الباحث القرآني

يَقُولُ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ فِرْعَوْنَ وَتَمَرُّدِهِ وَعُتُوِّهِ وَكُفْرِهِ وَعِنَادِهِ: أَنَّهُ جَمَعَ قَوْمَهُ، فَنَادَى فِيهِمْ مُتَبَجِّحًا مُفْتَخِرًا بِمُلْكِ مِصْرَ وَتَصَرُّفِهِ فِيهَا: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي﴾ ، قَالَ قَتَادَةُ قَدْ كَانَتْ لَهُمْ جِنَانٌ وَأَنْهَارُ مَاءٍ، ﴿أَفَلا تُبْصِرُونَ﴾ ؟ أَيْ: أَفَلَا تَرَوْنَ مَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْعَظْمَةِ وَالْمُلْكِ، يَعْنِي: وَمُوسَى وَأَتْبَاعُهُ [[في أ: "ومن معه".]] فُقَرَاءُ ضُعَفَاءُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿فَحَشَرَ فَنَادَى. فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأعْلَى. فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأولَى﴾ [النَّازِعَاتِ: ٢٣ -٢٥] . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ﴾ قَالَ السُّدِّيُّ: يَقُولُ: بَلْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ. وَهَكَذَا قَالَ بَعْضُ نُحَاةِ الْبَصْرَةِ: إِنَّ "أَمْ" هَاهُنَا بِمَعْنَى "بَلْ". وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا حَكَاهُ الْفَرَّاءُ عَنْ بَعْضِ الْقُرَّاءِ أَنَّهُ قَرَأَهَا: "أَمَا أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ". قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَلَوْ صَحَّتْ هَذِهِ الْقِرَاءَةُ لَكَانَ مَعْنَاهَا صَحِيحًا وَاضِحًا، وَلَكِنَّهَا خِلَافُ قِرَاءَةِ الْأَمْصَارِ، فَإِنَّهُمْ قرؤوا: ﴿أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ﴾ ؟ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ. قُلْتُ: وَعَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ فَإِنَّمَا يَعْنِي فِرْعَوْنُ -عَلَيْهِ اللَّعْنَةُ [[في ت، م، أ: "لعنة الله".]] -أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَقَدْ كَذَبَ فِي قَوْلِهِ هَذَا كَذِبًا بَيِّنًا وَاضِحًا، فَعَلَيْهِ لِعَائِنُ اللَّهِ الْمُتَتَابِعَةُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ: ﴿مَهِينٌ﴾ كَمَا قَالَ سُفْيَانُ: حَقِيرٌ. وَقَالَ قَتَادَةُ والسدي: يعني: ضعيف. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي: لَا مُلْكَ لَهُ وَلَا سُلْطَانَ وَلَا مَالَ. ﴿وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾ يَعْنِي: لَا يَكَادُ يُفْصِحُ عَنْ كَلَامِهِ [[في ت: "بكلامه".]] ، فَهُوَ عَيِيٌّ حَصِرٌ. [[في ت، أ: "حصير".]] قَالَ السُّدِّيُّ: ﴿وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾ أَيْ: لَا يَكَادُ يُفْهِمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ: يَعْنِي عَيِيَّ اللِّسَانِ. وَقَالَ سُفْيَانُ: يَعْنِي فِي لِسَانِهِ شَيْءٌ مِنَ الْجَمْرَةِ حِينَ [[في ت: "التي".]] وَضَعَهَا فِي فِيهِ وَهُوَ صَغِيرٌ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ فِرْعَوْنُ -لَعَنَهُ اللَّهُ-كَذِبٌ وَاخْتِلَاقٌ، وَإِنَّمَا حَمَلَهُ عَلَى هَذَا الْكُفْرُ وَالْعِنَادُ، وَهُوَ يَنْظُرُ إِلَى مُوسَى، عَلَيْهِ السَّلَامُ، بِعَيْنٍ كَافِرَةٍ شَقِيَّةٍ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى [[في ت: "الموسى".]] ، عَلَيْهِ السَّلَامُ، مِنَ الْجَلَالَةِ وَالْعَظَمَةِ وَالْبَهَاءِ فِي صُورَةٍ يُبْهِرُ [[في ت، م: "تبهر".]] أَبْصَارَ ذَوِي [الْأَبْصَارِ وَ] [[زيادة من ت.]] الْأَلْبَابِ. وَقَوْلُهُ: ﴿مَهِينٌ﴾ كَذِبٌ، بَلْ هُوَ الْمَهِينُ الْحَقِيرُ خِلْقةً وَخُلُقًا وَدِينًا. وَمُوسَى [عَلَيْهِ السَّلَامُ] [[زيادة من ت، م.]] هُوَ الشَّرِيفُ الرَّئِيسُ الصَّادِقُ الْبَارُّ الرَّاشِدُ [[في ت: "الرشيد".]] . وَقَوْلُهُ: ﴿وَلا يَكَادُ يُبِينُ﴾ افْتِرَاءٌ أَيْضًا، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ قَدْ أَصَابَ لِسَانَهُ فِي حَالِ صِغَرِهِ شَيْءٌ مِنْ جِهَةِ تِلْكَ الْجَمْرَةِ، فَقَدْ سَأَلَ اللَّهَ، عَزَّ وَجَلَّ، أَنْ يَحُلَّ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِهِ لِيَفْقَهُوا قَوْلَهُ، وَقَدِ اسْتَجَابَ اللَّهُ [[في ت: "استجاب الله دعاءه له".]] لَهُ فِي [ذَلِكَ فِي] [[زيادة من ت، م.]] قَوْلِهِ: ﴿قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى﴾ [طه: ٢٦] ، وَبِتَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ بَقِيَ شَيْءٌ لَمْ يَسْأَلْ إِزَالَتَهُ، كَمَا قَالَهُ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَإِنَّمَا سَأَلَ زَوَالَ مَا يَحْصُلُ مَعَهُ الْإِبْلَاغُ وَالْإِفْهَامُ، فَالْأَشْيَاءُ الْخِلْقِيَّةِ [[في ت: "الخلقية"، وفي م: "الخلقة".]] الَّتِي لَيْسَتْ مِنْ فِعْلِ الْعَبْدِ لَا يُعَابُ بِهَا وَلَا يُذَمُّ عَلَيْهَا، وَفِرْعَوْنُ وَإِنْ كَانَ يَفْهَمُ وَلَهُ عَقْلٌ فَهُوَ يَدْرِي هَذَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ التَّرْوِيجَ عَلَى رَعِيَّتِهِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا جَهَلَةً أَغْبِيَاءَ، وَهَكَذَا كَقَوْلِهِ: ﴿فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسَاوِرَةٌ [[في أ: "أسورة".]] مِنْ ذَهَبٍ﴾ أَيْ: وَهِيَ مَا يُجْعَلُ فِي الْأَيْدِي مِنَ الْحُلِيِّ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، ﴿أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾ أَيْ: يَكْتَنِفُونَهُ خِدْمَةً لَهُ وَيَشْهَدُونَ بِتَصْدِيقِهِ، نَظَرَ [[في ت، أ: "نظرا".]] إِلَى الشَّكْلِ الظَّاهِرِ، وَلَمْ يَفْهَمِ السِّرَّ الْمَعْنَوِيَّ الَّذِي هُوَ أَظْهَرُ مِمَّا نَظَرَ إِلَيْهِ، لَوْ كَانَ يَعْلَمُ؛ وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ﴾ أَيِ: اسْتَخَفَّ عُقُولَهُمْ، فَدَعَاهُمْ إِلَى الضَّلَالَةِ فَاسْتَجَابُوا لَهُ، ﴿إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ﴾ . قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ ، قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: ﴿آسَفُونَا﴾ أَسْخَطُونَا. وَقَالَ الضَّحَّاكُ، عَنْهُ: أَغْضَبُونَا. وَهَكَذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا، وَمُجَاهِدٌ، وَعِكْرِمَةُ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالسُّدِّيُّ، وَغَيْرُهُمْ [[في ت: "غير واحد".]] مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدِ اللَّهِ [[في أ: "عبد الله".]] ابْنِ أَخِي ابْنِ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمِّي، حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ مُسْلِمٍ التُّجِيبِيِّ [[في ت: "وروى ابن أبي حاتم بإسناده".]] عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِذَا رَأَيْتَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُعْطِي الْعَبْدَ مَا شَاءَ، وَهُوَ مُقِيمٌ عَلَى مَعَاصِيهِ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنْهُ لَهُ" ثُمَّ تَلَا ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ [[ورواه الطبراني في المعجم الأوسط برقم (٤٩٢٦) "مجمع البحرين"، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (٤٥٤٠) من طريق عبد الله ابن صالح عن حرملة بن عمران به، ورواه أحمد في مسنده (٤/١٤٥) عن رشدين بن سعد، والدولابي في الكنى (١/١١١) عن حجاج بن سليمان كلاهما عن حرملة بن عمران به، وقد حسنه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء.]] . وَحَدَّثَنَا أَبِي، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ الحِمَّاني، حَدَّثَنَا قَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ قَيْسِ بْنِ مُسْلِمٍ [[في ت: "وروى أيضا".]] ، عَنْ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ فَذُكِرَ عِنْدَهُ مَوْتُ الْفَجْأَةِ، فَقَالَ: تَخْفِيفٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ، وَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِ. ثُمَّ قَرَأَ: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ﴾ . وَقَالَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: وَجَدْتُ النِّقْمَةَ مَعَ الْغَفْلَةِ، يَعْنِي قَوْلَهُ: ﴿فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ . * * * وَقَوْلُهُ: ﴿فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلا لِلآخِرِينَ﴾ : قَالَ أَبُو مِجْلَزٍ: ﴿سَلَفًا﴾ لِمِثْلِ مَنْ عمل بعملهم. وَقَالَ هُوَ وَمُجَاهِدٌ: ﴿وَمَثَلًا﴾ أَيْ: عِبْرَةً لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب