمۡ وَأَقَامُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمۡرُهُمۡ شُورَىٰ بَیۡنَهُمۡ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ","وَٱلَّذِینَ إِذَاۤ أَصَابَهُمُ ٱلۡبَغۡیُ هُمۡ یَنتَصِرُونَ"],"ayah":"فَمَاۤ أُوتِیتُم مِّن شَیۡءࣲ فَمَتَـٰعُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَاۚ وَمَا عِندَ ٱللَّهِ خَیۡرࣱ وَأَبۡقَىٰ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ یَتَوَكَّلُونَ"}